يعرف الناس كثيرا عن غاليليو (1564 / 1642)، وبمجرد أن يذكر اسمه يظهر كثير من المعطيات على السطح، مثل دفاعه عن كوبيرنيكوس ومن ثم فكرة دوران الأرض، وكذلك ضربه لفكرة نقاء السماء القديمة، إذ إن مشاهدته للسماء سنة 161، بواسطة التلسكوب الذي طوره بنفسه، جعلنا نرى قمرا ليس بالجمال المعتاد، فهو مجرد وديان وتراب وتضاريس لا علاقة لها بالصفاء المزعوم قديما، إلى درجة السخرية من الشعراء الذين كانوا يشبهون الجمال بالقمر، بينما حقيقة الأمر أنه جد بشع، ولا يصلح أبدا لأن نجعل منه رمزا للجمال. أما الشمس فهي مليئة بالبقع السوداء، إضافة إلى أن خريطة النجوم التي حددها الإنسان القديم بالعين المجردة، واضعا لها جداول إحصائية، وصانعا منها بروجا كمعالم للرؤية، معتبرا نفسه أنه قد ضبطها ضبطا، لم تكن إلا زعما كاذبا.
فمنظار غاليليو سيكشف عن وجود نجوم جديدة، وهو أمر جارح آنذاك، لأن السماء بدت لا نهائية عكس الاعتقاد القديم، الذي كان ينظر إلى العالم باعتباره محدودا ومغلقا ومحاطا بالقبة السماوية. وهنا لا يجب أن ننسى أن جيوردانو برونو أعدم سنة 1600 حرقا، نظرا لترويجه فكرة لا محدودية العالم. وها هو غاليليو يقدم الأدلة الدامغة على صدق قوله. ويمكن أيضا أن نستحضر من أعماله الغزيرة اكتشافه لقوانين سقوط الأجسام، ناهيك بأن الكل قد سمع عن محاكمته ذائعة الصيت، من طرف ديوان التفتيش الكنسي. لكن القضية التي لا يتم التنبيه إليها كثيرا، والتي سنتناولها في مقالنا هذا، هو الجانب اللاهوتي في أعمال غاليليو. فالرجل وتحت ضغط الهجوم الضاري على جرأته في قلب الحقائق الفلكية، التي كانت سائدة ومعتمدة آنذاك، والمتوافقة والكتابات المقدسة، اضطر إلى الخوض في النصوص الدينية دفاعا عن نفسه من جهة، ومحاولة منه إيجاد التوافق المفقود بين التفسير القديم للنصوص والمعطيات العلمية الناشئة. فكيف ذلك؟ وما تأويلات غاليليو؟
القصة وكما هو معروف بدأت في سنة 1543، وهي السنة التي توصل فيها عالم الفلك البولوني، نيكولاس كوبيرنيكوس الكاثوليكي، وهو على فراش الموت، بنسخة من كتابه الذي تردد في نشره لمدة تناهز الثلاثين عاما. إنه كتاب «في دوران الأجرام السماوية»، الذي سيخرج إلى الوجود، بتمهيد كتبه صديقه أوسياندر، الذي سيعمل من خلاله على التخفيف من وطأة الكتاب الذي يدافع عن دوران الأرض ومركزية الشمس، وهو المنافي للكتابات المقدسة، عن طريق إبراز أن الفلك لا يبحث في الأسباب الحقيقية للطبيعة، فهذا من اختصاص الفيزياء، بل هو علم يهتم فقط بتاريخ حركة الأجرام السماوية. لهذا فهو يصنع الفرضيات الهندسية الأكثر ملاءمة، من أجل التنبؤ الجيد لمكان الأجرام في السماء. لهذا ليس المهم أن تكون هذه الفرضية أو تلك صحيحة، أي فرضية مركزية الأرض أو فرضية مركزية الشمس، بل المهم هو أن تمنح حسابات دقيقة. إذن مع هذا التصدير للكتاب الذي يناشد بأن لا نطلب من الفلك أي شيء حقيقي، ما عدا الحسابات الدقيقة، سينتشر الكتاب عند الكاثوليك، بهدوء ودون ضجة، لأنه لا يجسد الواقع، إنه مجرد رياضيات تضبط لنا التقويم ومواقع الأجرام، ومن ثم لا خوف علينا منها.
