«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين

وظيفة تغري بتحقيق الشهرة والثراء السريع

«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين
TT

«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين

«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين

وجوه جاءت واختفت في الضباب ولم يعد يتذكرها أحد إلا بالكاد. كان «دومة»، الشاب المصري الذي يضع طاقية على رأسه، ناشطًا سياسيًا، واليوم هو في السجن. مثل عشرات آخرين طواهم المجهول، لم يأتِ اسمه على لسان أي مرشح من ألوف المرشحين لانتخابات البرلمان الجديد. وفي الجانب الآخر حملت فتيات مثل «إسراء»، ابنة القاهرة، لقب ناشطة لأكثر من سنتين، واحتلت شاشات التلفزيون، إلى أن نزل الستار وانطفأت الأضواء. ومع ذلك جاءت طائفة جديدة من هذه الشريحة التي تحمل صفة «ناشط سياسي» لتتسبب في إرباك المشهد، وإخافة المصريين من المستقبل. صراخ على شاشات التلفزيون وتهويل على واجهات الصحف.
جسم غريب خرج للمرة الأولى من قمقم الثورة واستمر يثير الفزع بعد ذلك فوق كباري القاهرة، في وقت كانت فيه البلاد تعاني من مشكلات سياسية واقتصادية وأمنية جراء الانتفاضة التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك وما تلاها من تداعيات. جسم غريب لكنه أخذ يتآكل وينكمش رويدا رويدا. واليوم بعد أن جرى الانتهاء من انتخاب أول برلمان في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تستطيع أن تجلس على ضفة النيل وتدفئ نفسك بشرب «خليط حُمُّص الشام» الحار من الأكواب الطويلة. وتتأمل ظاهرة «النشطاء». كيف بدأت وإلى أين يمكن أن تنتهي.

من فراغ الحياة الحزبية في مصر، وخلال أقل من أربع سنوات، طفا كثير من الأسماء على السطح. اليوم.. يسأل بائع «حُمُّص الشام» من تحت كشافات الكوبري عمن كانوا يحملون صفة «نشطاء سياسيين» في الأيام الأولى للثورة. أين اختفوا؟ يسأل عن شاب مثل وائل غنيم، الذي حقق في وقت وجيز شهرة دولية. لماذا لم يرشح نفسه في انتخابات البرلمان الحالية؟ يقلِّب البائع «الحُمُّص» ويقدمه للزبون، ويعود ليسأل مرة أخرى عن أسماء كانت تملأ الدنيا ضجيجًا عن فساد السلطة وغياب الحريات، لا إجابة. هكذا بكل بساطة. ثم ماذا عن النشطاء الجدد الذين أثاروا، لشهور، الذعر في العاصمة بسبب «القنابل البدائية»؟
كان يوجد في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك أكثر من عشرين حزبا سياسيا. كانت أحزابا هشة. وزاد عدد الأحزاب منذ «الثورة» حتى الآن إلى قرابة المائة حزب، لكنها لم تتمكن، على ما يبدو، من إقناع عامة الشعب بالانخراط فيها أو التفاعل معها. مرت من هنا جحافل الجماعات الدينية ومرت جماعات الاشتراكيين والناصريين واليمينيين، لكن حين تنظر لا تجد لها أثرا.
حتى بعد الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، ظلت غالبية الأحزاب بقادتها وكوادرها تقف كالمتفرج من بعيد. فشرارة الثورة الأولى خرجت من تحت أصابع الشبان المحترفين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحداث الثورة الثانية ولدت على أيدي شبان آخرين أقنعوا المصريين بـ«التمرد».
* ناشطون «متخصّصون»
بغض النظر عمَّن حملوا صفة «نشطاء» وفشلوا في استكمال المسيرة، وخسروا استحقاق اللقب لأسباب مختلفة، مثل «غنيم» و«دومة» و«إسراء»، إلا أن العامل المشترك يبدو أنه يتلخص في أن معظم هؤلاء لم تكن لديه «سابقة أعمال سياسية يعتد بها». يقول المحامي الشاب الذي شارك في الثورتين، كريم راضي، وهو مدير «مبادرة محامين من أجل الديمقراطية»، إن هذا الوضع الغريب ينطبق أيضًا على من ورثوا صفة «الناشط السياسي» بعد «ثورة» 2013 وحتى اليوم. ويضيف: «الأمر اتخذا أبعادا جديدة بظهور تسميات أخرى مثل (الناشط الحقوقي) و(الناشط الإعلامي)، بينما لا تعرف ما هي وظيفته الأصلية».
