ترامب.. مرشح الكراهية

تهرب من حرب فيتنام.. ورفض تأجير شقق عماراته السكنية للسود

ترامب.. مرشح الكراهية
TT

ترامب.. مرشح الكراهية

ترامب.. مرشح الكراهية

منذ أن أعلن ملياردير العقارات دونالد ترامب ترشيحه لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الجمهوري في الصيف الماضي، أثار كثيرًا من التعليقات، والانتقادات، واتهامات بالعنصرية، والنازية، والشيفونية. قال إن المهاجرين غير القانونيين من المكسيك «يغتصبون النساء»، وإن السيناتور الجمهوري جون ماكين لم يكن بطلاً في حرب فيتنام، بل كان «هاربًا»، وإن «صحافيًا يعمل مع صحيفة (نيويورك تايمز) قصير ومختل العقل». لكن، كانت أكبر هجمات ترامب على المسلمين. في البداية، دعا إلى تسجيل المسلمين في أميركا. ثم دعا إلى منع دخولهم أميركا.
من هو دونالد ترامب؟ وما هو أصل اسم «ترامب»؟ وهل أسس إمبراطورية عقارات، أو ورثها من والده؟ ولماذا يستعمل كلمات وعبارات نابية؟ ولماذا يؤيده عدد كبير من الجمهوريين؟
دونالد ترامب: «رجل أعمال أميركي، ملياردير، مستثمر، مؤلف، مقدم برامج تلفزيونية، رئيس مجموعة شركات ترامب، مؤسس فنادق ومتنزهات ومصايف، وكازينوهات قمار، وشخصية غير عادية في نمط حياته، وصراحة كلامه.. وأفاده كل هذا في مسعاه ليترشح لرئاسة الولايات المتحدة».
ولد وتربى ولا يزال يعيش في نيويورك. وعمره سبعون عاما تقريبا.
تعود جذور والده إلى ألمانيا. وهو رابع خمسة إخوة وأخوات. الآن، واحدة من أخواته قاضية اتحادية في نيويورك، والثانية مسؤولة كبيرة في بنك «تشيز مانهاتن» في نيويورك. ويدير أخ شركة العقارات في مجموعة شركات ترامب. وتوفي الباقون.
حسب كتاب «آل ترامب: ثلاثة أجيال بنت إمبراطورية» (كتبته الصحافية غويندا بلير)، هاجر والد والده إلى أميركا من ألمانيا. ويعود اسم «ترامب» إلى «درامف»، عائلة ألمانية عريقة اشتهرت بزراعة العنب وصناعة النبيذ. في الوقت الحاضر، على صفحته في «تويتر»، يكتب اسمه «دونالد درمف» (وليس دونالد ترامب).
في عام 1885، هاجر الجد، فريدرتش درمف من ألمانيا إلى أميركا. ومثلما سيفعل ابنه، ثم حفيده، تخصص في الاستثمار في مجالات الفنادق والمطاعم. وذهب إلى الساحل الغربي ليلحق ببقايا «الغزو الذهبي». (في الصيف الماضي، عندما ترشح دونالد ترامب لرئاسة الجمهورية، قال تلفزيون «سي بي سي» في كندا، إن جده تنقل على طول الساحل الغربي لكندا، وللولايات المتحدة، وكان يملك «مطاعم، وفنادق، ومؤاخير، ومنازل دعارة).
في عام 1995، بعد عشر سنوات في الدنيا الجديدة، نال الجد الجنسية الأميركية، بعد أن غير اسمه من «فردرتش درمف» إلى «فريدريك ترامب».
لكن، مثل ابنه وحفيده، كان الجد مثار نقاش ومغالطات. ليس فقط بسبب استثماراته، ولكن، أيضا، بسبب سلوكه، خاصة مطاردة النساء. بالإضافة إلى سمعة إدارة منازل دعارة. في عام 1902، أفلس وعاد إلى ألمانيا. وتزوج ألمانية. لكن، اعتقلته حكومة ألمانيا بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية (قبل ذلك بعشرين عاما تقريبا). وفي وقت لاحق، أطلقت سراحه، وطردته من ألمانيا.
عندما عاد إلى نيويورك مع زوجته، عاد مفلسا، وعمل حلاقا. لكنه، في آخر سنوات عمره، عاد إلى الفنادق والمطاعم. وعندما توفي عام 1918، ترك فندقا صغيرا، «فندق ترامب»، وتولى ابنه واسمه، أيضا، فريدريك ترامب (والد دونالد) إدارته.
وكانت تلك بداية إمبراطورية آل ترامب. نجح والد دونالد نجاحا كبيرا. وعندما توفي، ترك ثروة قيمتها 300 مليون دولار تقريبا. وهذا، عكس ما يفتخر دونالد ترامب، لم يبدأ من الصفر. وان نجح في توسيع الإمبراطورية التي بناها والده. وطبعا، تربى تربية شبه أرستقراطية. ودرس في مدارس خاصة. غير أنه، حسب زملائه في ذلك الوقت، كان مناكفا، وحتى والده قال ذلك (الآن، صار واضحا أنه استمر كذلك). في نهاية ستينات القرن الماضي، عندما جاء وقت التجنيد الإجباري لحرب فيتنام (كان عمره 22 عاما)، تهرب (لكنه، حتى اليوم، عندما تطارده أسئلة الصحافيين والمواطنين، يصر على أنه استثني استثناءً قانونيا).
في عام 1982، ظهر ترامب على غلاف مجلة «تايم»، بعد أن اشتهر بنجاحاته. كان اشترى فندق «كومودور» العريق في نيويورك، وحوله إلى فندق «غراند حياة»، واحد من أهم فنادق نيويورك. في ذلك الوقت، قالت مجلة «تايم» إن سجل ترامب في نيويورك ليس ناصعا. وذلك لأنه كان يرفض تأجير شقق عماراته السكنية للسود. وفعلا، رفعت وزارة العدل قضية ضده، واضطر لأن يدفع غرامة، ويتعهد باحترام قانون المساواة في السكن (كان أصدره الكونغرس قبل ذلك بعشر سنوات).
في عام 1988، اشترى ترامب كازينو تاج محل للقمار في اتلانتيك سيتي (ولاية نيوجيرسي). وفي عام 2001، بنى «مركز ترامب العالمي» (بالقرب من مركز التجارة العالمي الذي دمرته هجمات 11 سبتمبر (أيلول) في نفس العام. لكن، لم يصب مركز ترامب بأي أذى.
في بداية هذا العام، قدرت مجلة «فوربس» (لرجال الأعمال) ثروة ترامب بثمانية مليارات دولار (خلال حملته الانتخابية، ينتقد المجلة، ويقول إن ثروته أكثر من عشرة مليارات دولار).
حسب صحيفة «بوسطن غلوب»، توجد اليوم 515 شركة ومؤسسة ومكانا وإنتاجا يحمل اسم «ترامب»، ويملكها دونالد ترامب. منها: «ماء ترامب»، و«سيارات ترامب»، و«مقررات ترامب التعليمية»، و«أطعمة ترامب»، و«مراتب ومخدات وملاءات ترامب».
حتى الاستثمارات التي فشلت، تظل عالقة بأذهان بعض الناس: «خطوط طيران ترامب»، و«فودكا ترامب»، و«لحوم ستيك ترامب»، و«جامعة ترامب»، و«لعبة ترامب»، (يقلده اللاعبون في شركاته واستثماراته).
في ذكاء واضح، اتجه ترامب نحو «الاستثمارات الشعبية» (المجالات الرياضية والفنية). اشترى فريق «جنرالز» لكرة القدم في ولاية نيوجيرسي. ونادي «دونبيرغ» للغولف في آيرلندا. وفندق «تيرنبيري» في اسكوتلندا.
وفي مجال المهرجانات الفنية، اشترى شركات منافسات ملكة جمال الولايات المتحدة، وملكة جمال العالم، وملكة جمال مراهقات الولايات المتحدة. (في الصيف الماضي، بعد أن شن ترامب حملة عنصرية شعواء ضد المهاجرين من أميركا اللاتينية، ألغى تلفزيون «إن بي سي» عقده مع ترامب بنقل منافسات ملكة جمال العالم).
