من التاريخ: أثينا و الديمقراطية

إذا ما سألت غربيًا عن مصدر الديمقراطية، فهو حتمًا سيجيبك عن السؤال بكلمة «أثينا»، فهي النموذج أو حتى الحلم الديمقراطي الذي يتمناه كثيرون في يومنا هذا بوصفه نظاما للحكم في العالم، فالمثال «الأثيني» هو الأساس الذي بُني عليه هذا النظام، ولعل الفيلسوف السياسي أرسطو (أرسطاطاليس) استطرد كثيرًا في كتابه «حول السياسة» لشرح الديمقراطية الأثينية وما لها وما عليها. وعلى الرغم من قدم هذه التجربة التي ترجع إلى ما يقرب من 25 قرنًا من الزمان، فإنها لا تزال مثالاً فكريًا يعجب به كثيرون بوصفه أفضل النظم الديمقراطية من حيث التمثيل المباشر للشعب، أو لأنها قد حكمت أثينا وغيرها من الدويلات اليونانية بشكل سلس، ولكن الثابت أن هذه التجربة الديمقراطية العميقة انتهت إلى نظام ديكتاتوري عقب مأساة الهزيمة العسكرية.
الثابت تاريخيًا أن القبائل اليونانية قد هاجرت من الشمال إلى الموانئ الدافئة لشبه جزيرة المُورة، واستقرت في هذه الأراضي الخصبة وبدأت تكون ما يسمى «الدويلة» أو «المدينة الدولة City State» التي تمثل توصيفًا واقعيًا لشكل المجتمعات اليونانية في ذلك الوقت. ولقد برزت أثينا بصفتها دويلة ضمن الدويلات الأخرى في موقع جيواستراتيجي بارز، وتمتلك كثيرا من الثروات الطبيعية مقارنة بغيرها، كما أنها ملكت كثيرا من الأراضي الخصبة، وهو ما سمح لهذه الدويلة أكثر من غيرها بتكوين نظام اقتصادي متوازن بين التجارة والصناعة والزراعة، مما أثر مباشرة على شكل المجتمع ذاته وخلق الطبقات الطبيعية فيه.
بدأت أثينا رحلتها السياسية، شأنها شأن الدول الأخرى بنظام ملكي، ومع التطور الاقتصادي بدأت الطبقات المختلفة تسعى لدور في التنظيم السياسي للدويلة الأثينية، وهو ما دفع النبلاء لتكوين مجلس لهم استطاع مع مرور الوقت التعدّي على السلطات الطبيعية للملك. هذا فتح المجال للتحوّل نحو نظام يسمى في العلوم السياسية بالنظام «الأوليغارشي Oligarchy» بعد تراكم قوة النبلاء ونفوذهم، خاصة بعدما طبّقت أثينا نظامًا أشبه ما يكون بالنظام الرأسمالي سيطرت فيه طبقة النبلاء على الدورة الاقتصادية في البلاد، وكانت الطبقة الدنيا هي التي دفعت الثمن بطبيعة الحال، خاصة بعد أن أفلست الطبقة الفقيرة بسبب المديونية التي أدت لتحولهم من مزارعين إلى عبيد مع مرور الوقت بسبب الديون، وهو ما بات يهدد الطبقة الوسطى أيضًا. وقد كان ذلك كفيلاً بدفع التغيير السياسي في هذه الدويلة تدريجيًا إلى أن عيّن الوالي سولون لإدخال الإصلاحات على النظام السياسي اليوناني. وهو ما أدى إلى سلسلة من القرارات التي قبلتها طبقة النبلاء على مضض شديد، وكان على رأسها إنشاء «مجلس الأربعمائة» للمساهمة في الحكم بما يسمح بدخول الطبقة الوسطى والدنيا في النظام السياسي، كما أنشئت «محكمة عليا» مفتوحة للجميع يصار إلى انتخابها من بين المواطنين، إضافة إلى إلغاء العبودية الناتجة عن المديونية وتحديد ملكية الأراضي ومنح المقيمين حق المواطنة، كما فرضت منع البطالة.
مع كل ذلك، فإن هذه الإصلاحات ساهمت بدور أقوى للطبقات المختلفة، لكنها لم تسيطر بالكامل على نفوذ طبقة النبلاء وقوتهم. ومنعًا لتفاقم الأوضاع، لجأت القيادة الأثينية إلى سياسة توسعية جديدة لمحاولة توحيد دويلتها عبر الاستيطان والسيطرة على الدويلات الأخرى المجاورة، ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع من ظهور الديكتاتورية مرة أخرى، في العصر المعروف بـ«عصر الطغاة». وعلى الرغم من بزوغ نجم بيزيزتراتوس بوصفه نموذجًا لـ«المستبد العادل»، فإن سياساته لم تستطع احتواء التوترات الطبقية في البلاد، ثم زاد الأمر سوءًا بعدما ورث ابنه الحكم وكان مثالاً للعنف والدموية. هذا الوضع أدى لتكاتف الجميع تحت قيادة أحد النبلاء يدعى كلايسثينيس الذي استطاع وضع حد للسلطة المطلقة بالانقلاب على آخر الطغاة، وصياغة نظام سياسي كفل له لقب «أبو الديمقراطية الأثينية». كلايسثينيس وسع «مجلس الأربعمائة» فبات يضم خمسمائة عضو يصار إلى اختيارهم بالقرعة، وهو ما شكل بداية لمفهوم السلطة التنفيذية، حيث تنبثق عنه عشر لجان معنية بإدارة الدولة؛ على رأسها المحافظون في المدن المختلفة، وذلك دون انتقاص من سلطات مجلس النبلاء بوصفه أداة شبه تشريعية يحق لها رفض أو قبول مقترحات وسياسيات «مجلس الخمسمائة». كذلك نصت التعديلات على تنظيم الانتخابات لهذه المناصب بشكل دقيق منعًا للتفرد في القرار، وأصبحت الجنسية حقًا للجميع على أساس الإقامة في أثينا. وبهذا بدأت هذه الدويلة في تطبيق الديمقراطية المثالية المباشرة بما يمثل نموذجًا يكاد يكون فريدًا في التنظيم السياسي عبر التاريخ.