بدأ لقب «الناشط السياسي» يتكوّن في أفق الحياة المصرية بشكل واضح بعد أن احتلت الجماهير الغاضبة ميدان التحرير لإجبار مبارك على الخروج من السلطة. وقتها وجد عشرات الشبان والفتيات أنفسهم أمام الكاميرات المسلطة عليهم.. تطلب منهم أن يتحدثوا وأن يفسروا ما يحدث وعن أهدافهم. ومن خلال هذا الحراك الشعبي والغياب الحزبي «ظهر كثير من الناس بشكل غير مفهوم»، كما تقول داليا زيادة، وهي شابة تشغل مديرة مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية. وتضيف: «كثيرٌ من هؤلاء لم يكن لهم أي سابقة أعمال أو تاريخ يستندون إليه. كان الإعلام يبحث عن طريقة لتوصيفهم ووجد أقرب شيء هو مصطلح (ناشط سياسي)».
ومع ذلك توجد ملاحظة تتعلق بالتحول الذي طرأ على «النشطاء السياسيين» خلال السنوات الأربع الأخيرة، كما يقول محمد عبد اللطيف، وهو شاب محامٍ وعضو في ائتلاف الشباب الاشتراكي الذي تكوَّن خلال «الثورة». ففي البداية كانت الظاهرة ترتبط بوجود هؤلاء «النشطاء» في الشوارع وسط المظاهرات والاحتجاجات، لدرجة أن كثيرا منهم دُعي لاجتماعات مع قيادات الدولة أثناء عملية البحث عن طريق جديد لفترة ما بعد مبارك ثم فترة ما بعد مرسي.
ويضيف عبد اللطيف: «الثورة أدت إلى أزمة اقتصادية، ومن هنا عزف الناس عن المظاهرات. أدى ذلك إلى اختفاء (النشطاء) الذين ارتبطت أسماؤهم بتقلبات الشارع وحرائق الميادين والصدامات مع قوات الأمن في ذلك الوقت، وحل محلهم جيل جديد يطمح إلى الشهرة ويحترف التنظير دون علم في وسائل الإعلام، إلى درجة إصابة الناس بالإحباط والذعر. لهذا أصبح الاستمرار في استخدام لقب (ناشط) مثيرا للسخرية».
في كواليس قناة تلفزيونية يملكها رجل أعمال موالٍ للحكومة جلس معدّ القناة يلقّن الضيف، وهو «ناشط» جديد، بما ينبغي أن يقوله في الحلقة. المطلوب اتهام عناصر جماعة الإخوان التي تصنفها الدولة كـ«منظمة إرهابية» بأنهم وراء غرق مدينة الإسكندرية في مياه الأمطار، لأنهم سدوا بالوعات صرف المياه بالإسمنت.
* انتشار.. ودولار
غالبية الضيوف في القنوات المصرية لا يتقاضون مكافأة عن المشاركة في الحلقة، لكن انتشاره إعلاميا يسهل استضافته بعد ذلك في قنوات عربية وأجنبية تدفع بالدولار واليورو، إضافة إلى الشهرة والنفوذ. وعقب الحلقة أجاب الضيف وهو يهم بركوب سيارة التلفزيون التي جاءت به عما إذا كان لديه أدلة على قيام الإخوان بسد مصارف ثاني أكبر المدن المصرية، قائلا بكل بساطة: «هؤلاء يفعلون أي شيء».
المصري أطلق على نفسه قديمًا وصف «الرجل القادر على دهان الهواء بالطلاء»، للتعبير على قدرته على فعل أي شيء يمكن أن تتخيله أو لا تتخيله. ومع ذلك لديه من الإدراك ما يمكن أن يميز به الغث من السمين، رغم فقر الحال إجمالا. ففي أقل من شهر تمكن الملايين من حشد أنفسهم للإطاحة بحكم جماعة الإخوان، وكان من بين من هتفوا بـ«سقوط حكم المرشد» في ميدان التحرير بائع «حُمُّص الشام»، وعدد من زبائنه الذين يترددون عليه فوق كوبري الجامعة الشهير الواصل بين محافظتي القاهرة والجيزة.
