تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

بريطانيا كشفت عن تسجيلات صوتية أشارت إلى عملية إرهابية

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
TT

تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)

أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن إسقاط الطائرة الروسية المدنية فوق صحراء سيناء بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ بـ23 دقيقة، ورغم عدم انتهاء التحقيق الرسمي حتى اليوم فإن مجموعة من البلدان خرجت بتصريحات رسمية تؤكد أن سقوط الطائرة المدنية كان على خلفية عمل إرهابي. وجميع هؤلاء المعلنين من العواصم التي يعتد بحديثهم خاصة وهم يعلقون على كارثة إنسانية كبيرة ويستندون فيما لديهم على أجهزة استخباراتهم. بدأت لندن تلك الموجة وعبرت سريعا الأطلسي لتؤكده واشنطن ثم كان ارتدادها في منطقتنا خجولا من تل أبيب، هذه الموجة والتي خرجت تقريبا في يومين متتابعين كشفت بكلمات قصيرة وموجزة عن امتلاك أجهزتها الاستخباراتية دلائل تشير إلى أن سقوط الطائرة كان بعملية إرهابية.
بالتالي سنفكك الروايات وسندعي امتلاكنا لرواية أخرى سنسير مع ما خرج إلى العلن على أطراف أصابعنا حتى نصل إلى ما يمكن الإمساك به، فقد اتبعت هذه الإعلانات بعد نحو أسبوع إعلانا روسيًا يؤكد هذا الطرح رغم أن موسكو قضت 48 ساعة تتحفظ على الإعلان البريطاني كونه من خارج لجنة التحقيق الفنية، وإذا بالإعلان الروسي يسلك نفس الطريق ويزيد عليه بعضا من ردود الأفعال التي تجاوزت ردود الآخرين.
الرواية البريطانية جاءت على لسان رئيس وزرائها والرئيس المصري في الجو قبيل هبوطه في لندن بدقائق مما أكسبها صخبا مدويا، لكنها بالتحديد لم تذكر سوى أن أجهزتها الاستخباراتية لديها بعض التسجيلات الصوتية التي تشير إلى أن عملية إرهابية نفذت في مطار شرم الشيخ تسببت في انفجار الطائرة الروسية في الجو، ولم تقدم لندن إجابة عن توقيت تلك التسجيلات هل كانت قبيل التنفيذ أم بعده، وتركت الفرضية مفتوحة رغم فداحة هذا الإعلان الذي كان يلقى للمرة الأولى، واشنطن بدورها وهي تؤكد بعدها مباشرة أن لديها نفس تلك الأدلة التي ذكرتها لندن لم تزد عليها حرفا واحدا، حتى بدت الرواية أميركية بالأصل وأنها تليت بلسان لندني استثمارا لوجود الرئيس المصري على أراضيها، وبعد ذكر التسجيلات واعتماد فرضية التنصت الإلكتروني فائق التكنولوجيا على منفذي العملية الإرهابية ظهرت إسرائيل التي تقبع على مسافة كيلومترات معدودة من مكان الحادث ومن المكان الافتراضي لوجود الإرهابيين، وعلى استحياء أجابت بعد أن سئلت من الجميع عن جدية هذه الرواية، أنها ترجح بالفعل أن عملا إرهابيا كان وراء سقوط الطائرة وأن لديها بعضا من أدلة تصب في صالح هذا الاتجاه.
لم تخرج كلمة واحدة إضافة لما ذكرناه بعاليه، حتى عندما أكدت موسكو تلك الرواية بعدها بأسبوع لم تضف سوى تفصيلات محدودة ومتوقعة، فهي أكدت أن أجهزة التحقيق الروسية وهي غير الطاقم الموجود داخل لجنة التحقيق الرسمية، قد توصلت إلى بعض من الأدلة المادية عبارة عن بقايا مسحوق، يعتقد أنه مادة يمكن أن تدخل في تكوين عبوة ناسفة تزن نحو كيلوغرام واحد كانت هي السبب المباشر لسقوط الطائرة، وعرضت 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تصل إلى تحديد وضبط الفاعلين، وهي بذلك تؤكد الرواية السابقة، وأعلن حينها أن لندن أطلعت موسكو على ما لديها داخل الملف الاستخباراتي، ومتصور بالطبع أن موسكو اطلعت ودرست وقارنت وأكملت على ما لديها، لكن من غير المتوقع الإعلان عن تفصيلات ما أرسل من لندن ومدى مساهمته في خروج الرواية الروسية الصاعقة.
