مثقفون مغاربة: على التلفزيون أن يكون رافعة للثقافة المغربية

بين شماعة «ما يطلبه المشاهدون» وسؤال «صناعة الوجدان»

مشهد من إحدى حلقات برنامج «مشارف» أبرز البرامج الثقافية في التلفزيون المغربي («الشرق الأوسط»)
مشهد من إحدى حلقات برنامج «مشارف» أبرز البرامج الثقافية في التلفزيون المغربي («الشرق الأوسط»)
TT

مثقفون مغاربة: على التلفزيون أن يكون رافعة للثقافة المغربية

مشهد من إحدى حلقات برنامج «مشارف» أبرز البرامج الثقافية في التلفزيون المغربي («الشرق الأوسط»)
مشهد من إحدى حلقات برنامج «مشارف» أبرز البرامج الثقافية في التلفزيون المغربي («الشرق الأوسط»)

تتفق أغلب الكتابات المهتمة بعلاقة الثقافة والتلفزيون المغربي على وصفها بـ«الملتبسة»، مع التشديد على الحاجة إلى تحقيق نوع من المصالحة بين المثقفين والتلفزيون، الذي يبقى القناة الأكثر فعالية في مجال الترويج للأفكار وتقريبها من مدارك المواطنين.
وما بين أماني تحقيق المصالحة بين منتجي الأفكار والتلفزيون، من جهة، وواقع الحال، من جهة ثانية، مسافة تختصر الهوة بين المثقف والمجتمع، لذلك يرى المتتبعون للشأن الثقافي في المغرب، أن «علاقة التلفزيون المغربي مع البرامج التي تعنى بشؤون الفكر والأدب، ليست على ما يرام»، مستدلين في ذلك، بأن «جل البرامج التي تعنى بشؤون الفكر والأدب لم تعمر طويلاً»، و«حتى إذا ما حافظ أحدها على استمراريته فإنه عادة ما يبرمج في غير أوقات المشاهدة العالية».
من جهتهم، يدافع المثقفون عن حاجة الثقافة إلى «موقع قار ضمن خريطة برامج التلفزيون المغربي»، مع التشديد على الدور الحيوي للثقافة في «التنمية والتوعية والتهذيب والرفع من منسوب التحضر»، آملين أن يشكل التلفزيون المغربي «رَافِعَة للثقافة المغربية»، لذلك ينادون بـ«ضرورة الاستثمار في البرامج الثقافية»، و«ربط الإنتاج والبرمجة التلفزيونيين بالثقافة»، مع الحرص على «دعم الفنون والآداب والإنتاجات الوطنية»، و«الاهتمام بمكونات الهوية الوطنية بشكل يثمّن التنوع، ويصالح المغاربة مع تاريخهم، ويروج للقيم الإيجابية، في إطار مهمته الاستراتيجية الجديدة، المتمثلة في تكريس قيم المواطنة والديمقراطية ورسم الأفق الحداثي للبلد»، بشكل «يمكن من تقديم خدمة تستجيب لمتطلبات التثقيف وترسيخ قيم المواطنة والتعدّد والانفتاح وتثمين المقومات الثقافية والحضارية للمغاربة».
ويرى الكاتب والإعلامي عبد الصمد الكباص، أن «وضع التلفزيون بالمغرب يجسد النظرية التي كشفها ريموند ويليامز سنة 1974، والمتمثلة في وقوعه على جوهر التلفزيون باعتباره نمطًا من التدفق الذي من خلاله تستوطن شركات الإعلان والإشهار إحساس المشاهد وذهنه، حيث تتحول المواد المدرجة للاستهلاك من قبل عين المتفرج إلى تجسيد مباشر لصراع المعلنين الذي يحتكر موقع تحديد قيمة الأولوية المنسوبة للمواد المعروضة ودرجة أهميتها».
وانطلاقًا مما يستوطن إحساس المشاهد وذهنه، وفق نظرية ويليامز، يشدد الكباص على أن «الثقافة تمثل الضحية الأولى لهذا الصراع في القنوات العمومية المغربية، التي لم تحمِ نفسها، من منطق فرض الطابع التجاري على النشاط الإعلامي»، مشددًا على أنه «كيفما كانت أهمية محتوى البرامج الثقافية المقدمة في القنوات العمومية المغربية، فإن السياق الذي تُعرض فيه يفرض عليها أن تتجرد من هذه الأهمية، لكونها تهمش في مواعيد، تؤول الثقافة بأنها قضية أقلية، واحتياج مجموعة معزولة. لذلك فإن تأثيرها المرجو في الجمهور وليس في المثقفين فقط، يصبح شبه منعدم».