على جانبي الكوبري تتقاطع المئات من لافتات الدعاية الانتخابية التي تروّج لمرشحين للبرلمان الذي سيبدأ أعماله خلال أيام.. أسماء معروفة بانتمائها إلى الحزب الذي كان يرأسه مبارك، وأخرى من أحزاب المعارضة التقليدية وشخصيات مستقلة. لم يكن هناك اسم يذكر ممن يحمل لقب «ناشط سياسي». يراقب عمرو عمارة، قائد الشباب المنشقين عن جماعة الإخوان، مجريات العملية الانتخابية وهو يقول بكل وضوح إنه رفض أكثر من مرة أن تطلق عليه وسائل الإعلام لقب «ناشط سياسي.. هذا وصف أصبح ممقوتًا».
ويضيف عمارة أن مصطلح «ناشط سياسي» انتشر «كالنار في الهشيم خلال السنوات الأربع الأخيرة، لكنه ارتبط في كثير من الأحيان بالبحث عن الارتزاق والمكسب المادي. أنا ضد هذا المصطلح لأنه تحول إلى وظيفة لمن لا وظيفة له. ويقول كثير ممن يظهرون على شاشات التلفزيون تحت اسم (ناشط)». إن وسائل الإعلام هي التي أطلقت عليهم هذا الاسم. ويدرك عدد من هؤلاء، على ما يبدو، أن اللقب لم يعد يعني شيئا ذا قيمة. لهذا يسعى بعضهم، مثل عمارة، إما للانخراط في أحد الأحزاب السياسية، وإما لتأسيس حزب جديد، لكي يكون مقنعا للرأي العام.
* معنى فارغ
حتى المحلل السياسي محمد العزبي، يتكلم عن أنه لاحظ في الفترة الأخيرة إدراك الرأي العام للمعنى الذي أصبح فارغًا لكلمة «ناشط». هذا المصطلح ظهر في غفلة من الزمن وانتشر في الإعلام المرئي والمواقع الإخبارية، و.. «أرى أنه في طريقه إلى الزوال». هناك «ناشط» استعانت به إحدى القنوات للهجوم على دول صديقة، و«ناشط» آخر ظل في وقت سابق يضخم من قدرات الإرهاب على ضرب القاهرة حتى أصاب الناس بالذعر والخوف من الخروج إلى الشوارع.
يعود راضي للتذكير بأن «أكثر من تكلّموا باسم الثورة، في بدايتها، كانوا انتهازيين.. هذا تسبب في تشتيت القوى الثورية وإضعاف الحركة المطالبة بالديمقراطية وإرباك المشهد برمته سواء للسلطة أو للشارع السياسي نفسه». صفة «الناشط السياسي» ظهرت منذ القدم في كثير من دول العالم، لكنها أطلقت على شخصيات تمكّنت من إحداث تغيير في بلدانها. وارتبط الاسم أيضًا بقيادات في بلدان مختلفة استمرت لسنوات تسعى لتحقيق مكاسب سياسية من خلال الإضرابات والمظاهرات والمفاوضات. كانت الصفة تعبر عن تيار اجتماعي أو آيديولوجيا، وذلك من خلال حزب أو ائتلاف محدد المعالم، له خطاب واضح يعكس مطالبه وأهدافه.
* دور المراسلين الأجانب
هذا لم يحدث في «الثورة» المصرية. كان المراسلون يفدون إلى ميدان التحرير ويسألون عمّن هو الزعيم. وحيث إنه لم تكن هناك إجابة، استعان إعلاميون أجانب وهم يلهثون لكتابة قصص منطقية للقراء، بمصطلح «activist» أي «ناشط» على الشبان والفتيات المتحمّسين. ولهذا تقول داليا زيادة إن كلمة «ناشط» جاءت بهذه الطريقة من الإعلام في ذلك الوقت المبكر من «الثورة».
زيادة ولدت مع بداية حكم مبارك في مطلع ثمانينات القرن الماضي. وهي من جيل مصري يطمح إلى صنع مستقبل أفضل لبلاده. واختارتها مجلة «نيوزويك» الأميركية ضمن أكثر 150 سيدة مؤثرة على مستوى العالم. وتقول إنه مع ثورة يناير (كانون الثاني) «ظهر كثير من الناس بشكل غير مفهوم. لم يكن لهم أي سابقة أعمال أو تاريخ يستندون إليه. كان الإعلام يبحث عن طريقة لتوصيفهم ووجد أقرب شيء هو لقب (ناشط). هذه التسمية ظهرت في الإعلام الغربي أولا، وبعد ذلك جرى ترجمتها إلى اللغة العربية. وبدأ استخدامها كصفة منذ ذلك الوقت حتى الآن».
وتضيف قائلة إن مصطلح «الناشط السياسي» غير عملي، فالسياسي يفترض أن ينتمي إلى حزب وأن يمارس العمل السياسي، إلى جانب مهنته الأساسية، أما «الناشط السياسي» أو «الناشط الحقوقي» أو «الناشط الإعلامي»، فهي صفات استخدمها الإعلام «حتى يعطي توصيفا لمن ليس لهم توصيف محدد للظهور للمشاهدين والقراء».
وبالإضافة إلى وائل غنيم، ارتبطت أسماء كثير من الشبان والفتيات في خضم «الثورة» الأولى ثم الثانية بوصف «ناشط» أو «ناشطة». ومن الأسماء التي كانت مشهورة حينذاك، واختفى معظمها في الوقت الراهن، نوارة نجم، وعلاء عبد الفتاح، وأحمد دومة، وإسراء عبد الفتاح، وأسماء محفوظ، وغيرهم. غالبية هؤلاء من مواليد أواخر عهد السادات وبدايات عهد مبارك. ومع اختلاف المناخ السياسي، والمزاج الشعبي، خصوصا عقب الإطاحة بحكم مرسي والتفاف قطاع كبير من المصريين حول السيسي، يحاول كثير من المتعطشين للشهرة تكرار التجربة رغم تغير الظروف.
يقول عمارة: «كلمة (ناشط) أصبحت سبّوبة (أي مصدر للارتزاق).. أنا ضد هذا المصطلح بعد أن انتشر في كل مكان وأصبح عمل من لا عمل له». ويشير إلى أن بعض وسائل الإعلام المحلية أيضًا تتحمل جانبا من المشكلة، لأن بعض محطات التلفزيون التي تريد أن تنال من جهة ما تأتي بأي شخص لديه القدرة على توجيه الشتائم وتطلق عليه ناشط سياسي، بل تنقل عنه كلاما وتعبيرات، وأنه قال كذا وأكد على كذا.
وإلى جانب نشاطه الساعي لتكوين حزب سياسي، يعمل عمارة في القطاع الخاص. ويقول: «أنا أسأل هذا النوع من الناشطين السياسيين: ما مصدر رزقك؟ أنا أعمل في التسويق العقاري، وأنت ما عملك الخاص؟ المشكلة أن هناك من يستغل انتشاره في الإعلام كناشط سياسي ويبدأ في التعامل مع المجمع على أنه أصبح شخصية عامة وله نفوذ يقوم باستغلاله لتحقيق مكاسب خاصة. منشق عن أحد الأحزاب يتحول إلى ناشط سياسي.. منشق عن إحدى الجماعات الدينية يتحول إلى ناشط سياسي. بعض الدول تستضيف مثل هؤلاء في أفخم الفنادق وتقدم لهم بدلات سفر وألوف الدولارات لحضور ندوة أو مؤتمر تحت صفة ناشط سياسي أو ناشط حقوقي.
أمضى كريم راضي شهورًا في ميدان التحرير مع شباب الثورة. وظهر على قنوات التلفزيون عدة مرات، ويقول إنه كان يبادر ويطلب من القناة التي تستضيفه تحاشي تقديمه كناشط سياسي أو حقوقي، لأنه لم يكن يستسيغ هذه التسمية، إلى أن اكتشف أخيرًا أنها أصبحت، بالفعل، ترتبط بأشخاص يغيّرون مواقفهم حسب المصالح الشخصية.
