مارين لوبان.. رائدة {التخويف} من الإسلام وحلم الإليزيه

ورثت الزعامة عن والدها.. رغم معارضة رفاق الطريق

مارين لوبان.. رائدة {التخويف} من الإسلام وحلم الإليزيه
TT

مارين لوبان.. رائدة {التخويف} من الإسلام وحلم الإليزيه

مارين لوبان.. رائدة {التخويف} من الإسلام وحلم الإليزيه

فشل حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في الفوز بأي منطقة من المناطق القارية الـ13 في فرنسا في الدورة الثانية «والأخيرة» من الانتخابات الإقليمية التي جرت الأحد الماضي رغم أنه احتل المرتبة الأولى في ست منها في الجولة الأولى. وجاءت النتائج مخيبة آمال مارين لوبان، زعيمته، التي حصلت على أكثر من أربعين في المائة في الدورة الأولى في منطقة الشمال، ولابنة شقيقتها ماريون مارشال لوبان، رئيسة لائحة الجبهة في منطقة الشاطئ اللازوردي التي تخطت أيضًا عتبة الأربعين في المائة أو لنائب رئيس الجبهة فلوريان فيليبو الذي ترشح في منطقة الألزاس «شرق فرنسا» الذي حصل على نحو 35 في المائة من الأصوات. وما زاد من خيبة اليمين المتطرف أن لوائح الجبهة تقدمت على منافسيها بأكثر من 15 نقطة.

رغم ذلك، قطع ناخبو اليسار طريق الفوز على اليمين المتطرف وجاءت تعبئة الناخبين من اليمين الكلاسيكي واليسار على السواء لتمنع الجبهة الوطنية، مرة أخرى، بفضل القانون الانتخابي الذي يعتمد مبدأ الأكثرية، من كسر الحاجز الرمزي الذي حال حتى الآن بين اليمين المتطرف وبين التربع على عرش بعض المناطق الفرنسية، كما حال دون دخول ممثلين للجبهة الوطنية إلى البرلمان مما يعكس قوة قاعدتهم الشعبية.
بيد أن هذا الإخفاق لا يعني بتاتا أن سير الجبهة الوطنية نحو السلطة قد أصيب في الصميم. فالأرقام تدل على أن الجبهة الوطنية حصلت على 6.8 مليون صوت بزيادة 800 ألف صوت عن الدورة الأولى. وهذا الرقم لم تصل إليه أبدا في تاريخها بما في ذلك عندما ترشحت مارين لوبان لرئاسة الجمهورية في عام 2012 أو عندما ترشح والدها، جان ماري لوبان للرئاسة في عام 2002 وتأهل للدورة الثانية على حساب المرشح الاشتراكي رئيس الوزراء الأسبق ليونيل جوسبان.
يذكر أن تعبئة الناخبين بالنسبة للاستحقاقات الانتخابية الرئاسية أو التشريعية تكون عادة أكثر ارتفاعا، إذ تجاوز الـ80 في المائة من المسجلين على اللوائح. وواضح أنه لو لم يسحب الحزب الاشتراكي مرشحيه من ثلاث مناطق لصالح لوائح حزب «الجمهوريين» وحلفائه من الوسط ويمين الوسط، لكانت الجبهة الوطنية هي التي رفعت راية الانتصار فيها.