لكن الأمر لم يكن عند الحركة البروتستانتية، وهي الحركة النصية والحرفية، كما عند الكاثوليك، حيث ستهاجم هذه الحركة كوبيرنيكوس هجوما شرسا، من طرف زعيمها مارتن لوثر، بصرخة مشهورة وهي: «هذا الأحمق يريد قلب كل الفن الفلكي». فلوثر سيدين كوبيرنيكوس، بل سيسخر منه لأنه ببساطة ينزع الثقة عن الحس المشترك، أي أنه ضد الحواس لصالح بهلوانياته العقلية، ناهيك بأن هناك كثيرا من النصوص المقدسة تؤكد ثبات الأرض وحركة السماء، ومن ثم يعد كوبيرنيكوس مارقا يريد القول بعكس المقدس.
في هذا السياق بالضبط، سيأتي الحديث عن غاليليو. فهو سيؤمن بالكوبيرنيكية حتى النخاع، وسيعلن ذلك لبعض أصدقائه في 1597، لكنه سينتظر 10 سنوات أخرى كي يصدح بما لديه، فقد كان ينتظر الأدلة المقنعة، وهذا ما تأتى له عندما طور التلسكوب، ووجهه نحو السماء مكتشفا الحجج الملموسة (مثلا سيكتشف أقمارا تدور حول المشتري، وهو ما يعني أن الدوران لا يتم فقط حول الأرض...)، التي تجعل من فكرة دوران الأرض فكرة ليست فقط رياضية، بل هي فكرة صائبة فيزيائيا، وتجسد الحقيقة وليس الافتراض فقط. فراجت أفكاره، وأصبحت ذائعة عند العموم. وهذا ما جعل بعض رجال الدين يتخوفون من الأمر، لأن النصوص الدينية تقول بعكس كلام غاليليو. وهو إحراج سيضرب هيبة الكنيسة المهددة، أصلا، من طرف البروتستانتية، ما جعل البعض يتجند ضد غاليليو، إلى درجة الزج به في سؤال العلم والدين. فكيف ذلك؟
ما دام أن النظام الفلكي القديم أصبح مهددا، فقد تكتلت كل القوى المناهضة لتشكيل جبهة مقاومة، وكانت أول خطوة هي النيل من غاليليو صاحب الشعبية العالية في أي مناسبة، وذلك ما حدث فعلا. ففي سنة 1613 تمت دعوة الأب كاستيلي، صديق غاليليو، إلى حفل أقامه البلاط تحت رعاية الدوقة كريستين دو لورين، التي طرحت عليه وبإيعاز من بعض الحاسدين لغاليليو، أثناء تناول وجبة العشاء، أسئلة حول تلاؤم الكوبيرنيكية مع تعاليم الكتاب المقدس، وخصوصا ما يتعلق بحجة معجزة يشوع، حيث جاء في سفر يشوع، الإصحاح العاشر: «حينئذ قال يشوع للرب يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل، أمام عيون إسرائيل: (يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون)، فدامت الشمس ووقف القمر، حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر؟ فوقفت الشمس في كبد السماء، ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل». يحكي هذا النص قصة يشوع، تلميذ النبي موسى، الذي طلب من الرب أن يوقف الشمس كي يتمكن من الانتصار في الحرب، فتوقفت، ما يعني أن الشمس متحركة، وهو ما يخالف نظرية كوبيرنيكوس.
