الخطاب الجديد لدواعش ليبيا: هيا بنا إلى «مثلث كولومبيا»

يسيطر عليه تجار مخدرات ومتطرفون.. ويقع على حدود الجزائر والنيجر

مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})
مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})
TT

الخطاب الجديد لدواعش ليبيا: هيا بنا إلى «مثلث كولومبيا»

مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})
مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})

بدأت قيادات تنظيم داعش المتطرف في ليبيا التفكير للمرة الأولى في الانتقال إلى المنطقة المعروفة بين مهربي المخدرات والمتطرفين في جنوب غربي البلاد باسم «مثلث كولومبيا»، حين توصل المبعوث الدولي السابق برناردينو ليون، قبل 50 يوما، إلى تشكيل حكومة وفاق وطني في ليبيا التي تضربها الفوضى، وذلك برئاسة فايز السراج، الذي تربطه علاقة قرابة بقيادي له كلمة على قسم مهم من الكتائب والميليشيات الموجودة في كل من طرابلس ومصراتة في شمال غربي البلاد.
لكن العملية توقفت مع توقف محاولات ليون لتنصيب السراج كرئيس لحكومة توافق وطني. إذ أدى ذلك التطور إلى تبديد مخاوف الدواعش من وجود سلطة قوية مدعومة دوليا، خاصة في أوساط الدواعش الذين يتمركزون في مدينة سرت المجاورة لأكبر مخزون نفطي في البلاد، والمقر المفضل للرئيس السابق معمر القذافي.
التحرك المفاجئ والسريع للمبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، مارتن كوبلر، ونجاحه في إعلان التوافق بين عدة أطراف ليبية على تنصيب السراج، مساء يوم الخميس الماضي، أعاد خطة الدواعش الليبيين للابتعاد جنوبا، خوفا من التدخل العسكري الدولي، جوا وبرا خاصة في مدن الشمال، مثل درنة وسرت وطرابلس وصبراتة.
وقبل ثلاثة أيام من إشراف كوبلر على توقيع الاتفاق في بلدة الصخيرات المغربية، بين عدد من الخصوم الليبيين، أجرت قوات أميركية قوامها عشرون جنديا، مجهزة بالعتاد الكامل، عملية إنزال في «قاعدة الوطية» العسكرية التي تخضع لسيطرة كتيبة «أبو بكر الصديق» التابعة للجيش الليبي، وذلك على بعد نحو خمسين كيلومترا من مركز «داعش» في صبراتة المجاورة لطرابلس من ناحية الغرب. وتوجد جيوب أخرى لـ«داعش» داخل العاصمة نفسها.
وقامت الكتيبة الليبية بإجبار الجنود الأميركيين على العودة من حيث أتوا. ويقول أحد مساعدي العقيد العتيري العجمي، آمر كتيبة «أبو بكر الصديق»، في اتصال مع «الشرق الأوسط» عبر الهاتف: «أعتقد أن الإنزال الأميركي كان تصرفا متسرعا من جانب الفريق الأمني للسيد كوبلر». ويرأس الفريق الأمني الأممي الخاص بليبيا الجنرال الإيطالي، باولو سيرا، المكلف من الأمم المتحدة بـ«ملف إرساء الأمن والاستقرار وتدريب الشرطة وإعادة تأهيل الجيش»، ومواجهة الدواعش أيضا.
وفي الجانب الآخر من جبهة سرت، كان من الممكن أن تستمع لشهادات لعائدين من المحاور التي يسيطر عليها التنظيم، تعكس مخاوف الدواعش من الأيام المقبلة، وانتشار لغة جديدة بين عناصره تهدف إلى إقناع المقاتلين بالتحرك إلى الجنوب. ويقول أحد العائدين من خط التماس بين مدينتي سرت وإجدابيا إن دروس وخطب الدواعش تهيئ المنتمين إليه بأنه بداية من عام 2016 سيكون هناك تحرك لقوافلها العسكرية إلى الجنوب.. «السبب وراء هذا أيضا زيادة خبرة الجيش الليبي في اقتناص قادة (داعش) هنا»، كما حدث في الأيام الأخيرة.