يشير الكباص إلى أن «التحول الذي وقع في المغرب، بعد التحرير المحدود للمشهد المسموع والمرئي، وتحويل التلفزيون والإذاعة إلى شركة عمومية، تمثل في تحطيم الحدود بين ما هو تجاري وما هو مبني على مسؤولية اجتماعية مرتبطة بالمشروع الاجتماعي للدولة. وهكذا، وبمنطق التجارة المسيطر، أضحى المبتذل خطابًا مهمًا في الإنتاج التلفزيونية، يحتل موقع الحظوة، ويدفع للاستيلاء على ساعات الذروة، والأساس في كل ذلك مردوديته التجارية المبنية على نسبة المشاهدة والقياس الكمي للمتابعة. وفي ظل هذا الوضع، فالثقافة تدفع على الرغم منها، إلى الهامش المفروض على مضض من قبل دفتر التحملات، والذي يظهرها بالصيغة التي تقدم بها، كمصدر عبء مفروض على المنتجين، لا يرغب أحد فيه، وجمهوره يتخلى عنه باستمرار».
ينتهي الكباص، من تشريحه لعلاقة التلفزيون المغربي بالثقافة وانتظارات المثقفين، إلى أنه «طالما أن الإعلام العمومي مشغول بالمنطق التجاري ويحتكم إلى القياس الكمي للمتابعة، فسيواصل قتل المردودية المطلوبة من البرامج الثقافية مهما بلغت جودتها، وبالتالي سيواصل قتل الثقافة في صلب الاهتمام الاجتماعي داخل المجتمع».
من جهته، ينتهي الشاعر والإعلامي ياسين عدنان، الذي يعد ويقدم «مشارف»، أحد أبرز البرامج الثقافية التي يقترحها التلفزيون المغربي في السنوات الأخيرة، من رصده للعلاقة «الملتبسة» بين الثقافة والتلفزيون المغربي، إلى أن هذا الأخير «يحتاج إلى أن تخضَع برمجتُه من ألفها إلى يائها إلى تصور ثقافي واضح»، مشددًا على أن «النقاش منذ البداية لا يمكنه أن يكون إلا ثقافيًا»، و«أن يبدأ بمعرفة طبيعة الإنسان عندنا، تركيبته النفسية، شرطه السوسيولوجي، قيمه وتطلعاته، وكذا ثقافته السياسية ونوعية المستقبل الذي نريده للبلاد دولة ومجتمعًا»، وأنه «حينما تتشكل لدينا تصورات واضحة عن الفرد والمجتمع يمكن إذّاك لدورتي الإنتاج والبرمجة أن تنطلقا بسلاسة ووضوح. حينها، فقط، سنكتشف أن اختيار فقرات سهرة نهاية الأسبوع الفنية هو في العمق مسألة ثقافية. وأن اختيار سلسلة لرسوم الأطفال المتحركة قرار يستحيل اتخاذه دونما تنسيق مع رجال التربية في البلد؛ وأن الدراما، سواء أنتجناها في استوديوهاتنا المحلية أو استوردناها من أصقاع بعيدة، تظل في صلب مسألة القيم، ويمكنها أن تلعب دورًا خطيرًا في بلبلة قيم المجتمع ما لم نناقشها بجدية، انطلاقًا من تشخيص سوسيولوجي واضح للتحولات التي طالت وتطال منظومة القيم لدينا».
ويجد هذا التشديد، من قبل عدنان على ارتباط التحولات التي تهم منظومة القيم بوضوح التصورات عن الفرد والمجتمع، أهميته في أن التلفزيون صار، اليوم، «الآلية الأكثر تأثيرًا على البشر: صغارًا وكبارًا، أفرادًا ومجتمعات»، وأنه «وحده التصوّر الثقافي العميق الواضح يمكنه أن يتحكّم في آلية بهذه الخطورة ويكبح جماحها، مشيرًا إلى أنه «ما زال بيننا من يرى أن التلفزيون سيفقد بريقه ووهجه إذا ما ذكرت داخل استوديوهاته، ولو عرَضًا، كلمة ثقافة». لذلك، يشدد عدنان على أننا ما زلنا لم ننتبه، حتى الآن، إلى أن «المنافسة تتم أصلاً في المعترك الخطأ»، من جهة أن «التنافس على الرفع من نسب المشاهدة بجميع الوسائل والمواد، حتى لو كانت خردة مسلسلات مكسيكية رخيصة أو مجموعة من السيتكومات الملفّقة، والفوز بأكبر نصيب ممكن من كعكة الإعلانات، حتى ولو جاء ذلك على حساب هوية القناة والتزاماتها إزاء المجتمع، مثل هذه المنافسة لا نجد فيها رابحًا، لأننا ببساطة قد نكسب المزيد من المشاهدين، وبالتالي المزيد من الإعلانات لكننا نخسر الإنسان»؛ لذلك يبقى «تعزيز» البرمجة الثقافية في التلفزيون «مطلبًا حيويًا»، ما يدفعنا إلى الاختيار بين أمرين: «هل نريد شعوبًا يقظة لها حد أدنى من المعرفة والوعي والقدرة على التمييز؟ أم نريد كائنات استهلاكية هشة لا مناعة لها ومستعدة لابتلاع أي خطاب مهما كان سطحيًا وحتى لو كان خطيرًا وتتلقى الفرجة السطحية والتفاهات برضا وتسليم؟».