وفي مجال السينما والتلفزيون، ظهر ترامب في أفلام سينمائية مثل: «هوم الون» (وحيدا في المنزل). وقدم مسلسلات تلفزيونية، مثل: «ابرينتيس» (التلميذ) الذي كان يدرب فيه الشباب على فنون الاستثمار.
مثل والده، ومثل جده، تورط في علاقات غرامية ومطاردات النساء. في عام 1977، تزوج عارضة الأزياء إيفانا (مهاجرة من تشيكوسلوفاكيا)، ثم صادق الممثلة ماريا مابلز، ثم طلق إيفانا، ثم تزوج ماريا (بعد أن حملت منه، وولدت بنتا)، ثم صادق عارضة الأزياء كارا يونغ، ثم طلق ماريا، ثم صادق عارضة الأزياء ميلانا كناوس (مهاجرة من سلوفينيا)، ثم تزوجها (بعد أن حملت منه).
في الوقت الحاضر، وصل عدد المرات التي تزوج فيها ترامب إلى خمس مرات، ووصل عدد أولاده وبناته منهن إلى سبعة، ووصل عدد الأحفاد والحفيدات إلى عشرة (خمسة من أكبر أبنائه، دونالد ترامب الثاني، الذي يبلغ عمره خمسة وأربعين عاما، ويعتبر المدير الحقيقي لإمبراطورية والده).
في كتاب مذكراته الأول: «فن العودة (بعد أن كادت إمبراطوريته أن تنهار)»، قال إنه يحب النساء «مثلما لا أحب شيئا آخر»، وافتخر بكثرة زوجاته وعشيقاته. وكشف أنه حاول أن يصادق الأميرة البريطانية ديانا، بعد أن طلقها الأمير تشارلز. لكنها رفضته.
وفي كتاب مذكراته الثاني: «فن الصفقات»، قال إنه «مسيحي قوي، لكنى لست متدينا». ونفى وجود خلفية ألمانية يهودية عنده. لكنه قال إن بنته ايفانكا (من أمها إيفانا) تزوجت يهوديا. وقال: «ليس جدودي يهودا، لكن أحفادي يهود».
بالإضافة إلى كتابي «فن العودة» و«فن الصفقات»، ألف عشرة كتب أخرى. منها: «فن النجاح» و«كيف تصير غنيا» و«كيف تفكر مثل مليونير» و«لماذا نريد أن نكون أغنياء» و«لمسة ميداس: من يغنى ومن لا يغنى».
في الصيف، كعادة كل المرشحين لرئاسة الجمهورية، أصدر كتابا يساعده في حملته الانتخابية: «أميركا المقعدة، كيف نعالجها؟».
بالإضافة إلى أول مواجهة مع القانون في سبعينات القرن الماضي، عندما اتهم بأنه رفض إيجار شقق عماراته السكنية إلى السود، دخل ترامب في مواجهات قانونية أخرى كثيرة. خاصة بسبب استراتيجيته الاستثمارية التي صارت تسمى «الدونالد» (يغامر، ويشتري بقرض، ودون مقدم. في مرات كثيرة، كانت هذه الاستراتيجية سبب إعلانه الإفلاس (ثم الخروج من الإفلاس):
في عام 1991، أعلن إفلاس كازينو تاج محل في اتلانتيك سيتى (ولاية نيوجيرسي).
في عام 1992، أعلن إفلاس فندق ترامب بلازا في نيويورك.
في عام 1998، أعلن إفلاس شركة «طيران ترامب».
في عام 2004، أعلن إفلاس شركة «ترامب ريسورتز».
في عام 2009، أعلن إفلاس شركة «ترفيه ترامب».
في كل مرة من هذه المرات، كان ترامب يذهب إلى المحاكم للدفاع عن نفسه بسبب دعاوى بنوك أو مؤسسات استثمارية. وفي مرات كثيرة، اتهمه قضاة بأنه يغامر مغامرات متطرفة.
وذهب ترامب إلى المحاكم مرات كثيرة أخرى عندما رفع قضايا ضد صحافيين كتبوا تقارير، أو أصدروا كتبا، تتهمه بالفساد. منها قضية ضد الصحافي تيموثي أوبراين، مؤلف كتاب: «أمة ترامب: فن أن تكون مثل دونالد».
