الغربة الإجبارية، وهي غربة كثير من المثقفين العرب، وآخرهم المثقفون السوريون، مختلفة تمامًا عن الغربة الاختيارية، التي عرفها أهل الشام، وخصوصا اللبنانيين المثقفين الذين هاجروا إلى الأميركتين (الشمالية والجنوبية) في ما بين 1870 حتى أواسط 1900، مثل جبران، وميخائيل نعيمة، وإليّا أبو ماضي، ونسيب عريضة. وعرفها ويعرفها كثير من المثقفين المغاربة المهاجرين لأسباب غير سياسية.
الغربة الإجبارية تفتقد عنصر الحرية، وهو الأساس في أي مسعى لتحقيق شيء ما، وبالتالي، سيكون الفقدان كبيرًا جدًا. تسرق هذه الغربة الوطن والأهل والأصدقاء، وتقطع تطور المبدع الطبيعي. إنها تسرق أرضيته الصلدة التي يمكن أن ينطلق منها، أو يسقط رأسه عليها إذا سقط، وتتركه في العراء، حيث ارتفاعه أو سقوطه محكومان بعوامل جديدة عليه، يصنعها آخرون غريبون تمامًا، وهو مجرد ضيف طارئ عليهم. إنها ليست أرضيته مهما وقف عليها سنين، كما أن التاريخ ليس تاريخه، مهما عرفه نظريًا.
«وطن» المنفى الجديد لا يمكن أن يدخل في نسيج روحه، ويتسرب إلى شرايينه مهما حاول. الأوان قد فات لتغيير جلده. أرضيته وتاريخه هناك، في وطن غائم يحتل ذاكرته، ويغزو مسامات دمه على الرغم منه. مضحكون هؤلاء الذين يدعون أنهم أصبحوا بريطانيين أو فرنسيين أو سويديين، مثلاً، لمجرد أنهم حصلوا على أوراق رسمية لا تعني شيئًا على الإطلاق، وليست دليلاً على تماهي الحبر مع الدم.
سيكون المبدع المنفي بطلاً حقًا، خاصة في سنوات الغربة الأولى، إذا حافظ على توازنه في أرض وفضاء لا يعرفهما إطلاقًا. وسيحتاج إذا وقف على قدميه إلى وقت هو بالتأكيد أضعاف الوقت الذي يحتاجه في الوطن كي يحقق شيئًا من ذاته، أو بعبارة أصح، أن يجد ذاته، سواء أغادر الوطن صغيرًا أم كبيرًا. صحيح، إن المنفى لا يعود يتعرض للتهديد الذي يمس وجوده الخاص، ولكن ماهية وجوده في المنفى ككاتب، كما يقول الناقد الألماني داريوس شايغان، هي التي تتعرض للتهديد. فغالبًا ما يختزل النضال في المنفى إلى نضال من أجل البقاء فقط. ونذكّر هنا بتجربة الكتاب الألمان الذين انتحروا في المنفى يأسًا مثل كلاوس مان، وإرنست توللر، وستيفان تسفايغ، وفالتر بنيامن، وغيرهم.
ولحسن الحظ، الذين انتحروا منا، نحن المنفيين، قليلون جدًا، حتى الآن، ولكن ضاع الكثير، وصمت الكثير، ومات الكثير من وجع المنفى ومن حب ذلك الوطن البعيد الذي فقدوه للأبد. المأساة الكبرى، أن المنفى لا يستطيع كلما طالت به السنوات، كما حصل مع المثقفين العراقيين، ونأمل ألا يحصل ذلك للمثقفين السوريين، أن يعود حتى إذا فتحت الحدود أمامه. لا أحد يعود حين يعود. إنه ليس هناك وليس هنا. شيء ما تغير فيه، أو مات فيه. لقد تملكته إلى الأبد «ذهنية الشتاء»، كما يقول إدوارد سعيد، مستشهدًا بالشاعر الأميركي وألاس ستيفنز «حين تكون عواصف الصيف والخريف مثل العواطف الكامنة للربيع، قريبة، ولكنها ليست في المنال. المنفي بدوسّ، غير مستقر. ولكن المرء ما إن يتعود عليه حتى تندلع من جديد قوته غير المستقرة».
المنفى مهنة المثقفين الشاقة
المنفى مهنة المثقفين الشاقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة