«ليس باسمنا»..!

«ليس باسمنا»..!
TT

«ليس باسمنا»..!

«ليس باسمنا»..!

في الذكرى الأولى لحادثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وفي الوقت الذي كانت فيه دماء الثأر تغلي كالمرجل في العروق، ومعها طوفان من القهر والغضب موجه نحو العرب والمسلمين؛ دينًا وثقافة وحضارة، وبما يشمل من دولٍ وشعوب.. في ذلك الوقت تجرأ نحو ألفي مثقف أميركي بارز على إصدار بيان «الضمير الأميركي»، تحت عنوان: «ليس باسمنا»، عبّروا فيه بشجاعة منقطعة النظير عن استنكارهم الخيارات الحربية التي اتخذتها إدارة الرئيس بوش للرّد على إرهاب الحادي عشر من سبتمبر.
بدأوا بيانهم بالقول: «كي لا يُقال إن الشعب في الولايات المتحدة لم يفعل شيئًا حينما أعلنت حكومته حربًا لا حدود لها، وأسست لمبادئ قمعية متصلبة جديدة»، وأخطر ما في البيان دعوته الشعب الأميركي إلى مقاومة السياسة «الظالمة واللاأخلاقية واللاشرعية، التي تنتهجها حكومة الرئيس بوش، وأصبحت توجهاتها تهدد العالم بأسره».
كان صوت المثقفين الأميركيين، وعلى رأسهم ناعوم تشومسكي، ورمزي كلارك، ومارتن لوثر كينغ الثالث، وإدوارد سعيد، وجيمس أبو رزق، وغور فيدال.. وغيرهم، عاليًا في وجه الإدارة التي اتهموها بأنها قسّمت العالم إلى أخيار وأشرار، واستغلت أحداث سبتمبر لإشعال الحروب على جبهات متعددة في الخارج، والتأسيس «لمبادئ قمعية متصلبة» في الداخل.
اليوم، وبعد الهجوم الإرهابي الدموي على باريس يحقُ لنا أن نرفع الصوت في وجه أولئك الذين اختطفوا صورتنا وشوّهوا حضارتنا، وروّعوا العالم باسم ديننا، وأن نقول لهم: إن إرهابكم الأعمى «ليس باسمنا».
نحن في صفّ الضحايا الذين سقطوا في شوارع ومسارح ومطاعم باريس، مثلما نحن في صفّ كل الضحايا الذين سقطوا في الشوارع والمساجد والأسواق في بلداننا من الأحساء والقطيف والدمام وعسير ونجران، حتى مصر وبيروت، وفي كل مكان يسقط فيه مدنيون مسالمون، أو يُعتدى فيه على الأمن والاستقرار.
الغرب لديه القوة والقدرة والعمق الحضاري الذي يمكّنه من النهوض ونفض آثار الدمار، لكننا نحن الضحايا، الذين يستحقون الشفقة، فقد ضيّق هؤلاء بثقافتهم المريضة، وبالفكر الجاحد المتطرف الذي ينتمون إليه، الحياة في وجوهنا، وحولونا؛ شعوبًا وحضارة وثقافة، إلى عبء ثقيل على كاهل الحضارات والشعوب الأخرى. صار علينا أن نتحمل كل عين تتفحص وجوهنا، وكل يدٍ تمتد لتفتش أمتعتنا، وكل جهاز يتولى فحص دمائنا وأفكارنا وهوياتنا.. حوّلونا إلى ضيف ثقيل على أعتاب الشعوب المتقدمة، ونحن في أمس الحاجة إلى منتجات الأمم الأخرى؛ علمًا وفنًا وصناعة وإنسانية.
«ليس باسمنا» ما يفعلون، لكننا مسؤولون عن هذه النبتة الخبيثة كيف بُذرت وسُقيت ورُعيت واشتّد عودها، ونحن (كما العالم الحرّ) مسؤولون عن اجتثاثها؛ فكرًا وثقافة وسلوكًا.
كل يوم يبرهن لنا هؤلاء كم هو خطير ومدمر الفكر المتوحش الذي يعتنقونه، لكننا لا نزال نفعل القليل في مجابهة هذا الفكر وتنظيف تراثنا من الإقصاء والتطرف والنظر للعالم المختلف بعدوانية وشراسة. تأخرنا كثيرًا في فتح الأبواب والنوافذ أمام التنوير والحداثة، وهما المضادان الحيويان للانغلاق والتحجر والتطرف، ولا مناص من خوض هذه المعركة، لأنها سبيلنا الوحيد للولوج نحو المستقبل.



رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
TT

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية تتميّز بطابعها الفني المتقن. تعود هذه المجموعة إلى الحقبة التي عُرفت بها هذه البلاد الجزرية باسم تايلوس في القرون الأولى من عصرنا، وتشهد لتقليد فني جنائزي شاع في نواحٍ عدة بالشرق الأدنى، وبلغ ساحل الخليج العربي.

خرجت هذه الرقائق الذهبية من مقابر عدة موغلة في القدم، تقع اليوم في المحافظة الشمالية، وتطل على شارع البديع. تُعرف هذه المقابر بأسماء القرى التي تجاورها، وهي مقبرة أبو صيبع، ومقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر. تقع أولى هذه المقابر على تل دائري يبعد نحو 8 كيلومترات غرب المنامة ونحو 500 متر جنوب دوّار جنوسان عند شارع البديع، وهي من المواقع الأثرية التي شرع فريق بحريني في استكشافها منذ عام 1983. أظهرت أعمال المسح قبوراً عدة، حوت مجموعات من الأواني الفخارية والزجاجيات والحلى، دخل قسم كبير منها القاعة التي تحمل اسم تايلوس في متحف البحرين الوطني بالمنامة، ومنها 4 رقائق بيضاويّة مصنوعة من الذهب، تُشكّل زوجين متشابهين من الأقراص كما يبدو.

عُثر على زوج من هذه القطع الذهبية عند أعلى صدر أحد الراقدين في هذه المقبرة، وعُثر على الزوج الآخر المشابه له عند أسفل الصدر، ممّا يوحي بأنها مشابك صُنعت لتثبت عند أطراف رداء الجثمان أو كفنه. يحمل كل زوج من هذه الأقراص صورتين منقوشتين، تمثّل الأولى وجه رجل ملتحٍ يظهر في وضعية جانبية، وتمثّل الأخرى قامة نسر مجنّح يظهر كذلك في وضعية مماثلة. تحتلّ صورة الرجل مساحة بيضاوية مسطّحة يبلغ طولها 5.3 سنتيمتر، وتظهر على شكل نقش ناتئ حُدّدت تفاصيله بأسلوب يجمع بين الدقة والإتقان والرهافة. الطابع الفني يوناني، مع أنف طويل، وعين يحدّها جفنان بارزان، وفم مطبق تحيط به لحية تنسدل من أعلى الوجنتين إلى أسفل الذقن. يرتفع هذا الوجه فوق عنق ترتسم فوق كتفين يعلوهما ثوب يوناني تقليدي، كما توحي ثناياه الملتفة حول المنكب. في المقابل، تحتل صورة النسر مساحة يبلغ طولها 4 سنتيمترات، وتُمثّل طيراً يقف منتصباً، فاتحاً جناحيه المنبسطين في الفضاء.

تتكرّر صورة هذا الرجل الملتحي مع اختلاف في التفاصيل على قطعتين ذهبيتين من الطراز نفسه، مصدرهما مقبرة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع. وهي مقبرة كبيرة تُشكّل موقعاً كبيراً يشمل سلسلة من التلال المنخفضة، تحوي مجموعة من مدافن تعود لفترة تايلوس. تظهر صورة الرجل الملتحي على صفحة منمنمة مستطيلة، كما تظهر على صفحة دائرية، وتوحي ملامحها بأنها تمثّل وجهاً واحداً يختزل في وحدته شبهاً مثالياً يتجاوز الملامح الفرديّة.