يوسع عدنان من مشهد الرصد وتحديد المسؤوليات، ليشدد على أن «الإعلام بشكل عام، وليس التلفزيون فقط، يتحمل مسؤولية كبرى في لعب دور الوساطة ما بين الثقافة والأدب، من جهة، والمجتمع من جهة أخرى»، ملاحظًا أن المشكلة تبقى في أن «الإنتاج الرمزي لا يحظى بالاعتبار اللازم لأن منطق الاستهلاك لا يعترف بما هو رمزي. والإنتاج الثقافي والإبداع الأدبي يدخلان في إطار الإنتاج الرمزي الذي يساهم في صناعة الوجدان العام ويرفع من تحضُّر المجتمعات. والأدب بالخصوص ما زال مظلومًا في مجتمعاتنا العربية. فلا أحد من خبراء نسب المشاهدة يبدو مستعدًا لاستيعاب أولوية أن يساهم التلفزيون في دعم الأدب والإنتاج الأدبي وأن يعتبر ذلك جزءًا من دوره في بناء مجتمعات متزنة، منفتحة، بل وحالمة أيضًا بالمعنى المنتج الخلاق لهذه الكلمة».
من جهته، يرى باسم الهور، صحافي ومنتج برامج بالقناة «الثقافية» المغربية، أن «الحديث عن مكانة الثقافة في الإعلام المسموع والمرئي العمومي بالمغرب، لا يستقيم إلا بتسليط الأضواء على السياقات المتنوعة التي أحاطت بتطور الإعلام المسموع والمرئي المغربي بصفة عامة»، بعد أن «انتبهت الدولة إلى ضرورة تأهيل الإعلام المسموع والمرئي على المستويين القانوني والتشريعي من جهة، وعلى الصعيد الاستراتيجي والعملي، من ناحية أخرى».
يتوقف الهور عند ما سمّاه «المنعطف التاريخي البارز»، المنسجم مع «توجه استراتيجي جديد للمغرب في تعامله وتدبيره لملف الإعلام المسموع والمرئي، تحولت بموجبه الإذاعة والتلفزيون المغربية إلى مقاولة إعلامية مملوكة للدولة، اسمها «الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة»، ملاحظًا أن هذا التحول في المشهد الإعلامي الإذاعي والتلفزيوني «عبد الطريق أمام إطلاق باقة من القنوات الموضوعاتية والمتخصصة والعامة، والتي عززت القطب الإعلامي العمومي التلفزيوني». وهنا، سيتحدث عن قناة «الثقافية»، التي «انطلقت مع بداية سنة 2005، كقناة تلفزيونية موضوعاتية، أهدافها تعليمية وتربوية وتثقيفية، أيضًا، معتمدة في ذلك على شبكة برامجية متنوعة تمزج بين الإنتاج الداخلي للقناة والخارجي، أيضًا، قبل أن تتخذ هذه القناة شكل ومضمون الثقافة، وتسعى لكسب رهان التعريف وتثمين الهوية والثقافة المغربية، التي قوامها التنوع في الروافد والانفتاح على الثقافة الإنسانية والكونية».
وإذا كان رهان الشبكة البرامجية للقناة، خصوصًا في شقها المتعلق بالإنتاج الداخلي والوطني، هو «إيلاء العناية والتركيز على الثقافة والهوية المغربيين، على مستوى الشكل والمضمون»، فإن هذا المعطى، يضيف الهور، «لا يأتي على حساب الترجمة الوفية لمبدأ انفتاح الثقافة المغربية على البعد الكوني، حيث خصصت القناة حيزًا هامًا من شبكتها البرامجية لمواد تلفزيونية تتطرق لكافة تمظهرات الثقافات المتنوعة التي تعبر عن جغرافيات كثيرة. ووفق هذا المنظور، اجتهدت القناة وما زالت، في الإجابة على جملة من الأسئلة المحورية: ماذا نريد من هذه القناة؟ ولمن يتوجه منتجها الإعلامي؟ وكيف؟ فيما يظل سؤال: وبماذا (وسائل وموارد وظروف العمل)؟ حارقًا، مع قلة الحيلة والنقص الحاد في الموارد البشرية واللوجيستيكية». غير أن «ما يثلج الصدر ويحث على المزيد من المثابرة ورفع كل التحديات»، يختم الهور، يبقى «التفاعل الإيجابي الذي تحظى به القناة في الوسط الثقافي المغربي، والمتمثل في استحسان وتقدير كل الفاعلين والمهتمين والمتلقين، لما تقدمه من مردود ومنتج إعلامي، له ما له من نصيب الاجتهاد، وعليه ما عليه من النقائص التي مردها قلة الحيلة».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي