مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية

{الشرق الأوسط} تخترق مدارس التنظيم.. والمعلمون: غارقون مع «أشبال الخلافة»

مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية
TT

مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية

مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية

يجلس طلاب المدارس في مدينتي الرقة والموصل القابعتين تحت سيطرة «داعش» على ذات المقاعد الخشبية داخل صفوف كانت يوما تخرج أفواجا من الأطباء والمحامين والمهندسين. لكن هذه المؤسسات التعليمية أضحت اليوم بعدما استحوذ عليها التنظيم المتطرف، بؤرا لتخريج «أشبال الخلافة». الوصول إلى البؤر هذه تطلب محاولات عدة للتواصل والحوار مع مصادر موثوقة لنتلمس الحياة اليومية لمجتمع قابع تحت سيطرة التنظيم، وذلك للتمكن من دراسة حقيقة مناهج «داعش » في المؤسسات التعليمية التي يديرها بكل من الرقة والموصل. واستطاعت «الشرق الأوسط » التواصل مع من مدرسين وأولياء أمور الطلبة في تلك المدارس. ومن خلال شهادات عدة، نتعمق في تداعيات «التربية الداعشية» من ردود فعل وتمرد، لنستخلص الأسباب الحقيقية وراء تركيز التنظيم المتطرف على غسل أدمغة الطلاب. ومن خلال شهادات حية من صحافي من الرقة، وتوصيات متحدث عن حملة «الرقة تذبح بصمت»، نكشف مخاطر زرع آيديولوجيا التطرف في عقول الأطفال وكيفية إيقافها.
أصدر «داعش» العام الماضي تعميما في معاقله بسوريا والعراق ينص على إلغاء مناهج من المواد المقررة من قبل الحكومتين السورية والعراقية، وفرض مناهج خاصة به. وفي الوقت الذي يجبر الطلاب على اجتياز سنة دراسية ثانية تحت حكم التنظيم، تزداد التساؤلات حول تأثير تلك المناهج المعدلة على الأجيال اليانعة لتصبح التغيرات على نظام التعليم حقيقة، تلُح مخاطبة عواقبها. ويقول طاهر مقرش، المنسق العام لوكالة «قاسيون» للأنباء وهو سوري من الرقة ومقيم الآن في غازي عنتاب التركية وعلى تواصل دائم بأهالي الرقة إن «هنالك حالات كثيرة ناتجة عن ارتياد مدارس التنظيم آلت إلى تجنيد الطلبة»، إذ «حملوا السلاح والتحقوا بمعسكرات التنظيم». ويذكر مقرش جارا له التحق ابنه (11عاما) بصفوف التنظيم ولاقى حتفه. وآخر عمره 10 سنوات التحق وأصيب وهو الآن مصاب بعاهة دائمة بمنزل والده. ومن جانبهم، أكد مدرسو مناهج التنظيم وأولياء أمور الطلبة الذين أضحوا اليوم «أشبال الخلافة» في تصريحات لـ«الشرق الأوسط » على أن المواد تقود لغسل أدمغة الطلاب وتغيير سلوكهم. كما أشاروا إلى التشديدات والرقابة التي يفرضها التنظيم حرصا على منع تسريب مناهج أخرى وتعليمها للطلاب.
وكان جاء في البيان الصادر عن «ديوان التعليم» لدى التنظيم قرار إلغاء بعض المواد منها الموسيقى والفن والتربية الوطنية والعلوم التطبيقية، وإضافة مواد أخرى بدلا عنها كالفقه والتوحيد و«التربية الجهادية». وحمل التعميم بالإضافة إلى ختم التنظيم، توقيع كل من مسؤول المناهج «أبو رامي»، ومسؤول ديوان التعليم «ذو القرنين». وهو ألماني الجنسية من أصول مصرية غادر ألمانيا ملتحقًا بـ«داعش» ليشغل هذا المنصب بالذات. اتخذ ذو القرنين مقرا له في الموصل ويعد المشرف الأول على لجنة وضع المناهج.
استغرق إطلاق مناهج جديدة متكاملة وقتا طويلا. وفي بادئ الأمر، لم يكن من المتوقع أن يطرح التنظيم مناهج للمراحل الدراسية توافق فكر وطرح التنظيم الآيديولوجي، إلا أن ذلك سرعان ما تغير. وبعد انتظار دام أكثر من عام على وعود بتغيير المناهج بدأت تظهر تسريبات عن مناهج «داعش» وكان الأمر دون وقائع حتى بداية العام الدراسي الحالي، حيث لم يستطع التنظيم طباعة الكتب للطلاب، لذلك قام بطباعة الكتب على أقراص مدمجة وتوزيعها للطلبة وهم بدورهم يقومون بعملية الطباعة. خلقت هذه الخطوة حالة من الاستهجان في أوساط الطلبة، ولكنها كانت طريقة جيدة لتسريب المناهج إلى الخارج.
في كتاب مفصل بعنوان «الموصل بين احتلالين» تم نشره وتناقله عبر الإنترنت الشهر الماضي، تحدث أحد سكان المدينة التي تقع تحت سيطرة تنظيم داعش عن الحياة فيها منذ احتلالها على يد القوات الأميركية عام 2003 ووقوعها في قبضة التنظيم عام 2014. واستعرض الكتاب توجهات «داعش» في مجال التعليم في المدينة، إذ أورد تعليمات التنظيم الجديدة التي نشرت في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 التي شملت منع وضع أسئلة تتعلق بالوطنية أو بالمعاملات الربوية، والحوادث التاريخية المزيفة - حسب وصف «داعش» - والمواقع الجغرافية والحدود (المصطنعة)، كما اعتبرها. ويروي الكتاب عن الواقع التعليمي في مدينة الموصل، إذ تم تأسيس ديوان التعليم لإدارة العملية التعليمية في المدينة، الذي يرتبط به كل من جامعة الموصل، وكذلك مديرية تربية نينوى وتوابعها المسؤولة عن تعليم مئات الآلاف من التلاميذ والطلبة. ويحاول التنظيم جاهدا لتدريس مناهج جديدة تتضمن أفكاره.
قبل إعداد المناهج أصدر «داعش» تعليمات للمدارس والكادر التعليمي يفرض فيها دورات شرعية بغرض تثقيف المدرسين بما يطلبه التنظيم منهم في تعليم الطلاب في المدارس. وفي وقت لاحق، أعلن ديوان التعليم حاجته لموظفين بسبب إعفاء موظفين من مناصبهم وتعيين آخرين بدلاً عنهم من مدرسين يتم إخضاعهم لدورات سريعة قبل بدايتهم العمل في المدارس التي يسيطر عليها التنظيم. ولكن قبل ذلك يجب «استتابة» كل المعلمين على حدّ وصف مسؤول ديوان التعليم في إصدار تم توزيعه على المعلمين تحت اسم «التعليم في ظل الخلافة». وأشار الإصدار إلى أنه يمنع على أي معلم إعطاء دروس خاصة وإلا كانت عقوبته الإعدام، وفي حال اكتشف التنظيم وجود معهد يقوم بإعطاء دورات خاصة للطلاب، فإنه سيتم تغريمه بمبلغ قدره نصف مليون ليرة سورية.
وفي حديث أجرته «الشرق الأوسط» مع معلمين بمدارس «داعش» في مدينة الرقة السورية رفضوا الكشف عن هويتهم حماية لهم، أكدوا أن «تعاليم الشريعة المستوحاة من القرآن والتركيز على أهمية (الجهاد) هما محط تركيز مناهج التنظيم». وقالوا إن المواد التي يتم التركيز عليها في المدارس هي «اللغة العربية والفقه والتربية الإسلامية واللياقة البدنية»، مشيرين إلى أن «مادة الرياضيات باتت أقل أهمية مقارنة بالمواد المذكورة». وحول أهمية مادة اللياقة البدنية للتنظيم، يقول مقرش إنها «تعلم الأطفال فنون القتال واستعمال السلاح وتحاول إيجاد حالة ربط ما بين الطفل والسلاح والقتل».