* من هو الناشط السياسي الحقيقي؟
راضي الذي يعمل ضمن فريق «الشبكة العربية لحقوق الإنسان»، يرى أنه «أصبح من الصعب معرفة الناشط السياسي الحقيقي من الناشط السياسي غير الحقيقي.. الأمر يحتاج إلى فترة من الزمن حتى تعرف أن هذا الناشط مدّعٍ. هو يرفع شعارات، ومع أول فرصة له لتحقيق مصالحه الشخصية، يبدأ في الظهور على حقيقته. ويضيف أنه يمكن أن تمر سنة كاملة قبل أن ينكشف للرأي العام مثل هؤلاء المنظرين المزيفين.. «مثلا هناك كثيرون ركبوا الثورة منذ بدايتها، وتحدثوا باسمها، وبعد ذلك أصبحوا أول من يهاجمها. لماذا؟ لأن مصالحهم انقضت. كانوا أول من دعا للتظاهر ثم بدأوا بعد ذلك يهاجمون من يدعو إلى التظاهر. كان من الصعب أن تحدد الموقف من هؤلاء في وقت ظهورهم».
وفي المقابل، كما يقول راضي أيضا، هناك شخصيات محترمة تظهر في الإعلام سواء من الشباب أو غير الشباب.. هؤلاء لهم مبادئ يدافعون عنها ولا تتغير مع مرور الوقت، وهذا يمكن أن تطلق عليه السياسي الحقيقي، وهؤلاء قادمون من خلفيات حزبية أو من خلال أنشطة حقيقية على الأرض. هذا لا ينفي أيضًا أن بعض الناشطين المزيفين يمكن أن يكونوا قادمين من حزب سياسي، لكنه يفتقر إلى المبادئ والآيديولوجيا التي يزعم الانتماء إليها.
ويضيف أن الأمر نفسه ينطبق على «الناشط الحقوقي»، لأن «هناك من يوظف نشاطه الحقوقي باختلاف السلطة الحاكمة أو تغير الظروف.. يبدأ في تجزئة المبادئ.. مثلا يدافع عن فئات معينة وفئات يتجاهلها.. يزيد درجة الحرارة في خطاب ينتقد فيه السلطات حين تنتهج نهجا معينا ضد تيار سياسي بعينه، ويخفض من درجة الانتقاد إذا كانت السلطة تستهدف تيار سياسي آخر أو جهة أخرى. هذا أمر لا يمت إلى النشاط الحقوقي بصلة».
القضية بطبيعة الحال لها علاقة بالشهرة والثراء السريع. هذا أغرى البعض ممن ليست لهم صفة أو مركز، لتقديم أنفسهم على أنهم «نشطاء». «ما المانع إذا كانت السيولة الإعلامية على هذه الشاكلة من السهولة؟» كما يقول راضي، ويضيف أن كثيرا من هؤلاء النشطاء المزعومين تمكنوا من الحصول على أموال من الخارج وتمويل من منظمات دولية، وظهرت عليهم النعمة من خلال عملهم الهش، و.. «هناك حالات فجة. مثلا أحدهم كان لا يملك طعام يومه، واليوم أصبح يمتلك السيارات الفارهة».
ويتابع قائلا إن مثل هذه الأوضاع بدأت بالفعل بعد ثورة يناير، واستمرت إلى الآن، رغم أن الناس بدأوا ينفرون من مثل هؤلاء الأشخاص ومن وسائل الإعلام التي تروج لهم. «منذ الثورة انفتح المجال العام، وبدأت وجوه كثيرة تظهر، وحققت كثيرا من هذه الشخصيات الثراء بشكل غير مفهوم وغير معروف مصدره».
تسببت «طائفة النشطاء» بما تروجه من نظريات غريبة وغير واقعية، بإصابة المواطنين بالحيرة بشأن المستقبل، وتسببوا في الخلط بين الغث والسمين، وبين الصدق والكذب. كما يقول كريم راضي، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة «جعلت قوى الثورة تتشتت. أدت إلى إرباك المشهد سواء أمام السلطة أو أمام الشارع. كما تسبب في إضعاف الحركة المطالبة بالديمقراطية».
