تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

بريطانيا كشفت عن تسجيلات صوتية أشارت إلى عملية إرهابية

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
TT

تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)

أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن إسقاط الطائرة الروسية المدنية فوق صحراء سيناء بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ بـ23 دقيقة، ورغم عدم انتهاء التحقيق الرسمي حتى اليوم فإن مجموعة من البلدان خرجت بتصريحات رسمية تؤكد أن سقوط الطائرة المدنية كان على خلفية عمل إرهابي. وجميع هؤلاء المعلنين من العواصم التي يعتد بحديثهم خاصة وهم يعلقون على كارثة إنسانية كبيرة ويستندون فيما لديهم على أجهزة استخباراتهم. بدأت لندن تلك الموجة وعبرت سريعا الأطلسي لتؤكده واشنطن ثم كان ارتدادها في منطقتنا خجولا من تل أبيب، هذه الموجة والتي خرجت تقريبا في يومين متتابعين كشفت بكلمات قصيرة وموجزة عن امتلاك أجهزتها الاستخباراتية دلائل تشير إلى أن سقوط الطائرة كان بعملية إرهابية.
بالتالي سنفكك الروايات وسندعي امتلاكنا لرواية أخرى سنسير مع ما خرج إلى العلن على أطراف أصابعنا حتى نصل إلى ما يمكن الإمساك به، فقد اتبعت هذه الإعلانات بعد نحو أسبوع إعلانا روسيًا يؤكد هذا الطرح رغم أن موسكو قضت 48 ساعة تتحفظ على الإعلان البريطاني كونه من خارج لجنة التحقيق الفنية، وإذا بالإعلان الروسي يسلك نفس الطريق ويزيد عليه بعضا من ردود الأفعال التي تجاوزت ردود الآخرين.
الرواية البريطانية جاءت على لسان رئيس وزرائها والرئيس المصري في الجو قبيل هبوطه في لندن بدقائق مما أكسبها صخبا مدويا، لكنها بالتحديد لم تذكر سوى أن أجهزتها الاستخباراتية لديها بعض التسجيلات الصوتية التي تشير إلى أن عملية إرهابية نفذت في مطار شرم الشيخ تسببت في انفجار الطائرة الروسية في الجو، ولم تقدم لندن إجابة عن توقيت تلك التسجيلات هل كانت قبيل التنفيذ أم بعده، وتركت الفرضية مفتوحة رغم فداحة هذا الإعلان الذي كان يلقى للمرة الأولى، واشنطن بدورها وهي تؤكد بعدها مباشرة أن لديها نفس تلك الأدلة التي ذكرتها لندن لم تزد عليها حرفا واحدا، حتى بدت الرواية أميركية بالأصل وأنها تليت بلسان لندني استثمارا لوجود الرئيس المصري على أراضيها، وبعد ذكر التسجيلات واعتماد فرضية التنصت الإلكتروني فائق التكنولوجيا على منفذي العملية الإرهابية ظهرت إسرائيل التي تقبع على مسافة كيلومترات معدودة من مكان الحادث ومن المكان الافتراضي لوجود الإرهابيين، وعلى استحياء أجابت بعد أن سئلت من الجميع عن جدية هذه الرواية، أنها ترجح بالفعل أن عملا إرهابيا كان وراء سقوط الطائرة وأن لديها بعضا من أدلة تصب في صالح هذا الاتجاه.
لم تخرج كلمة واحدة إضافة لما ذكرناه بعاليه، حتى عندما أكدت موسكو تلك الرواية بعدها بأسبوع لم تضف سوى تفصيلات محدودة ومتوقعة، فهي أكدت أن أجهزة التحقيق الروسية وهي غير الطاقم الموجود داخل لجنة التحقيق الرسمية، قد توصلت إلى بعض من الأدلة المادية عبارة عن بقايا مسحوق، يعتقد أنه مادة يمكن أن تدخل في تكوين عبوة ناسفة تزن نحو كيلوغرام واحد كانت هي السبب المباشر لسقوط الطائرة، وعرضت 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تصل إلى تحديد وضبط الفاعلين، وهي بذلك تؤكد الرواية السابقة، وأعلن حينها أن لندن أطلعت موسكو على ما لديها داخل الملف الاستخباراتي، ومتصور بالطبع أن موسكو اطلعت ودرست وقارنت وأكملت على ما لديها، لكن من غير المتوقع الإعلان عن تفصيلات ما أرسل من لندن ومدى مساهمته في خروج الرواية الروسية الصاعقة.