وحول دقة وصحة معلومات المناهج، يقول المعلمون إن «الفقه والتربية الإسلامية منتقاة بعناية شديدة، حيث اختار التنظيم المواضيع التي تتناسب مع أفكار مؤسسيه ونبذ كثير من المواضيع التي تدين أعماله». كما كشفوا أنه يتم فصل الطلاب والطالبات لكل الفئات العمرية، وكذلك المعلمات على الإناث والمعلمين على الذكور ويمنع الاختلاط منعا باتا. وفي مدارس البنات التي لا يوجد فيها كادر من المعلمات كاف يكون هنالك حاجز وستار فاصل بين المعلم والطالبات.
وعند التحدث مع أهالي الطلبة بمدارس «داعش» في الرقة حول شعورهم إزاء المناهج الجديدة، قالوا لـ«الشرق الأوسط»، طالبين عدم الكشف عن هويتهم، إن «الغريق يتعلق بقشة، وإن يتعلم أبناؤنا شيئا قليلا خير من بقائهم يتخبطون بجهلهم، ولكن رغم ذلك فنحن نحاول نزع كثير من الأفكار من عقول أبنائنا». أما البعض الآخر فقال إن، «المناهج هي أبعد ما يكون عن التعليم، حتى مادة الرياضيات يتم تعليم الطفل الجمع خلالها عن طريق البنادق». واستطردوا موضحين أن، «العملية التعليمية للفتيات تكون من أجل تربية زوجات لمقاتلي التنظيم، حيث تعمل المعلمات على محاولة إقناع تلك الفتيات بالزواج من المقاتلين». وتتضمن الواجبات البيتية، بحسب أولياء الأمور، حفظ آيات من القرآن والأحاديث النبوية إلى جانب الكتيبات توزع أمام الجوامع، بالإضافة إلى خلق خاصية المجادلة لدى هؤلاء الأطفال حول مواضيع دينية معينة.
15 سنة كفيلة بأن يلتحق الطلاب بجامعات التنظيم، حيث أصدر تعليماته بتقليص سنوات الدراسة لتكون 9 سنوات بدل 12 سنة. وبحسب مراقبين، افتتح «داعش» كلية طب في مقر «نقابة المهندسين» بالرّقة، وتمكن من استقطاب عدد كبير من الشبان الذين تقدموا إلى امتحان القبول في كليتي الطب وفشلوا في تجاوزه، وأغلبهم ممن عملوا في المشافي الميدانية واكتسبوا خبرات في مجال الإسعافات الأولية ونقل الجرحى.
أكدت إحصائيات استخلصها موقع «الهافنغتون بوست» الأسبوع الماضي في مدينة الموصل والرقة أن مدرسة واحدة من بين 3 مدارس لا تزال تعمل. كما كشفت الإحصائيات أن نسبة المدارس التي يديرها التنظيم ولا تزال تعمل تصل إلى نحو 35 في المائة، وهذا يعكس حجم الإقبال الضعيف من الطلاب وعدم وجود كوادر تعليمية أيضًا، إضافة لعدم اعتراف العالم بشهادات تلك المدارس وضعف المادة العلمية، كما أن خوف الأهالي من تجنيد الأبناء دفعهم لمنعهم من الذهاب للمدارس.
ابتعد المعلمون بشكل عام عن التنظيم ومدارسه، لأن من يرغب بالتدريس أجرى له «داعش» دورة شرعية مطولة تم خلالها إفهام المعلمين فكره ونهجه. والذين ارتضوا التعليم بمدارسه أغلبهم بات متفقا مع تلك المناهج. وحول ذلك، يقول المدرسون الذين أجبروا على الالتحاق بمدارس التنظيم إنه لولا حاجتهم للراتب الذي يتقاضونه لإطعام أولادهم، لما اضطروا لتدريس مناهج «داعش» التي لا تتناسب مع قيمهم. وقال المدرسون إن الرقابة شديدة جدا على المدارس وداخل الصفوف؛ لأنها تدار من قبل مديرية التعليم التابعة بصورة مباشرة للتنظيم. والكادر الإداري من موجهين وجهاز إداري هم عناصر من التنظيم.
