من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو

من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو
TT

من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو

من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو

تعد مدينة مجدّو - في شمال غربي فلسطين اليوم - أحد أهم المواقع العسكرية والروحية على حد سواء، فهذه المدينة شهدت على مدار التاريخ بعض المعارك الفاصلة في مستقبل السياسة في منطقة الشرق الأوسط، لعل آخرها كانت معركة الجنرال البريطاني إدموند اللنبي في 1918 التي هزم فيها الجيش العثماني واستولى بعدها على سوريا. ومن اسم هذه المدينة يشتقّ لفظ «أرماجدون» الوارد في العهد القديم (التوراة) الذي يشير إلى المعركة الفاصلة بين المسيح بعد نزوله مرة أخرى ليحارب الشيطان ويهزمه ويسود الأمن والأمان والإيمان ربوع العالم.
الثابت تاريخيًا أنه قبل المعارك التالية فإن معركة مهمة جدًا وقعت على أرض هذه المدينة الفلسطينية حسمت تاريخ الشرق الأوسط لعدة قرون تالية، وهي المعركة الشهيرة لتحتمس الثالث فرعون مصر بمواجهة ملك قادش وتجمّعات الدويلات السورية للتخلص من الهيمنة المصرية وإمكانية احتلال مصر والقضاء على قوتها العسكرية والثقافية.
واقع الأمر أن مصر كانت قد تخلّصت من احتلال الهكسوس (الملوك الرعاة) للدلتا على أيدي الفرعون أحمس - جد تحتمس الثالث - في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي. وعمد أحمس لمد نفوذ الدولة المصرية شرقًا من منظور أن هذه المنطقة تمثل محوَر الأمن المصري، فضلاً عن كونها مركز التجارة البري الأساسي الذي يربط مصر بالعالم الخارجي. وكانت سياسة هذا الفرعون الحكيم هي العمل على جعلها منطقة عازلة بين الحضارة المصرية والعالم الخارجي، ولقد اتبع أولاده نفس السياسة من بعده، حتى الملكة حتشبسوت، زوجة تحتمس الثاني، التي اغتصبت الحكم تدريجيًا كأول ملكة لمصر - ولكن ليس بالضرورة الأخيرة.
وعند موت هذه الملكة تولى تحتمس الثالث الحكم في مصر وهو يناهز العشرين من عمره ولم يكن له خبرة عسكرية أو إدارية على الإطلاق. ولكن هذا الشاب كان يملك البصيرة السياسية والجرأة والقناعة بأن الإله «رع» يرعاه ويحبه، وعندما تولى الحكم قام على وجه السرعة بإعداد الجيش المصري من أجل مواجهة ملك قادش الذي جمع قواته من شتات سوريا وبدعم من الممالك المختلفة التي سعت لكسر النفوذ المصري بكل قوة من بينها مملكة الميتاني بشمال شرقي سوريا، وغيرها من الإمارات التي دعمت ملك قادش ليقود الثورة فمدته بالمال والعتاد. وأصبح الوضع حرجًا للغاية بالنسبة لتحتمس، لأن الملك السوري كان يأمل في احتلال مصر ذاتها بعد موت الملكة القوية، ولم يقف أمام طموحاته إلا شاب صغير لا خبرة له وجيش مصري يمكن تجهيزه بسرعة.
تحتمس الثالث كان، في الحقيقة، عاقد العزم على السيطرة على الوضع في مصر بقوة، فبادر إلى تجميع الجيش المصري من الفلاحين المصريين ومن النوبة وغيرها من مناطق البلاد المختلفة. ومن ثم حشد جيشه في (أراضي محافظة) الشرقية بعدما أكمل تحضيراته السريعة ووضع نظامًا لوجيستيًا قويًا لتوفير الإمدادات للجيش وقرر أن يتحرك بسرعة البرق للوصول إلى مجدّو ودحر ملك قادش وجيشه. وخلال أقل من عشرة أيام وصل الجيش سيرًا على الأقدام إلى غزة في مسيرة غير معهودة. وتحرك منها بسرعة مذهلة نحو مدينة مجدّو والعزة تملأه وثقته في الانتصار لا يشوبها أي شك. وعند وصوله إلى نقطة محوَر الطرق المؤدية إلى مجدّو كان أمامه ثلاثة خيارات: الأول أن يمضي بالجيش إلى الشرق ثم إلى الشمال ليصل إلى المدينة من الجنوب الشرقي. والطريق الآخر من الشمال ليصل إلى المدينة من غربها. ولكن الملك الشاب آثر أن يأخذ الطريق الثالث المباشر المعروف بمضيق أرونا (وادي عارة اليوم)، وهو الأقصر لكنه يمر بمنطقة جبلية وعرة يمكن أن تكون فرصة مواتية لملك قادش أن ينصب كمائنه ويقضي على الجيش المصري.
ورفض تحتمس كل النصائح من قادة جيشه وقرر المضي قدمًا إلى قادش مباشرة، وأيًا كانت الأسباب التي جعلت هذا الملك يسلك هذا الطريق بشكل غير آمن، فإن أغلب الظن أنه فضل مباغتة ملك قادش الذي لم يكن على الأرجح يتوقع من الجيش المصري سلوك هذا الطريق الوعر والخطير، وهكذا يكون تحتمس الثالث خالف توقعات عدوه، مع العلم أن هذا الطريق – كما سبق – هو الأقرب، وكان الملك الشاب يريد الوصول لعدوه بأسرع وقت.