وإن كنا بذلك لم نتحرك سوى خطوات محدودة، لكن لا بد من تسجيل نقطة غاية في الأهمية وهي أن تلك العواصم جميعها لم تذكر «داعش» بكلمة واحدة، ولو حتى على سبيل كونه أحد المتهمين المحتملين، بطبيعة جغرافيا الحادث، فسيناء وفق أدبيات تلك الدول وغيرها بها فرع نشط للتنظيم، وهناك مبرر آخر كان يستدعي أن تأتي تلك الروايات على ذكر «داعش» بصورة أو بأخرى، وهو الإعلان الداعشي المبكر عن أنه من قام بالعملية، لكن هذا الذكر لم يحدث على وجاهة المبررات، فضلا عن نجومية التنظيم الذي أصبح يتهم فيما يقوم به وغيره كماركة الإرهاب المسجلة، وهذا يستتبع أن نعبر إلى الجهة المقابلة حيث روايات «داعش» حول الحادث ففيها ما هو أكثر إثارة من الروايات السابقة!
تنظيم داعش الإرهابي وقع في خطأ قاتل غير معتاد، عندما قص ثلاث روايات متناقضة لحادث واحد حاول من خلالها أن ينتزع التصديق لكونه هو من فعلها، بالكاد بعد يوم واحد أعلن التنظيم مسؤوليته عن إسقاط الطائرة بواسطة إطلاق صاروخ حراري من على أرض سيناء وأذاع مقطعا مصورا لطائرة تسقط، تلك كانت روايته الأولى التي تلقفتها الأجهزة الأمنية لكل من مصر وروسيا، وعملا عليها، فتبين كذبها بعد ساعات، فالطائرة على ارتفاع 32 ألف قدم وبسرعة تحليق لا تمكن أي صاروخ اعتيادي من ملاحقتها فهي تحتاج إلى منظومة دفاع جوي متطورة لاصطيادها، والمقطع المصور ثبت أنه يخص إطلاق صاروخ محمول على الكتف «غراد» باتجاه إحدى الطائرات الأميركية الصغيرة، بجوار قاعدة «باغرام العسكرية» في أفغانستان عام 2014.
الرواية الثانية جاءت أكثر تماسكا بقليل من سابقتها مع ملاحظة مرور بعض من الوقت قبيل إذاعتها، ففيها ظهر الخطاب الداعشي الروتيني الذي يصاحب بيانات تبني العمليات، وإن كان مقتضبا قليلا ولم يحو أي صور خاصة بالعملية، وأهم ما فيه وما يمكن الوقوف عنده أنه كان يفترض أن بيانه الأول قد سقط في الفراغ وأنه لم يسجل عليه فبدا وكأنه يتحدث عن العملية للمرة الأولى، فضلا عن ذكره نصا بأنه لن يفصح عن طريقة تنفيذه للعملية إلا في الوقت المناسب، وسيحتفظ بها باعتبارها سرا من أسرار التنظيم. كان من الممكن لهذه الرواية أن تمر إن كانت قد ظهرت أولا، فالرواية التي تسبقها تضرب صدقيتها في الصميم وكلتاهما صدرت من مصدر واحد مما حرم التنظيم من إمكانية التنصل منها.
الرواية الثالثة خرجت من التنظيم أيضا، وجاءت بعد موجة الإعلانات الدولية بشأن سقوط الطائرة بسبب عبوة تم زرعها بداخلها على الأرجح من محطة الإقلاع، الرواية خرجت إلى العلن بعد أن احتدم الحديث حول إمكانية اختراق النطاق الأمني لمطار شرم الشيخ وزرع العبوة، وأيضا بعد مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها روسيا تجاه المطارات المصرية ورحلاتها الجوية، فإذا بالرواية تقتصر على إعلان أنه نفذ العملية باستغلال ثغرة أمنية بمطار شرم الشيخ، وصاحب ذلك نشر صورة فوتوغرافية لعبوة معدنية لمياة غازية ومفجر صغير والسلك الكهربائي، وكانت الرواية تحاول أن تتماسك فضلا عن أنها أيضا تتجاوز وتقفز على الروايتين السابقتين، بذكر أن المستهدف قبلا كان إحدى الطائرات الغربية لكن تعديل الهدف بطائرة روسية جاء بعد تدخل روسيا للحرب ضد تنظيم داعش في سوريا.
إن كنا بصدد طرح رواية أخرى لما حدث فهو تفتيش خلف الجدار الكثيف الذي ضرب حول الحادث، حتى ممن أعلنوا تلك الإعلانات السابق ذكرها، وهي أول ملحوظة لنا نريد تسجيلها، بأن من ذكر أن الحادث جاء نتيجة عمل إرهابي لم يقدم رواية متماسكة، يطرح مثلها كثير في العمليات الإرهابية المتكررة التي تضرب المشهد اليومي في أماكن متعددة من العالم، واختبأ الجميع بمن فيهم الجانب الروسي خلف مقولة أن المعلومات استخباراتية، مع ملاحظة أن جميع الأطراف ورغم فداحة الحادث وردود أفعاله، فهم كما توحدوا في هذا الجدار الصلب من الصمت اجتمعوا أيضا على عدم اتهام «داعش» مباشرة، رغم وجود ثلاث روايات للتنظيم يمكن لأي طرف أن يتبنى إحداها ويبني عليها طروحاته، لكن الأمر لم يسر في هذا الشكل الاعتيادي إزاء أي عمل إرهابي.