وبين المعلمين والأهالي، ليس هنالك حيز للمقاومة أو التمرد لأن «داعش» زرع الرعب في قلوب الجميع، والذبح عقوبة من يقف في وجهه. ويلحق عناصر التنظيم ومبايعوه أبناءهم بتلك المدارس. وتقتصر مشاهد التمرد في الرقة والموصل بين مناهضي «داعش» على إرسال الطلاب لمدارس بديلة في تركيا أو إلى تدريس الأطفال في المنزل سريا. ويوضح الصحافي والمخرج السوري طاهر مقرش بقوله: «في الوقت الراهن، حالة التمرد الوحيدة هي عدم إرسال الأطفال لمدارس التنظيم». ويضيف، «لكن التنظيم يمارس ضغوطا على العوائل التي تتلقى مساعدات منه ومن مقاتليه، وعلى الفقراء المسجلين بديوان الزكاة من أجل إرسال أولادهم للمدارس، مقابل ذلك».
يرى ناشطون في مجال التعليم وحقوق الطفل أن هناك بوادر كارثية مستقبلاً في التعليم في المدن التي تقبع تحت تنظيم داعش، وذلك لحجم التسرب من المدارس والضعف في المواد وعدم وجود محفزات لدفع الأهالي لإرسال أولادهم للمدارس خوفًا من التجنيد، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر حول حجم الأمية التي ستكون في بلدين بحجم العراق وسوريا. وحول تأثير التغيير في المناهج على الطلاب ونفسياتهم جراء التحاقهم بمدارس التنظيم، قال المعلمون إن «(داعش) يحاول إعداد ما يسميه بـ(أشبال الخلافة) ويبني جيلا متطرفا وفق معتقداته». فالطلاب الذين يدرسون بهذه المدارس يتأثرون كثيرًا بأسلوب التعليم الذي يجعل الطفل أحد عناصر التنظيم. فالمدارس هي مراكز دعوية ومراكز تجنيد لهؤلاء الطلاب بصورة مباشرة. والمنخرطون بها هم من الأهالي القريبين من التنظيم والمناصرين له. ويؤكد على ذلك أولياء أمور الطلبة؛ إذ ينوهون بتغيير في تفكير وسلوك أبنائهم وأنهم «أصبحوا يتمتعون بالعنف وأفكارهم بدأت تتلون بالسواد». كما يقول أحد الأهالي، «بت أخشى من ولدي بسبب موضوع عدم ذهابي إلى الصلاة في المسجد، ولم أعد أستطيع الضغط عليه أو التكلم أمامه عن التنظيم وفكره المنحرف، بل لم أعد قادرًا على منعه من الذهاب».
إلى ذلك، يشرح أبو محمد، أحد مؤسسي حملة «الرقة تُذبح بصمت» الخطوات التي اتخذتها الحملة لمقاومة مناهج «داعش» منذ بدء العام الدراسي بقوله: «حاولنا بشتى الطرق توعية الأهالي بخطورة هذه الخطوة، خصوصا أن الأطفال يتعلمون فقط منهج التكفير وقتل الشخص الآخر». ويستطرد بقوله: «قمنا بنشر منشورات توعوية وبعض الأعمال المدنية كالكتابة على الجدران لمحاولة إيصال الصورة الحقيقية لمناهج التنظيم، ونشرنا مجلة موجهة للأطفال تحتوي على رسوم كاريكاتورية للمحاولة لإيصال الفكرة للأطفال بطريقة تناسبهم». ويكشف أن الحملة قامت بدورها أيضا، «بشرح بعض المواد ومدى خطورتها، وطرحنا أمثلة كثيرة كان آخرها الأطفال السوريين الذين يفجرون أنفسهم في العراق، ومقتل عدد من الأطفال في أحد المعسكرات بعد قصف الطيران الحربي».
ويشدد أبو محمد أخيرا على أن تدريس هذه المواد سيكون له أثر خطير جدا على الطلبة لأن التنظيم يعمل بشكل جدي على تحويل جيل كامل إلى جيل إرهابي، ليكون مكملا لطريق التطرف في حال انتهى التنظيم. فالقضية بالأساس أن «داعش» والمجموعات المتطرفة الأخرى ليست عبارة عن مجموعة فقط، وإنما هي فكرة قد تدرس وتغذى بغسل الأدمغة، فالفكرة لا تموت بالسلاح والطيران فحسب، بل بالتوعية ومحاربة آيديولوجية التطرف.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.