وبالفعل، نفذ تحتمس خطته وعبر بجيشه هذا المضيق الصعب، وكان محقًا في حساباته. إذ إن ملك قادش كان قد وضع الأكمنة في الطريق الشرقي، واستطاع الجيش المصري أن يواجه بعض المقاومة إلى أن استطاع عبور المضايق بعدما وضع خطة دفاعية لحماية هذا العبور بشكل متدرج. وعندها فوجئ ملك قادش بالجيش المصري أمامه جاهزًا لخوض المعركة الفاصلة في مجدّو لتحديد مستقبل الشرق.
وعلى الفور جمع الملك السوري جيوشه ووضعها أمام المدينة بشكل منمق ومدروس، وهو نفس ما فعله تحتمس الثالث الذي تولى بنفسه قيادة القلب بينما وضع جناحيه على منطقة مرتفعة لتستعد لقطع الطريق أمام فرار العدو مع تأمين الطريق في حالة هزيمته لإنقاذ جيشه. وبدأت المعركة وجيش التحالف ضد مصر في وضع هرولة، وبالفعل استطاع الجيش المصري أن يهزم الخصم في وقت غير طويل، ولكن بدلاً من التحرك صوب المدينة والاستيلاء عليها انغمس الجيش المصري في عملية جمع الغنائم، وهو ما سهل الفرصة أمام فلول جيش العدو للاحتماء في المدينة. وهو ما اضطر تحتمس الثالث لفرض الحصار المُحكم على المدينة تمهيدًا للاستيلاء عليها، ولكن بحكمته العسكرية غير المتوقعة وضع فيها معبرًا لكل من يريد الخروج من المدينة بشكل آمن، وهو التكتيك العسكري الذي يطلق عليه في بعض الأحيان «الجسر الذهبي»، وهدفه الأساسي هو ألا يُحكم الخناق على العدو لمرحلة تجعله مستبسلاً للدفاع عن المدينة بانعدام وجود البديل.
ولم تحسم المراجع التاريخية مدة الحصار المفروض على المدينة إلا أنه لم يتخط بضعة أشهر حتى اضطرت المدينة للتسلم الكامل وغير المشروط للفرعون. وحده ملك قادش رفض الاستسلام، وتمكن من الفرار بعد المعركة مباشرة، ولكن أسرته خضعت للحصار.
وبعد الاستسلام اتبع تحتمس سياسة حكيمة للغاية، فلم ينكل بالأعداء، كما كان يحدث في معظم الظروف التاريخية المشابهة، بل على العكس أصر على أن يأخذ أبناء الملوك والأمراء المتآمرين إلى مصر وجعلهم ينصهرون في الثقافة والمصرية، واجتذبهم له بشدة وعاملهم برفق ولين شديدين. وكان هذا، بالتالي، أول استخدام واسع لمفهوم «القوة الناعمة المصرية»، مع أن هذا لم يمنعه من أخذ غنائم أذهلت مصر، منها قرابة ثلاثة آلاف فرس، وما يقرب من ألف عربة حربية وما يوازي ثلاثمائة كلغم من الذهب، ثم قام بعد ذلك بالتوجه نحو لبنان حاليًا حيث دانت له الكثير من المدن وأمّن هذه المنطقة الجبلية.
حقيقة الأمر أن هذه المعركة لها مدلولات كثيرة، لعل أهمها: حسم هذه المعركة لتوجه جيو - استراتيجي مصري تأكد مع مرور التاريخ، وهو أن أمن مصر في أغلب الأحيان يمر عبر «بوابة الشرق»، ذلك أن معظم الغزوات التي واجهت مصر جاءت من هذه المنطقة باستثناءات قليلة على رأسها الاحتلال الفاطمي الذي جاء من الغرب، والغزو النازي الذي دحره الحلفاء في معركة العلمين الشهيرة. هذا هو النسق الذي جعل قادة مصر دائمًا ينظرون إلى الشرق على اعتباره نسيجًا هامًا في أمن مصر، ولعل هذا ما يبرر توجه كل من حكم مصر لتأمين الجبهة الشرقية المصرية.
ثم إن هذه الملحمة السياسية عززت ظاهرة متكررة في تاريخ مصر على مر العصور، وهي المرتبطة بفكرة «المنقذ السياسي للدولة المصرية» في الظروف الصعبة. فعند موت الملكة حتشبسوت بدت الدولة على وشك الانكسار داخليًا وخارجيًا، لكن القدر وضع تحتمس الثالث - ذلك الشاب الحدث - الذي استطاع في وقت قياسي أن يقود الحملة إلى الخارج، ومن بعدها شن ما يقرب من خمس عشرة حملة عسكرية أخرى وصل بعضها حتى نهر الفرات.
ولكن السؤال الذي فرض نفسه علي خلال كتابة هذه السطور هو السبب الذي جعل بعض المؤرخين يطلقون على تحتمس الثالث لقب «نابليون الشرق». والإجابة التي استلهمتها من قراءة سيرته هي أن السبب قد يرجع إلى أنه لم يكن هناك قائد قبله يمكن أن يُكنى باسمه. فأغلب الظن أنه أول قائد سياسي وعسكري من هذا الطراز في التاريخ، فضلاً عن أن نابليون استخدم الكثير من تكتيكاته العسكرية في معاركه وعلى رأسها سرعة الحركة ومفاجئة الخصم بقوة والجرأة في التحرك الخ...
ومع ذلك فالسؤال الثاني الذي ساورني هو سبب عدم إطلاق لقب «تحتمس الغرب» على قادة عظام مثل «الإسكندر الأكبر» أو «يوليوس قيصر» ونعتهم بهذه الكنية، ولكن الإجابة في تقديري تحتاج لتأملات واسعة النطاق لا مجال لحصرها هنا.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».