عندما سمع غاليليو بقصة الحوار الذي دار بين كاستيلي والدوقة كرستين دو لورين، اضطر وعلى عجل إلى الرد على خصومة برسالة إلى كاستيلي بتاريخ 21 ديسمبر (كانون الأول) 1613، يشرح فيها وجهة نظره حول العلاقة بين العلم الناشئ والكتاب المقدس، ليقول فيها لكاستيلي:... لقد سمعت عن حضورك لدعوة الدوقة كرستين دو لورين بمعية مجموعة من الشخصيات والفلاسفة البارزين، وكيف أنه جرى سؤالك عن مدى ملاءمة الكوبيرنيكية مع بعض مقاطع الكتابات المقدسة، خصوصا معجزة يشوع. إن الحجج التي قدمتها أنت بحضرة الدوقة، جعلتني أعاود التفكير من جديد في العلاقة القائمة بين الكتابات المقدسة والفلسفة الطبيعية. إني أعرف انك قد أكدت لصاحبة الفخامة، إن الكتابات المقدسة لا تكذب أو يشوبها الزلل، فهي تجسد الحقيقة المطلقة التي لا ينبغي انتهاكها. إلا أنني أريد أن أضيف من جانبي أن الكتابات المقدسة لا يمكن أن تكون موضع زلل إلا إذا تجنب بعض الشارحين أو المفسرين الأخطاء التي يعد أخطرها والأكثر شيوعا، تلك التفسيرات الداعية إلى الوقوف على المعنى الحرفي والخالص للكلمات. فهذا لا يجرنا فقط إلى التناقضات، إنه يجرنا نحو الهرطقة بل التجديف. إذ سيصبح لله الأرجل والأيادي والعيون والأحاسيس الجسدية التي للإنسان، كالغضب والندم والحقد، ونسيان أحداث الماضي والجهل بالمستقبل، وكل هذا مجانب للصواب، وقد يحصل بسهولة في حالة التعامل مع ظاهر النص والاكتفاء بالمعاني العارية للكلمات. وإذا ما تساءلنا لماذا وجدت الكتابات على هذه الشاكلة، يقول غاليليو في رسالته: لكي تتلاءم والقدرات الضعيفة لعموم الناس، ومن جهة أخرى على علماء التفسير قراءة المعاني مجازيا والبحث عما وراء اللفظ.
لقد أكد غاليليو أن كثيرا من مقاطع الكتاب المقدس تحتاج إلى التأويل والابتعاد بها عن الظاهر نحو المعنى الخفي المحتمل. وكتطبيق نموذجي، سيتناول غاليليو، وإن بطريقة متعسفة، معجزة يشوع بالتأويل، وهي التي يحتج بها لوضع فكرة دوران الأرض في تناقض مع الدين، ليبين أن إيقاف يشوع للشمس أمر مستحيل، لأنه يتناقض ومركزية الأرض التي حددها بطليموس، لأن حركة الشمس في هذا النظام تحتاج إلى المحرك الأول. فإذا ما اتجهنا مع حرفية النصوص، وفهمنا أن يشوع قد أوقف حركة الشمس لينهي معركته، فإن هذا كان سيؤدي إلى فساد نظام الكون بأكمله، وهذا ما لم يحدث.
إن حجة غاليليو هي أقرب إلى الجدل والسفسطة منها إلى العلم، ولكنه كان مضطرا إلى فعل ذلك. فالكتابة في زمن الرقابة الدينية تزج بالعالم نحو التحايل والتوفيق والتلفيق ولو على حساب الصرامة والدقة العلمية. من كل هذا، كان غاليليو يريد التلميح إلى أن الكتاب المقدس يتناول الأمور العلمية بسطحية، لأن مهمته ليست تقديم معطيات علمية، بل مهمته تتعلق بالروح، وهو مروج العبارة الشهيرة: «الكتاب المقدس يعلمنا كيف نذهب إلى السماء وليس كيف هي السماء».