كثير من المحللين رأوا في نتائج الأحد الماضي هزيمة شخصية لمارين لوبان. لكن الأمور ليست بهذه البساطة لأن ابنة جان ماري لوبان البكر تتبع استراتيجية محددة هي تجذير الجبهة الوطنية على كل الأراضي الفرنسية وإدخالها إلى كل الشرائح الاجتماعية و«تطبيعها» كحزب سياسي ليس وظيفته فقط أن يكون تعبيرا عن الصوت الاحتجاجي الأقلوي، بل أن يكون قادرا على الوصول إلى السلطة وممارستها. وهذه الرغبة الجامحة هي التي تبرر الطلاق الذي حصل في الأشهر الأخيرة بين مارين لوبان ووالدها، إذ إنها ترى أن البقاء ضمن الأطر الآيديولوجية التقليدية للجبهة سيبقيها مجموعة مهمشة، بينما المطلوب أن تتحول إلى حزب شعبي عريض. ووفق أكثر من دراسة واستطلاع للرأي، يمكن القول إن مارين لوبان نجحت في خطتها، إذ إن اليمين المتطرف أصبح قادرا في الوقت الحاضر على إنزال مرشحيه في كل المناطق والدوائر ولمختلف الانتخابات، بينما كان عاجزا عن ذلك في السنوات السابقة. أما الأمر الأكثر خطورة فيتمثل في «تفشي» أفكار اليمين المتطرف، ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار أن الجبهة الوطنية قد حققت تقدما كبيرا.. الأمر الذي يعكسه «هلع» الأحزاب التقليدية وتخبطها في البحث عن خطة مضادة. ومن الظواهر التي تبين مدى «اختراق» اليمين المتطرف الطبقات الاجتماعية اثنتان تحملان مدلولات ثقيلة: الأولى، أن عشرات الآلاف من العمال وصغار الموظفين الذين كانوا يشكلون البيئة الحاضنة لليسار واليسار المتطرف والرافد البشري الأول للنقابات اليسارية مثل الكونفدرالية العامة للشغل تحولوا حاليًا إلى الجبهة الوطنية.. الأمر الذي يفسر كيف أن مارين لوبان حصلت على نسبة استثنائية في منطقة معروفة بأنها عمالية الطابع «الشمال» وكانت معقودة اللواء لليسار منذ عقود.
تتمثل الظاهرة الثانية في أن الجبهة الوطنية نجحت للمرة الأولى في تاريخها في إيجاد قسم لها في معهد العلوم السياسية في باريس، وهو المؤسسة التي تخرج النخبة والتي تغرف منها الدولة كادراتها وكبار موظفيها. وتحمل هذه الظاهرة مضامين كثيرة أولها أن الانتماء إلى الجبهة الوطنية أو تقبل أفكارها لم يعد ينظر إليه في فرنسا على أنه ممارسة «شاذة» يتعين على صاحبها أن يخبئ أفكاره وانتماءه أو أن مناصري الجبهة الوطنية هم من الرعاع أو من المجموعات النازية العنصرية المتطرفة. فـ«الجبهويون» اليوم يفاخرون بآيديولوجيتهم وأفكارهم ويريدون أن يعمموها على المجتمع بحيث يكون وصول مارين لوبان إلى السلطة تطورا «طبيعيا» باعتبار أن الفرنسيين جربوا اليمين واليسار وكلاهما فشل وبالتالي لماذا لا يجربون الجبهة الوطنية؟
* ثلاثية الجبهة الوطنية
تقوم آيديولوجية الجبهة الوطنية على ثلاثية أولى أعمدتها ادعاء الحفاظ على الهوية الوطنية وحمايتها من «الغزو» الخارجي. وصور التهديد الخارجي كثيرة. فقد يكون الاتحاد الأوروبي الذي سلب فرنسا صلاحياتها السيادية بحيث تخلت عن عملتها الوطنية وعن قدرتها على سن القوانين ووضع الميزانيات بسبب الضوابط التي تضعها المفوضية الأوروبية. ومع اتفاقية شنغن، فقدت باريس القدرة على الرقابة على الحدود وسن القوانين، لأن هناك سلطة قضائية فوق سلطة القضاء الفرنسي. بيد أن الغزو الحقيقي، بالنسبة لمارين لوبان هو «الغزو الإسلامي». وخلال هذا الأسبوع، قامت محكمة فرنسية بتبرئة لوبان من اتهامات في دعوى أقيمت ضدها بتهمة الحض على الكراهية لأنها قارنت، في خطاب ألقته في مدينة ليون «ثاني المدن الفرنسية» عام 2010 بين صلاة المسلمين في بعض شوارع المدن الفرنسية، حيث لا توجد مساجد يصلون فيها بالاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. وقالت لوبان وقتها: «فرنسا تشهد المزيد والمزيد من مرتديات الحجاب، ثم المزيد والمزيد من البرقع، ثم جاءت بعد ذلك ظاهرة الصلاة في الشوارع». وأضافت: «اسمحوا لي، بما أن الكثيرين ما زالوا يحبون التحدث عن الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي، أن نتكلم عن الاحتلال لأن هذا هو بالضبط ما يحصل اليوم. صحيح، ليس هناك دبابات أو جنود، ولكنه مع ذلك احتلال يلقي بظلاله الثقيلة على الناس». ورغم خطورة ما جاء على لسان لوبان من حض على الكراهية والتنديد بالإسلام ومقارنته بالاحتلال النازي رغم أن عشرات الآلاف من المسلمين خاضوا الحربين العالميتين للدفاع عن فرنسا وتحريرها، حيث قتل منهم الآلاف، فإن زعيمة اليمين المتطرف لا تجد غضاضة في الخلط بين الاحتلال والإسلام. وخلال الحملة الانتخابية الأخيرة، ذهبت لوبان إلى التحذير من أن الإسلاميين يسعون لإحلال الشريعة محل الدستور الفرنسي وسيعمدون إلى فرض قوانينهم وشرائعهم في فرنسا البلد المسيحي منذ 1400 عام. أما ابنة شقيقتها ماريون مارشال لوبان، النائبة في البرلمان، فإنها لم تجد حرجا في تأكيد أنه لا يحق للمسلمين أن يطمحوا بأن تكون ديانتهم بمستوى الديانة المسيحية لأن فرنسا بلد الكاتدرائيات وليست بلد المساجد.