ويضيف المقدم عبد العزيز التباوي، المسؤول في حراسة المنشآت النفطية الموجودة جنوب شرقي سرت، في اتصال مع «الشرق الأوسط»، إن الخطاب الشائع بين الدواعش في محيط منطقة الهلال النفطي هنا هو: «هيا بنا إلى (مثلث كولومبيا)»، مشيرا إلى أن هذا المثلث يقع على الحدود الليبية مع كل من النيجر والجزائر، ومعروف أنه يخضع، لهيمنة تجار المخدرات والمتطرفين منذ سنوات، ويصعب على القوات النظامية تحقيق نجاح فيه بسبب تضاريسه الجبلية والرملية.. «معروف من أيام القذافي أنه ملجأ للخارجين عن القانون وللمهربين».
وكان المقدم التباوي يعمل في حراسة المنشآت في محيط مدينة سبها في أقصى جنوب البلاد، قبل أن ينتقل إلى حقول النفط في سرت، قبل شهرين، لحمايتها من «داعش». لكنه يقول إن هذا التنظيم الدموي بدأ يخشى من الهجوم عليه من القوات الدولية، في الأيام الأخيرة. ويضيف أنه توجد طائرات من دون طيار (درون) تتحرك في السماء وتراقب المنطقة، ولا يعرف إن كانت تابعة للقوات المسلحة الليبية بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، أم أنها تابعة لدول أخرى تراقب نشاط المتطرفين في البلاد، أو أنها تابعة للأمم المتحدة التي يقول إن لها طائرات تراقب آبار النفط في الصحراء.
ووفقا لضابط سابق في الجيش الليبي، يدعى سليمان الجابري، كان قريبا من المجموعات المتطرفة في الشمال الأوسط من البلاد، فإنه توجد معلومات لدى قيادات «داعش» في ليبيا عن إمكانية اجتياح مواقعهم «بين عشية وضحاها»، في حال تمكنت حكومة السراج من جمع شمل باقي الفرقاء، والعمل من العاصمة طرابلس. ويضيف الجابري أن قوات «داعش» في سرت لا تزيد على ألف عنصر، لكن لديهم أسلحة وسيارات ومعدات حربية، ويصل إليهم مدد من ميناء المدينة الموجود على البحر المتوسط. ثم يقول إن سبب ظهور «داعش» في سرت بشكل قوي ولافت لنظر العالم، في فترة وجيزة، منذ مطلع هذه السنة، هو أن المدينة تعرضت لنزع سلاح أبنائها في أيام الحرب بين قوات القذافي و«ثوار 17 فبراير»، في إشارة للانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف الناتو للإطاحة بالنظام السابق في فبراير (شباط) 2011. وعلى العكس من ذلك تمكن أهالي مدينة درنة، بمساعدة مجموعات مسلحة، من كسر أنياب «داعش» في الأسابيع الماضية.
منذ مقتل القذافي فشل الحكام الجدد في تشكيل سلطة مركزية قوية. وانقسمت البلاد بين جيش وميليشيات وسياسيين يسيطر قسم منهم على الشرق وقسم آخر على الغرب. ومع تزايد هشاشة الحكومة، تمكنت التنظيمات المتطرفة بما فيها «داعش» من التحكم في عدة مدن، وإثارة مخاوف العالم من أن تتحول ليبيا الواقعة على الساحل الجنوبي لأوروبا إلى ملاذ آمن للإرهاب.
وصفق ممثلو عدة دول بحرارة للاتفاق الذي توصل إليه الليبيون في الصخيرات. ولم ينس كوبلر أن يذكِّر بأن مسألة الأمن في ليبيا على رأس أولويات حكومة التوافق. ومن جانبه، تعهد المجتمع الدولي بتقديم الدعم للجيش تحت إمرة السلطة الجديدة. وخرجت تسريبات تقول إن هناك نحو ألف جندي بريطاني جاهزين للمساعدة على فرض الأمن في هذا البلد الذي لم ينعم بالراحة منذ رحيل القذافي. كما أن إيطاليا على استعداد لتوجيه نحو ستة آلاف جندي إلى ليبيا. وستكون الأولوية لهذه القوات هي تدريب العسكريين الليبيين في الجيش والشرطة، واستهداف التنظيم المتطرف.
ويقول أحد شهود العيان ممن فروا من سرت إلى الحدود المصرية منذ يومين، وهو معلم في مدرسة سرت الابتدائية يدعى أحميدة: «الدواعش في سرت عددهم ليس كبيرا، لكن حين يتحركون بسياراتهم يفعلون ذلك بشكل جماعي لإرهاب الناس. هم بضع مئات. وقاموا في الصيف بذبح وسحل العديد من القادة والمحللين والدعاة من أهالي سرت. وحين أعلن ليون عن تشكيل حكومة برئاسة السراج في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بدا لنا أنهم شعروا بالخوف من انتقام السكان، في حال استهداف مراكزهم من الجيش».