يظهر المثال الأنثوي على قرص دائري يبلغ طول قطره 3.2 سنتيمتر، مصدره كذلك مقبرة الشاخورة. الأنف طويل ومتصل بالجبين، والعين مفتوحة وسط هدبها، والثغر صغير. الوجنة مكتنزة، والعنق منتصب، ويحدّه عقد تنسدل منه سلسلة من الحبات الرباعية الأضلاع. الشعر مرفوع إلى الوراء، مع جدائل معقودة تبلغ أعلى طرف الظهر. تبدو هذه الصورة المنقوشة على صفحة رقيقة من الذهب مماثلة للصور المنقوشة على الجواهر التي يُشار إليها باسم «قميو»، وهو اسم خاص بصنف من الجواهر، عُرف في ميدان الفنون الفاخرة الكبرى بشكل واسع على مدى عصور.

إلى جانب هذه الرقائق الذهبية التي تتبنّى أسلوباً تصويرياً، تحضر رقائق أخرى تحمل طابعاً تجريدياً، مصدرها مقبرة الحجر التي تتبع قرية تحمل هذا الاسم، تقع كذلك على شارع البديع، وتحديداً بين قرية أبو صيبع وقرية القدم. تنقسم هذه الرقائق إلى مجموعتين. عثرت بعثة محلية على المجموعة الأولى خلال عام 1971، وهي مكونة من قطع صغيرة متعددة الأشكال صُنعت لتزيّن أكاليل خاصة بالراقدين. وعثرت بعثة محلية أخرى على المجموعة الثانية بين عام 1992 وعام 1993، وهي مكوّنة من رقائق مستطيلة ذات أطراف مقوّسة، صُنعت لتثبّت فوق أفواه الراقدين في قبورهم.

تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً شاع في مقدونيا القديمة كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا

استُخدم الذهب منذ أقدم العهود في ميادين فنية متعدّدة، وتعدّدت أشكاله بين حضارة وأخرى، وبين حقبة وأخرى. في «اللطائف والظرائف»، نقل الثعالبي عن شداد الحارثي في «باب مدح الذهب»: «الذهب أبقى الجواهر على الدفن، وأصبرها على الماء، وأقلّها نقصاناً على النار، وهو أوزن من كل شيء إذا كان في مقدار شخصه، وجميع جواهر الأرض إذا وضع على الزئبق في إنائه طفا، ولو كان ذا وزن ثقيل وحجم عظيم، ولو وضعت عليه قيراطاً من الذهب لرسب حتى يضرب قعر الإناء، وله حسن وبهاء في العيون، وحلاوة في الصدور، ومنه الزريابات والصفائح التي تكون في سقوف الملوك، وعليه مدار التبايع منذ الزمان الأول والدهر الأطول».

افتتن أهل الأرض بالذهب «منذ الزمان الأول والدهر الأطول»، وجعلوا منه ثمناً «لكل شيء»، كما تشهد الحضارات المتعاقبة على هذه الأرض. تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً راسخاً شاع في مقدونيا القديمة، كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا. ويتمثّل هذا التقليد في صناعة رقائق من الذهب تستقر على أعضاء معيّنة من الجثامين، وعلى مواقع محدّدة من الأكفان. امتدّ هذا التقليد إلى الشرق الأدنى، وشاع في الساحل الفينيقي، كما تشهد قطع عُثر عليها في صيدا وجبيل وبعلبك وحمص.

بلغ هذا التقليد الجنائزي نينوى في شمال العراق، ووصل منه كما يبدو إلى الجزيرة العربية، كما تؤكد القطع التي خرجت من مقابر البحرين، والقطع المشابهة التي عُثر عليها في نهاية القرن العشرين بمدفن شُيّد في شرق مستوطنة ثاج التي تتبع اليوم شمال شرقي المملكة العربية السعودية، وتقع على بعد نحو 95 كيلومتراً من مدينة الجبيل غرباً، وسط وادٍ ضحل يمتدّ على الطريق التي كانت تسلكها قديماً القوافل التجارية.