ثاني ثلاثية الجبهة الوطنية التنديد بالمهاجرين أكانوا في إطار الهجرة الشرعية أو كانوا من المهاجرين غير الشرعيين. وغالبا ما تدمج بين الإسلام الهجرة، لتخرج إلى العلن مزيجا متفجرا يساهم في الترويج له بعض «المفكرين» الفرنسيين أمثال آلان فينكلكروت وأريك زمور وميشال أونفري الذين ما فتئوا يحذرون من ضياع الهوية وتداعي الحضارة وعدم استعداد الوافدين إلى فرنسا من بلدان العالم الثالث إلى «الانصهار» في المجتمع الفرنسي وتقبل قيمه أو أساليب حياته.
وحجة المهجرين ليست جديدة، إذ إن اليمين المتطرف يعتبرها أحد أهم أسباب البطالة لأن المهاجرين «يسرقون» فرص العمل من الفرنسيين ولأنهم يأتون إلى فرنسا للاستفادة من أنظمة الرعاية الاجتماعية.. ثم تضاف إلى ذلك ظاهرة الإرهاب الذي ضرب باريس في بداية العام ضد صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة والمتجر اليهودي ثم ضرب مجددا الشهر الماضي في مسرح الباتاكلان وعدد من مطاعم ومقاهي العاصمة. وبذلك توفرت لليمين المتطرف ثلاثية متداخلة من شأنها إخافة المواطن الفرنسي الذي هو بصدد خسارة هويته ولقمة عيشه وأمنه.
* ولكن من هي مارين لوبان؟
ماريون آن بيرين لوبان المسماة مارين لوبان ورثت زعامة حزب الجبهة الوطنية عن والدها المؤسس. إلا أنها لم تتردد الصيف الماضي عن نزع رئاسة الشرف منه، وهو المنصب الفخري الذي كان يحتله بعد أن «أوكل» الحزب إلى ابنته. بين الأب وابنته البكر حرب مفتوحة على صفحات الجرائد، وخصوصا في المحاكم. الأب وابنته قطعا التواصل بينهما لأن الثانية اتهمت الأول بـ«الإضرار بمصالح الحزب الحيوية» بسبب تصريحاته التي يعود فيها لتلميحاته المعادية للسامية، بينما تسعى من جانبها لتوفير سمعة حسنة لليمين المتطرف من شأنه تأهيله لاحتلال أعلى المراكز في الدولة.
قصة عائلة لوبان أشبه بمسلسل «دالاس». لوبان الأب المولود عام 1928 في قرية وادعة على شاطئ الأطلسي في منطقة بروتاني كان يحلم بصبي يسلمه زمام الأمور من بعده. لكن زوجته الأولى بياريت لوبان أنجبت له ثلاث بنات هن: مارين «العقوق» وماري كارولين التي تزوجها أحد وجهاء الحزب واسمه برونو ميغريه قطعت علاقاتها بوالدها بعد أن أيدت زوجها في محاولته وضع اليد على الجبهة الوطنية. ولما فشل أسس حزبا منافسا لها. أما ابنته الثالثة فهي يان لوبان، زوجة صامويل مارشال ووالدة ماريون مارشال لوبان، النجمة الصاعدة في حزب الجبهة الوطنية وهي نائبة «وحيدة» عنها في الجمعية الوطنية ورئيسة لائحة اليمين المتطرف في منطقة الشاطئ اللازوردي. ومن المعروف أن ماريون ليست ابنة صامويل مارشال البيولوجية بل ابنة الصحافي الفرنسي المعروف روجيه أوك لكن مارشال الذي كان أحد الكادرات الناشطة في حزب الجبهة الوطنية ومدير مكتبها الإعلامي تبنى ماريون ثم عمد بعدها إلى الطلاق من والدتها.