يوم الخميس الماضي، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرا عن ترامب تحت عنوان: «وراء الفوضى.. استراتيجية». قالت فيه إنه، خيرا أو شرا، خطأ أو صوابا، نجاحا أو فشلا، زوجا أو عشيقا، يظل يسير على طريق «الانتظام والمنهجية». منذ البداية وحتى الوقت الحاضر. ويظهر ذلك في تصريحاته السياسية، التي «تبدو غوغائية، لكنها منتظمة». ويظهر، أكثر في تغريداته في صفحته في موقع «تويتر» (خمسة ملايين متابع). يكتب الرأي، وفي اليوم التالي يضمنه في خطبه السياسية وتصريحاته للصحافيين:
أولا: كتب أن المهاجرين المكسيكيين «يغتصبون النساء (البيضاوات)».
ثانيا: كتب عن بطولة السيناتور جون ماكين في حرب فيتنام بأنه «بطل لأنه هرب».
ثالثا: كتب أن «آلاف المسلمين» في ولاية نيو جيرسي هللوا عندما دمرت الهجمات الإرهابية مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001. (رغم عدم وجود أي دليل على ذلك، رفض أن يصوب نفسه).
رابعا: كتب عن هيلاري كلينتون أنها «ليست قوية، وليست مصممة» لتكون رئيسة للولايات المتحدة. (اعتبر كثير من الناس أن هذه إساءة لأنها امرأة).
خامسا: كتب عن ريك باري، حاكم ولاية تكساس: «يحتاج إلى نظارات جديدة حتى يقدر على أن يرى الجرائم التي يرتكبها المهاجرون غير القانونيين».
وفي «منهجية وانتظام»، يكتب: «سأتكلم اليوم في تلفزيون (إيه بي سي) السادسة والنصف مساء»، و«الآن فزت في ولاية أيوا».
منذ أن أعلن ترشيح نفسه في يونيو (حزيران) الماضي، كتب أكثر من ستة آلاف تغريدة في «تويتر» (كل يوم، ثلاثين تقريبا).
حسب صحيفة «واشنطن بوست»، لا يوجد تصويب أو اعتذار في تغريداته. بما في ذلك منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. مؤخرا، غرد عن ردود الفعل: «شيء غريب، يوم مدهش. يرفض كثير من الأغبياء الاعتراف بخطر بعض الذين يأتون إلى وطننا».
يوم الخميس الماضي، في استطلاع مشترك لتلفزيون «سي بي إس» وصحيفة «نيويورك تايمز»، قالت نسبة ثمانين في المائة من الأميركيين إنهم يتوقعون مزيدا من الهجمات الإرهابية قريبا. هذه أعلى من نسبة الذين قالوا ذلك بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001.
لهذا، ربط الاستطلاع بين الخوف من الإرهاب وزيادة شعبية ترامب. وقالت نسبة 40 في المائة إنهم «متأكدون جدا» من أن ترامب سيكون أحسن رئيس يواجه الإرهاب. وهذه النسبة أعلى كثيرا من نسب منافسيه. وتظل نسبة التأييد وسط الجمهوريين أعلى أيضا: 35 في المائة (تيد كروس الثاني بنسبة 16 في المائة).
يوم الجمعة الماضي، في استطلاع وكالة «بلومبيرغ» الصحافية، قالت نسبة ثلثي الجمهوريين إنهم يؤيدون دعوة ترامب بمنع دخول المسلمين الولايات المتحدة. وقال الثلث الباقي إنهم ربما سيؤيدونه (يعنى هذا أن كل الجمهوريين تقريبا يؤيدون منع دخول المسلمين).
في الأسبوع الماضي، في استطلاع أجراه معهد «بروكنغز» في واشنطن، قالت نسبة 37 في المائة من الأميركيين إن نظرتهم إلى الإسلام «إيجابية» (61 في المائة قالوا «سلبية»). لكن، قبل خمس سنوات، كانت نسبة «إيجابية» أعلى بعشر نقاط (47 في المائة).
وقال شبلي تلحمي، أستاذ في المركز وأيضا في جامعة ماريلاند، والذي أشرف على الاستطلاع: «منذ هجمات 11 سبتمبر عام 2001، يظل الأميركيون يربطون بين الإرهاب والإسلام ربطا قويا».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.