بعدها، وصل هذا النظام إلى قمته خلال حكم الزعيم اللامع الحكيم بيريكليس، وغدا النموذج الديمقراطي الأكثر تنظيمًا في أثينا، وصار يحقّ للمجلس اقتراح القوانين. كما نظّم بيريكليس ما هو معروف بـ«مجلس جنرالات» تختاره الجمعية، وهو ما يعدّ تطورًا أكثر تنظيمًا للسلطة التنفيذية في البلاد. وتولى بيريكليس قيادة هذا المنصب الذي يوازي اليوم رئيس الوزراء في النظم البرلمانية، الذي بدأ يعدل سلطات «مجلس الخمسمائة» تدريجيًا بشكل يحافظ على النظام السياسي وتوازناته منعًا لأي جهة أو شخص من الانفراد بالسلطة. أيضًا بات أول نظام يضع معايير التوازن وتوزيع السلطات، خاصة بعدما صاغ نظامًا قضائيًا أكثر تنظيمًا وإتاحة للجميع تحت إشراف المحكمة العليا، وجرى تثبيت نظام المحلفين بالقرعة بحيث تؤخذ قرارات المحاكم من خلال حكم المواطنين أنفسهم بالأغلبية المطلقة. ومن هنا اقتبس نظام المحلفين (Jury) المتبع في كثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا.
وقد كان من الممكن أن يستمرّ هذا النظام بشكل طبيعي ولمدة زمنية طويلة، إلا أن واقع السياسة عكس غير ذلك. وكان هناك عاملان أساسيان أثّرا مباشرة في زوال الديمقراطية الأثينية: الأول كان الصراع مع الإمبراطورية الفارسية عندما حاولت الأخيرة احتلال اليونان فدخلت معها في حروب ممتدة انتهت بتحالف الدويلات اليونانية لإلحاق الهزيمة بتلك الإمبراطورية الكبيرة بعد سلسلة من المعارك الشهيرة على رأسها معركة «ثيرموبولي» ومعركة «ماراثون».. وغيرهما. غير أن الحرب أضعفت أثينا بشكل كبير ووضعت عليها الضغوط الاقتصادية والسياسية. أما العامل الثاني الذي دمّر هذه التجربة الناشئة، فكان من صنع أثينا ذاتها بعدما لجأت لسياسة توسّعية وصفتها الكتب التاريخية بأنها سياسة «إمبريالية»؛ إذ سعت هذه الدولة لاحتلال الدويلات الأخرى والسيطرة، مما دفع كثيرا من هذه الدويلات إلى تطبيق مبدأ توازن القوى من خلال التحالف مع عدوّ أثينا المتمثل في دويلة إسبرطة، التي خشيت أن تؤدي هذه السياسة التوسّعية إلى القضاء عليها، فبدأت ما هي معروفة بـ«الحرب البيلوبونية» التي يمكن متابعة تفاصيلها من خلال الكتاب الشيق للكاتب اليوناني القديم ثيوسيديدس، وهي الحرب التي انتهت بخراب أثينا وسيطرة إسبرطة على مقاليد السلطة في شبه الجزيرة اليونانية.
وهكذا وئدت التجربة الديمقراطية اليونانية وعادت أثينا مرة أخرى إلى نموذج «الحاكم المستبد»، وخرجت هذه الدويلة من التاريخ الفكري والسياسي ولم تعد إليه مرة أخرى. لكن فكرة الديمقراطية كانت قد نبتت في الأذهان وصارت جزءًا من النسيج الثقافي والتراث اليوناني إلى أن أنهضتها الظروف السياسية الغربية مجددًا بفضل عوامل التغير الاجتماعي والسياسي والثقافي بداية من القرن السادس عشر، حتى رسخت مفهوما للفكر والتطبيق السياسيين ولكن بشكل مختلف بحلول القرن العشرين.
واقع الأمر أن التجربة الأثينية تمثل نموذجًا سياسيًا يحتاج إلى كثير من التعمق فيه، فهي مبعث لكثير من الاستنتاجات والأفكار، بل والتأملات التي تستحق منا بعض التمحيص في الأسبوع التالي.