ولدت مارين لوبان عام 1968. تزوجت وطلقت مرتين وهي تعيش حاليا مع لويس أليو، النائب في البرلمان الأوروبي «مثله مثل مارين» وخصوصًا نائب رئيس الحزب ورئيس إحدى لوائحه في انتخابات المناطق.
تختلط قصة الجبهة الوطنية بقصة عائلة لوبان، حيث الأب المؤسس سلم مفاتيح الجبهة لابنته التي ذهبت إلى البرلمان الأوروبي بمعية رفيق دربها الذي هو نائب الرئيس. ومن الأب إلى الابنة إلى الحفيدة ماريون التي هي نائبة في البرلمان الفرنسي ورئيسة لائحة في منطقة بالغة الأهمية «مارسيليا، نيس، كان..». وإلى جانب السمة الأولى لعائلة لوبان وهي الرغبة في الصعود السياسي، ثمة سمة أخرى وهي تتابع الفضائح من كل نوع: فضيحة الأب في حرب الجزائر التي خاضها في فرقة المظليين واتهم فيها بممارسة التعذيب ضد مقاتلي الجبهة الوطنية الجزائرية. ثم الغموض الذي يحيط بمصدر ثروة جان ماري لوبان، إذ من المعروف أن ثروته كبيرة للغاية رغم أنه ولد في عائلة متواضعة. وقامت صحيفة «لو كنار أونشينيه» الساخرة بتحقيق حول مصدر ثروته، حيث يتبين أنه تعرف في السبعينات على صناعي فرنسي اسمه هوبير لامبير، وريث إحدى أهم العائلات الصناعية الفرنسية الذي أعجبته شخصية جان ماري لوبان وأفكاره واستشرف له مستقبلا سياسيا زاهرا كما قام بتمويل حزبه. ولما مات لامبير في سن الثانية والأربعين، تبين أنه ترك وصية ورث بموجبها لوبان جزءا كبيرا من ثروته «32 مليون فرنك فرنسي». وتؤكد الصحيفة أنه ورث آخرين.. ثم هناك الفضيحة «الجنسية» حيث ظهرت زوجته الأولى شبه عارية في إحدى مجلات الفضائح.
مارين لوبان احتلت مقعد والدها في الجبهة الوطنية بداية عام 2011 رغم معارضة رفاق الطريق. لكن الدعم المطلق الذي وفره لها والدها أتاح لها أن ترثه سياسيًا بعد أن انضوت في العمل السياسي في صفوف الجبهة منذ أن كانت طالبة. مارين تمتهن المحاماة لكن العمل السياسي يغلب على نشاطها المهني حيث أصبحت نائبة في البرلمان الأوروبي منذ عام 2004. لكن هناك أيضًا لحقت بها الفضائح.
في عام 2012، ترشحت لوبان لرئاسة الجمهورية وحصلت على 17.90 في المائة من الأصوات فجاءت في المرتبة الثالثة بعد فرنسوا هولاند ونيكولا ساركوزي. بيد أن الأمور تغيرت اليوم وصار بإمكان زعيمة اليمين المتطرف أن تحلم بالوصول إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية في ربيع عام 2017 لا بل إن الكثير من استطلاعات الرأي العام تضعها في المقدمة وتؤهلها للدورة الثانية في مواجهة أحد خصميها اليساري «فرنسوا هولاند على الأرجح» أو اليمين «نيكولا ساركوزي أو آلان جوبيه». وبحسب مارين لوبان أن الظروف أصبحت «ناضجة» لأن تصل الجبهة الوطنية إلى السلطة عبر صندوق الانتخاب. فهل سيوفر لها الناخبون الفرنسيون هذه الفرصة ويتناسون التجارب التاريخية السابقة، حيث استفاد ديكتاتوريون من اللعبة الديمقراطية ليجهزوا عليها لاحقا.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.