وإن كنا بذلك لم نتحرك سوى خطوات محدودة، لكن لا بد من تسجيل نقطة غاية في الأهمية وهي أن تلك العواصم جميعها لم تذكر «داعش» بكلمة واحدة، ولو حتى على سبيل كونه أحد المتهمين المحتملين، بطبيعة جغرافيا الحادث، فسيناء وفق أدبيات تلك الدول وغيرها بها فرع نشط للتنظيم، وهناك مبرر آخر كان يستدعي أن تأتي تلك الروايات على ذكر «داعش» بصورة أو بأخرى، وهو الإعلان الداعشي المبكر عن أنه من قام بالعملية، لكن هذا الذكر لم يحدث على وجاهة المبررات، فضلا عن نجومية التنظيم الذي أصبح يتهم فيما يقوم به وغيره كماركة الإرهاب المسجلة، وهذا يستتبع أن نعبر إلى الجهة المقابلة حيث روايات «داعش» حول الحادث ففيها ما هو أكثر إثارة من الروايات السابقة!
تنظيم داعش الإرهابي وقع في خطأ قاتل غير معتاد، عندما قص ثلاث روايات متناقضة لحادث واحد حاول من خلالها أن ينتزع التصديق لكونه هو من فعلها، بالكاد بعد يوم واحد أعلن التنظيم مسؤوليته عن إسقاط الطائرة بواسطة إطلاق صاروخ حراري من على أرض سيناء وأذاع مقطعا مصورا لطائرة تسقط، تلك كانت روايته الأولى التي تلقفتها الأجهزة الأمنية لكل من مصر وروسيا، وعملا عليها، فتبين كذبها بعد ساعات، فالطائرة على ارتفاع 32 ألف قدم وبسرعة تحليق لا تمكن أي صاروخ اعتيادي من ملاحقتها فهي تحتاج إلى منظومة دفاع جوي متطورة لاصطيادها، والمقطع المصور ثبت أنه يخص إطلاق صاروخ محمول على الكتف «غراد» باتجاه إحدى الطائرات الأميركية الصغيرة، بجوار قاعدة «باغرام العسكرية» في أفغانستان عام 2014.
الرواية الثانية جاءت أكثر تماسكا بقليل من سابقتها مع ملاحظة مرور بعض من الوقت قبيل إذاعتها، ففيها ظهر الخطاب الداعشي الروتيني الذي يصاحب بيانات تبني العمليات، وإن كان مقتضبا قليلا ولم يحو أي صور خاصة بالعملية، وأهم ما فيه وما يمكن الوقوف عنده أنه كان يفترض أن بيانه الأول قد سقط في الفراغ وأنه لم يسجل عليه فبدا وكأنه يتحدث عن العملية للمرة الأولى، فضلا عن ذكره نصا بأنه لن يفصح عن طريقة تنفيذه للعملية إلا في الوقت المناسب، وسيحتفظ بها باعتبارها سرا من أسرار التنظيم. كان من الممكن لهذه الرواية أن تمر إن كانت قد ظهرت أولا، فالرواية التي تسبقها تضرب صدقيتها في الصميم وكلتاهما صدرت من مصدر واحد مما حرم التنظيم من إمكانية التنصل منها.
الرواية الثالثة خرجت من التنظيم أيضا، وجاءت بعد موجة الإعلانات الدولية بشأن سقوط الطائرة بسبب عبوة تم زرعها بداخلها على الأرجح من محطة الإقلاع، الرواية خرجت إلى العلن بعد أن احتدم الحديث حول إمكانية اختراق النطاق الأمني لمطار شرم الشيخ وزرع العبوة، وأيضا بعد مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها روسيا تجاه المطارات المصرية ورحلاتها الجوية، فإذا بالرواية تقتصر على إعلان أنه نفذ العملية باستغلال ثغرة أمنية بمطار شرم الشيخ، وصاحب ذلك نشر صورة فوتوغرافية لعبوة معدنية لمياة غازية ومفجر صغير والسلك الكهربائي، وكانت الرواية تحاول أن تتماسك فضلا عن أنها أيضا تتجاوز وتقفز على الروايتين السابقتين، بذكر أن المستهدف قبلا كان إحدى الطائرات الغربية لكن تعديل الهدف بطائرة روسية جاء بعد تدخل روسيا للحرب ضد تنظيم داعش في سوريا.
إن كنا بصدد طرح رواية أخرى لما حدث فهو تفتيش خلف الجدار الكثيف الذي ضرب حول الحادث، حتى ممن أعلنوا تلك الإعلانات السابق ذكرها، وهي أول ملحوظة لنا نريد تسجيلها، بأن من ذكر أن الحادث جاء نتيجة عمل إرهابي لم يقدم رواية متماسكة، يطرح مثلها كثير في العمليات الإرهابية المتكررة التي تضرب المشهد اليومي في أماكن متعددة من العالم، واختبأ الجميع بمن فيهم الجانب الروسي خلف مقولة أن المعلومات استخباراتية، مع ملاحظة أن جميع الأطراف ورغم فداحة الحادث وردود أفعاله، فهم كما توحدوا في هذا الجدار الصلب من الصمت اجتمعوا أيضا على عدم اتهام «داعش» مباشرة، رغم وجود ثلاث روايات للتنظيم يمكن لأي طرف أن يتبنى إحداها ويبني عليها طروحاته، لكن الأمر لم يسر في هذا الشكل الاعتيادي إزاء أي عمل إرهابي.