العزبي الذي يظهر بين حين وآخر على قنوات التلفزيون المصري وفي بعض وسائل الإعلام ينفي بشدة أن يكون ممن يحملون صفة «ناشط». ويقول: «أنا لا أعتبر نفسي ناشطًا، بل أنا مواطن مصري وباحث سياسي أبحث في ما وراء الأخبار والأحداث». ويضيف: «لم يكن لي في يوم من الأيام علاقة بهذا النوع من الذين يطلقون على أنفسهم لقب (ناشط)، لأنني منذ اللحظة الأولى أدركت تماما أن هذا الاسم هو مهنة من لا مهنة له»، مشيرًا إلى أن هناك «كثيرا من نماذج الناشطين ممن نبذهم المجتمع أو دخلوا السجون بسبب تورطهم في أعمال عنف وإرهاب أو الحصول على تمويل من الخارج للإضرار بالدولة».
ويعد العزبي من الشبان الذين انخرطوا في الزخم السياسي الكبير الذي تفجر بعد الثورة، إذ إنه كان متحدثا لبعض الوقت باسم «جبهة ثوار وحكماء». ويقول إنه «يوجد كثير ممن أطلقوا على أنفسهم نشطاء، استفادوا من التمويلات المالية ومن تحقيق مراكز وشهرة إعلامية، لكنهم لم يحققوا أي شيء له مردود يشعر به المجتمع».
* مطالب ومصالح شخصية
ويرى أن سبب استمرار ظاهرة «الناشط السياسي» ما زالت كما هي.. «أقصد بذلك حالة الانفلات الأخلاقي التي سادت مصر منذ أحداث الثورة الأولى وحتى الآن، فكل من له مطلب يخرج على الإعلام بصفة ناشط ليتحدث ويملأ الدنيا عويلاً، حتى يستطيع تنفيذ مطالبه الشخصية. هذه وظيفة لجلب الرزق».
ومثل المحامي عبد اللطيف، الذي يداوم على السهر على كوبري الجامعة الذي تفضله عائلات وسط القاهرة، يعتقد العزبي أن الرأي العام بدأ يدرك خطورة اسم «الناشط»، وبدأ يلفظ هذه الصفة التي لا أساس لها. ومن جانبه يضيف عبد اللطيف: «غضب الناس ممن يطلق عليهم الإعلام (النشطاء) ازداد بعد أن استضافت قنوات التلفزيون كثيرا منهم، إذ إنهم قاموا بتضخيم الأخبار عن التفجيرات التي قامت بها بقايا الجماعات المتطرفة. حين كان يقع انفجار صغير في مكب للنفايات مثلا كانوا يصورون الأمر كأن القاهرة تحترق. هذا أصاب الناس بالذعر».
وفي بلد يعاني من الفقر والأمية الثقافية، فإن الأمر يبدو أنه لا يتعلق فقط بطائفة «النشطاء»، ولكن المشكلة تخص وسائل الإعلام وإثارتها مواضيع تخرج أحيانا عن حدود المنطق، لا سيما في القطاع الخاص. فقد فوجئ المشاهدون بـ«ناشط» يؤيد مزاعم أحد المذيعين بشأن مسؤولية أميركا عن إحداث الزلازل وإطلاق البراكين وتوجيه أماكن نزول الأمطار وجريان السيول في الأماكن التي تريدها. ويقول مسؤول في الحكومة المصرية إن البرلمان الجديد سيقرّ إنشاء مجلس أعلى للإعلام لترتيب البيت في هذا القطاع المؤثر على الرأي العام.
في مثل هذا الوقت من شتاء العام الماضي كان هناك نوع من الناشطين يظهرون على الشاشات ويهوّلون من حجم الحوادث الإرهابية والقنابل البدائية التي كانت آثارها ما زالت مستمرة منذ الإطاحة بحكم مرسي. حينذاك لم يكن في مقدور كثير من المصريين التمشي في الليل على ضفاف النيل. كان كوبري الجامعة، مثل بعض الكباري الأخرى، مهجورا على طوله البالغ نحو 500 متر.
اليوم تغيرت الحال وأصبح يمكن الجلوس والسهر على المقاعد البلاستيكية وتناول المشروبات الساخنة. وبينما أضواء السيارات تمرق بين جانبي النهر، وبعيدا عن تنظير «نشطاء» التلفزيون، يواصل الزبائن الاستماع لتعليقات بائع «حُمص الشام» عن الأمل في مستقبل أفضل، بينما النسيم البارد ينساب منعشا من الضفة الأخرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.