الجانب المصري وهو الممثل بحكم القانون كرئيس للجنة التحقيق الفنية له مساحة كبيرة في الاشتباك مع تفصيلات وملابسات الحادث، ومع ذلك كان أداؤه متأرجحا بشدة في إدارته للأزمة، لدرجة أنه في بعض فصولها دخل بقدميه في مربع المتهم بدفع من آخرين ولم يحرك ساكنا إزاء ذلك، الجانب المصري تشارك مع الآخرين في جدار الصمت المطبق، وحتى المؤتمر اليتيم الذي عقده رئيس لجنة التحقيق جاء أكثر صمتا، في الوقت الذي كان العالم كله يتحدث عن الحادث ويتداول التكهنات بسرعة كبيرة، واجهه فراغ مصري كان من الممكن أن يشغله أشياء كثيرة تحصن مصر من الدخول إلى قفص اتهام مصنوع بطريقة ما، هذا الأمر في جانب منه يمكن إرجاعه لقصور في أداء أطراف مصرية، لكن جزءا آخر منه بدا متعمدا أو خيارا تم بحثه واعتماده، ففداحة تبعات الحادث وصفت بعضها بكونها كارثية كقطاع السياحة والسمعة الأمنية للمطارات والرحلات الجوية المصرية، ومع ذلك كانت خطوات احتواء هذا الأمر مصريا بعيدة تماما عن إدارة أو علاج تلك التبعات، وكأن ما هو لدى الجانب المصري بأخطر وأوسع مما هو مطروح مواجهته، وهنا يقفز مرة أخرى أن معظم تلك الأطراف لديها شيء ما تخفيه غير مسموح بخروجه إلى العلن، لكن ما هو هذا الشيء الذي يجتمع عليه كل الأطراف رغم مساحة اختلاف المصالح الهائل بينهم. تعمد ترك المشهد ضبابيا مقصود بشواهد كثيرة حتى في مواجهة الرأي العام الروسي أو المصري وهما المعنيان الأولان في البحث عن إجابات مفقودة، وبعدهما رأي عام عالمي تجاوز هذا المطب وبدأ يتحدث عن العمل الإرهابي في سيناء ضد طائرة مدنية، وكأنه أمر مسلّم به يذكر في تعدد أشكال النشاط الإرهابي الموجود حاليا على الساحة.
بالعودة إلى ما انتهى إليه التنظيم الإرهابي نجد الغموض يزداد كثافة من حول الواقعة، فهناك حقيقة بأن التنظيم معترف بالمسؤولية، لكن متى كان تنظيم داعش أو أي من فروعه أو حتى أنصار بيت المقدس يبدو متلعثما هكذا، لدرجة أن يروي ثلاث روايات تناقض بعضها البعض حول واقعة واحدة، مؤكد وبالرصد الدقيق لتاريخ عملياته وبياناته أنه لم يسقط مرة واحدة في هذا الفخ، مع الأخذ في الاعتبار أننا أمام عملية إن ثبت قيامه بها، فهي بالمؤكد أيضا ذروة نجاحاته العملياتية، فكيف يكون غير مستعد لترويجها إعلاميا في خطاب متماسك يمتلك التنظيم آلياته بمهارة، أحد أهم الأجزاء التي افتقدها التنظيم على سبيل المثال في هذه العملية أنه لم يستطع التقاط صورة واحدة لمكان الحادث وقت سقوط الطائرة وقبل وصول أي من الأجهزة الأمنية للمكان، رغم أنه كان هناك فترة زمنية كافية تسمح له بذلك، فضلا عن سقوط الطائرة بالقرب من مدينة الحسنة جنوب العريش، وهي منطقة عاش فيها التنظيم طوال عامين وتمترس داخل دروبها، وأدار حروبه وعملياته على أراضيها التي يعلمها ككف يده، صورة واحدة كتلك التي أشرنا إليها كانت كفيلة بانقلاب المشهد رأسا على عقب، لكن التنظيم بدا وكأنه لا يعلم واضطر للجوء إلى مقطع مزيف بثه متعجلا، وهي نقيصة لم يقع فيها من قبل مطلقا، فالحرص البالغ على تصوير ما يزيد على 30 تفجيرا لخط الغاز مثلا وإذاعته بصحبة خطبة عصماء تمتلئ بالكلمات الدينية الفخمة، وإلحاحه على إبراز عدائه للجيش والأمن المصري، كل تلك الثوابت لم يقابلها أي جهد من قبل أعضاء التنظيم لإثبات ارتباطه بالعملية، بل بدا في بيانه الأخير أنه فقط متابع لنشرات الأخبار الدولية والمحلية ليلتقط من خلالها جملة «الثغرة الأمنية بمطار شرم الشيخ» والتي كان يلح عليها الجميع، ليضمنها في بيانه الذي صاحبته الصورة الملفقة والمستقاة أيضا مما كان يتداول إعلاميا، وهو بالقطع لم يستخدم تلك المفردة من قبل في توصيف أي من عملياته الناجحة.