الجانب المصري وهو الممثل بحكم القانون كرئيس للجنة التحقيق الفنية له مساحة كبيرة في الاشتباك مع تفصيلات وملابسات الحادث، ومع ذلك كان أداؤه متأرجحا بشدة في إدارته للأزمة، لدرجة أنه في بعض فصولها دخل بقدميه في مربع المتهم بدفع من آخرين ولم يحرك ساكنا إزاء ذلك، الجانب المصري تشارك مع الآخرين في جدار الصمت المطبق، وحتى المؤتمر اليتيم الذي عقده رئيس لجنة التحقيق جاء أكثر صمتا، في الوقت الذي كان العالم كله يتحدث عن الحادث ويتداول التكهنات بسرعة كبيرة، واجهه فراغ مصري كان من الممكن أن يشغله أشياء كثيرة تحصن مصر من الدخول إلى قفص اتهام مصنوع بطريقة ما، هذا الأمر في جانب منه يمكن إرجاعه لقصور في أداء أطراف مصرية، لكن جزءا آخر منه بدا متعمدا أو خيارا تم بحثه واعتماده، ففداحة تبعات الحادث وصفت بعضها بكونها كارثية كقطاع السياحة والسمعة الأمنية للمطارات والرحلات الجوية المصرية، ومع ذلك كانت خطوات احتواء هذا الأمر مصريا بعيدة تماما عن إدارة أو علاج تلك التبعات، وكأن ما هو لدى الجانب المصري بأخطر وأوسع مما هو مطروح مواجهته، وهنا يقفز مرة أخرى أن معظم تلك الأطراف لديها شيء ما تخفيه غير مسموح بخروجه إلى العلن، لكن ما هو هذا الشيء الذي يجتمع عليه كل الأطراف رغم مساحة اختلاف المصالح الهائل بينهم. تعمد ترك المشهد ضبابيا مقصود بشواهد كثيرة حتى في مواجهة الرأي العام الروسي أو المصري وهما المعنيان الأولان في البحث عن إجابات مفقودة، وبعدهما رأي عام عالمي تجاوز هذا المطب وبدأ يتحدث عن العمل الإرهابي في سيناء ضد طائرة مدنية، وكأنه أمر مسلّم به يذكر في تعدد أشكال النشاط الإرهابي الموجود حاليا على الساحة.
بالعودة إلى ما انتهى إليه التنظيم الإرهابي نجد الغموض يزداد كثافة من حول الواقعة، فهناك حقيقة بأن التنظيم معترف بالمسؤولية، لكن متى كان تنظيم داعش أو أي من فروعه أو حتى أنصار بيت المقدس يبدو متلعثما هكذا، لدرجة أن يروي ثلاث روايات تناقض بعضها البعض حول واقعة واحدة، مؤكد وبالرصد الدقيق لتاريخ عملياته وبياناته أنه لم يسقط مرة واحدة في هذا الفخ، مع الأخذ في الاعتبار أننا أمام عملية إن ثبت قيامه بها، فهي بالمؤكد أيضا ذروة نجاحاته العملياتية، فكيف يكون غير مستعد لترويجها إعلاميا في خطاب متماسك يمتلك التنظيم آلياته بمهارة، أحد أهم الأجزاء التي افتقدها التنظيم على سبيل المثال في هذه العملية أنه لم يستطع التقاط صورة واحدة لمكان الحادث وقت سقوط الطائرة وقبل وصول أي من الأجهزة الأمنية للمكان، رغم أنه كان هناك فترة زمنية كافية تسمح له بذلك، فضلا عن سقوط الطائرة بالقرب من مدينة الحسنة جنوب العريش، وهي منطقة عاش فيها التنظيم طوال عامين وتمترس داخل دروبها، وأدار حروبه وعملياته على أراضيها التي يعلمها ككف يده، صورة واحدة كتلك التي أشرنا إليها كانت كفيلة بانقلاب المشهد رأسا على عقب، لكن التنظيم بدا وكأنه لا يعلم واضطر للجوء إلى مقطع مزيف بثه متعجلا، وهي نقيصة لم يقع فيها من قبل مطلقا، فالحرص البالغ على تصوير ما يزيد على 30 تفجيرا لخط الغاز مثلا وإذاعته بصحبة خطبة عصماء تمتلئ بالكلمات الدينية الفخمة، وإلحاحه على إبراز عدائه للجيش والأمن المصري، كل تلك الثوابت لم يقابلها أي جهد من قبل أعضاء التنظيم لإثبات ارتباطه بالعملية، بل بدا في بيانه الأخير أنه فقط متابع لنشرات الأخبار الدولية والمحلية ليلتقط من خلالها جملة «الثغرة الأمنية بمطار شرم الشيخ» والتي كان يلح عليها الجميع، ليضمنها في بيانه الذي صاحبته الصورة الملفقة والمستقاة أيضا مما كان يتداول إعلاميا، وهو بالقطع لم يستخدم تلك المفردة من قبل في توصيف أي من عملياته الناجحة.