وبحسب رواية المُعلم أحميدة، قام الدواعش بمحاولة لتحسين معاملتهم للناس ونظموا مهرجانا ترفيهيا في ساحة المدينة وزعوا خلاله هدايا على الأطفال، بينما كان عدد من العناصر يحرسون المداخل والمخارج بالأسلحة الرشاشة وسيارات الدفع الرباعي المحمل عليها مدافع من عيار 14.5. وفي اليوم التالي قام التنظيم بفتح الباب لتعيين دعاة جدد للمساجد التي يسيطر عليها بمرتبات مغرية، وأدخل تعديلات على نظام المحكمة الشرعية التي يديرها. لكنه يوضح أن التنظيم بدا عليه الارتباك خلال الأسبوعين الأخيرين. المرة الأولى حين تمكنت طائرات الجيش الليبي من قصف مواقع له في المدينة، والمرة الثانية عقب توقع اتفاق الصخيرات الأخير وتسمية رئيس المجلس الرئاسي.
يملك السراج، رئيس المجلس الرئاسي وفي الوقت نفسه رئيس الوزراء، علاقات جيدة مع قيادات مقربة من الجيش في المنطقة الشرقية وأخرى مع بعض الميليشيات الموجودة في العاصمة وفي مصراتة وبعض قيادات «فجر ليبيا»، ممن أبدوا استعدادا للمشاركة في محاربة «داعش»، وفقا لنظام معين لا يتعارض مع بنيان الدولة الجديدة، تمهيدا لضم عناصر تلك الميليشيات للسلطات الأمنية أو منحهم وظائف أخرى. ينتمي السراج، وهو مهندس معماري ونائب في البرلمان عن حي الأندلس في طرابلس، لعائلة ليبية عريقة. وفي حال إظهاره قدرة على لم شمل الليبيين ووضع ترتيبات خاصة بالجيش والميليشيات، فإنه يمكنه بمساعدة المجتمع الدولي أن يحد من خطر «داعش»، ولو بإجباره على الهروب إلى الجنوب بعيدا عن المدن التي سيطر عليها التنظيم في الشمال خلال الشهور الـ18 الماضية.
ومن بين الإغراءات التي تجعل «داعش» يفضل الجنوب، وجود أوكار يمكنه الاختباء فيها. يقول أحد القادة العسكريين إن بلدة تراغن في الجنوب تعد بمثابة المركز لـ«مثلث كولومبيا»، وتحيط بها الجبال والكثبان الرملية من جميع الجهات تقريبا. وأطلق المهربون هذا الاسم على المنطقة، بسبب سهولة تحرك شحنات المخدرات فيها عبر الحدود، بعيدا عن أعين سلطات الدول المجاورة، سواء كانت الجزائر أو النيجر، والانطلاق منها إلى مالي، حيث أصبح المثلث في الأعوام الأخيرة ملاذا آمنا للتنظيمات المتطرفة، بما فيها جماعة «بوكو حرام» النيجيرية الموالية لـ«داعش».
وتوجد في المثلث الخطر قبيلتان ليبيتان كبيرتان لهما امتداد في دول الجوار، هما الطوارق (غربا) والتبو (شرقا)، إلا أن النزاع بينهما والاقتتال الذي يتفجر بين أبنائهما بين حين وآخر، يقللان من فرص التصدي للتنظيمات المتطرفة كما حدث في الشهور الماضية حين بدأت قوافل لكل من القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة، مختار بلمختار، والقيادي المالي في «داعش»، الملقب بـ«الأنصاري»، تتحرك هناك بحرية.
وتنشط في «مثلث كولومبيا» تجارة المعدات العسكرية والأسلحة والصواريخ التي جرى نهبها من مخازن القذافي. ويضيف القائد العسكري أن هذه منطقة جبلية ووعرة، ومقر جديد لتجمع الدواعش من ليبيا وأفريقيا ومن جنسيات مختلفة.. «التنظيم، خاصة في سرت وفي صبراتة، بدأ يعد نفسه للاتجاه جنوبا، خوفا من أي ضربات دولية وخشية من انتفاضة الأهالي الذين قتل الدواعش أبناءهم».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.