قطعا الأمر يزداد غموضا، وفعل التنظيم الإرهابي غير محدد الملامح بالمرة، فأين كان دور التنظيم في العملية، هل كان التنظيم الإرهابي موجودا بالفعل أم تم الدفع به دفعا ليكون شماعة يمكن تعليق الاتهام في رقبته حين الحاجة؟ من جانبنا نرى أنه في أقصى تقدير ممكن قد يكون التنظيم ساعد من طرف خفي، أو قدم دعما لوجستيا محدودا لنجاح العملية، لكنه قطعا لم يمتلك أسرارها ولم يمسك بعصا القيادة فيها بالمطلق، وهنا نحاول أن نمسك بطرف هذا الخيط الوحيد الذي يمكن السير خلفه، لا بد إذن أن يكون هناك من أصدر تعليمات بالتنفيذ، بل وشارك بقوة في التنفيذ أيضا، فمن يكون هذا الطرف الذي لم يذكر اسمه أحد ممن ادعى أنه يمتلك المعلومات الاستخباراتية، وجميعهم كما أسلفنا لا يتوقع منهم الهزل أمام حادث كهذا، فهل الفاعل مطلوب إخفاؤه مثلا وهذا من الممكن توقعه في الحروب الاستخباراتية، وهنا لا بد من الوقوف أمام أعداء كل من مصر وروسيا فكلتاهما وقع عليها الضرر البالغ، من في أعدائهما يمتلك القدرة على التنفيذ والإرادة أيضا ومهارة النفاذ إلى تلك المنطقة الخطرة من مستوى العمليات الإرهابية.
أحد مرافقي وزير الدفاع الروسي البارزين في زيارته الأخيرة للقاهرة أجاب على أحد الأسئلة بخصوص حادث سقوط الطائرة بإجابة أكثر اقترابا، فهو ذكر للسائل جملة مقتضبة بأن الفاعل كان يوجه رصاصاته إلى قلب العلاقة المصرية الروسية مستهدفا تخريب التعاون بينهما، وهي إجابة لا علاقة لها البتة بتنظيم داعش ولا فرعه في سيناء، وليست ضبابية على الإطلاق إنما هي تتحدث عن دول لديها أهداف تسعى إلى تحقيقها حتى لو بأساليب غير مشروعة، فالدول وحدها هي ما تزن علاقات دولتين ببعضهما البعض، وقد يتقاطع مع مصالحها ما يتم اعتماده من آفاق للتعاون بين كلتا الدولتين، وعندما يضغط هذا التعاون على تلك المصالح بقوة ويبدو قاطعا لطريق مصالح تلك الدول، تقوم الأخيرة باللجوء إلى أجهزة استخباراتها لسؤالها عن الحلول الممكنة والقدرات على الأرض، وحينها بالضبط تبدأ عمل تلك الأجهزة لتقديم حلول، أو تحقيق أهداف يعجز الساسة عن إنجازها، وهي في هذا التحرك إما أن تقوم بالعمل بنفسها ومن خلال عناصرها أو اتصالاتها المباشرة، وإما يمكنها أن تستعين بأجهزة صديقة تمتلك ميزة نوعية في إتمام التنفيذ، كالقرب الجغرافي مثلا أو الارتباط مع عناصر موجودة على مسرح تنفيذ العملية، أو غيرها من إمكانيات تجعل اكتشاف الفاعلين كمطاردة خيوط الدخان.
هذا ما نمتلكه حتى اليوم من صفحات تلك الرواية التي يتسلح أبطالها حتى اليوم بالصمت، وحتى من تكلم منهم فهو لجأ إلى ردود أفعال غير مسبوقة توحي بفداحة وخطورة ما تم، ومساحة تهديده المستقبلي الذي يجعله يتحسب بهذا القدر، روايتنا بالطبع كغيرها مليئة بالأسئلة وتطارد إجابات تحلق في فضاءات الإقليم على اتساعه، وهو فضاء يضم أصدقاء وأعداء، ومثلكم تماما وضعنا الأوراق أمامنا، وننتظر أن يتقدم أحد للإفصاح عن أسماء، فهي فقط (الأسماء) ما نظنه ينقص روايتنا التي تتبعنا أبطالها وسطورها هنا وهناك.
* مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.