قطعا الأمر يزداد غموضا، وفعل التنظيم الإرهابي غير محدد الملامح بالمرة، فأين كان دور التنظيم في العملية، هل كان التنظيم الإرهابي موجودا بالفعل أم تم الدفع به دفعا ليكون شماعة يمكن تعليق الاتهام في رقبته حين الحاجة؟ من جانبنا نرى أنه في أقصى تقدير ممكن قد يكون التنظيم ساعد من طرف خفي، أو قدم دعما لوجستيا محدودا لنجاح العملية، لكنه قطعا لم يمتلك أسرارها ولم يمسك بعصا القيادة فيها بالمطلق، وهنا نحاول أن نمسك بطرف هذا الخيط الوحيد الذي يمكن السير خلفه، لا بد إذن أن يكون هناك من أصدر تعليمات بالتنفيذ، بل وشارك بقوة في التنفيذ أيضا، فمن يكون هذا الطرف الذي لم يذكر اسمه أحد ممن ادعى أنه يمتلك المعلومات الاستخباراتية، وجميعهم كما أسلفنا لا يتوقع منهم الهزل أمام حادث كهذا، فهل الفاعل مطلوب إخفاؤه مثلا وهذا من الممكن توقعه في الحروب الاستخباراتية، وهنا لا بد من الوقوف أمام أعداء كل من مصر وروسيا فكلتاهما وقع عليها الضرر البالغ، من في أعدائهما يمتلك القدرة على التنفيذ والإرادة أيضا ومهارة النفاذ إلى تلك المنطقة الخطرة من مستوى العمليات الإرهابية.
أحد مرافقي وزير الدفاع الروسي البارزين في زيارته الأخيرة للقاهرة أجاب على أحد الأسئلة بخصوص حادث سقوط الطائرة بإجابة أكثر اقترابا، فهو ذكر للسائل جملة مقتضبة بأن الفاعل كان يوجه رصاصاته إلى قلب العلاقة المصرية الروسية مستهدفا تخريب التعاون بينهما، وهي إجابة لا علاقة لها البتة بتنظيم داعش ولا فرعه في سيناء، وليست ضبابية على الإطلاق إنما هي تتحدث عن دول لديها أهداف تسعى إلى تحقيقها حتى لو بأساليب غير مشروعة، فالدول وحدها هي ما تزن علاقات دولتين ببعضهما البعض، وقد يتقاطع مع مصالحها ما يتم اعتماده من آفاق للتعاون بين كلتا الدولتين، وعندما يضغط هذا التعاون على تلك المصالح بقوة ويبدو قاطعا لطريق مصالح تلك الدول، تقوم الأخيرة باللجوء إلى أجهزة استخباراتها لسؤالها عن الحلول الممكنة والقدرات على الأرض، وحينها بالضبط تبدأ عمل تلك الأجهزة لتقديم حلول، أو تحقيق أهداف يعجز الساسة عن إنجازها، وهي في هذا التحرك إما أن تقوم بالعمل بنفسها ومن خلال عناصرها أو اتصالاتها المباشرة، وإما يمكنها أن تستعين بأجهزة صديقة تمتلك ميزة نوعية في إتمام التنفيذ، كالقرب الجغرافي مثلا أو الارتباط مع عناصر موجودة على مسرح تنفيذ العملية، أو غيرها من إمكانيات تجعل اكتشاف الفاعلين كمطاردة خيوط الدخان.
هذا ما نمتلكه حتى اليوم من صفحات تلك الرواية التي يتسلح أبطالها حتى اليوم بالصمت، وحتى من تكلم منهم فهو لجأ إلى ردود أفعال غير مسبوقة توحي بفداحة وخطورة ما تم، ومساحة تهديده المستقبلي الذي يجعله يتحسب بهذا القدر، روايتنا بالطبع كغيرها مليئة بالأسئلة وتطارد إجابات تحلق في فضاءات الإقليم على اتساعه، وهو فضاء يضم أصدقاء وأعداء، ومثلكم تماما وضعنا الأوراق أمامنا، وننتظر أن يتقدم أحد للإفصاح عن أسماء، فهي فقط (الأسماء) ما نظنه ينقص روايتنا التي تتبعنا أبطالها وسطورها هنا وهناك.
* مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.