للوهلة الأولى تبدو محطة بن في مدينة نيويورك، يوم السبت، كعهدها دائمًا، مكتظة بالأشخاص المتعجلين للانتقال إلى مكان آخر، الذي يحتشد الكثيرون منهم تحت لوحة المغادرة في انتظار النداء على قطارهم، لكنك إذا أمعنت النظر، فستقع عيناك على الجنود.
وينتشر هؤلاء الجنود في ملابسهم العسكرية المموهة ودروعهم الواقية للأبدان وسط الحشود، ويستند أحدهم إلى حائط حاملاً بندقية آلية يضمها إلى صدره، بينما فوهتها مصوبة للأسفل. ويوجد هؤلاء الجنود تحسبًا لظهور أي من الإرهابيين.
تشديد الإجراءات الأمنية حدث لأن محطة بن تمثل نموذجًا لما بات يعرف بـ«الأهداف السهلة». إنها عبارة عن تجمع للمدنيين لا يوجد به أجهزة كاشفة عن المعادن أو نقاط تفتيش يتعين عليك أن تخلع حزامك وحذاءك عندها. كما يفترض بالمدنيين أن يساعدوا في حفظ الأمن عبر التحلي بالحذر. بطاقة السلامة الملصوقة على ظهور المقاعد في قطارات أمتراك تحمل عبارة تقول «لو رأيت شيئًا مريبًا أو غير مألوف، لا تسكت!»
لكن عندما يحكم الخوف قبضته على الناس، يصبح كل شيء مريبًا وغير مألوف. الغرائب التي ربما كانت في الماضي تبدو جذابة أصبحت تثير القلق والتوتر. ذلك الشخص ممتلئ الجسم رث الملابس الذي يسير وسط الحشود، يتحدث إلى نفسه ويتبادل النظرات مع الغرباء. هل هو مجنون؟ شرطي متخف؟ أو مجرد شخص ينفض عن نفسه آثار السكر. وفي أرض الأهداف السهلة، نعيش وظلال العنف المحتمل تخيم علينا، إذ يدرك الجميع أنه يمكن أن يزورنا دون سابق إنذار أو واعظ من ضمير أو منطق. وفي أميركا، يأتي التهديد في السنوات الأخيرة من الإرهابيين المحليين والمسلحين المختلين، الذين يسعون في العادة إلى اكتساب شهرة رديئة عبر إطلاق النار من أسلحتهم غير مكترثين ببراءة ضحاياهم. وبالنسبة لمطلق النار العشوائي، شأنه شأن المتشدد، كل ما يهم هو عدد الجثث. واختار مهاجمو باريس ليلة الجمعة الماضية عدة أهداف سهلة. ولم يكن هناك أي ادعاء منهم بمهاجمة نقاط قوية حصينة.
هؤلاء المهاجمون لم يحاولوا تفجير سفينة بحرية أو سفارة أو ثكنة عسكرية. كما لم يهاجموا مباني حكومية أو مراكز شرطية. بل سعى القتلة وراء أناس خرجوا للاستمتاع بأوقاتهم - يتناولون العشاء مساء الجمعة أو يرتادون حفلاً موسيقيًا أو يشاهدون مباراة «ودية» بين فرنسا وألمانيا في ملعب لكرة القدم.
الضحايا كانوا، بحسب بيان نسب إلى «داعش» ويعلن فيه التنظيم مسؤوليته عن الهجمات، «كفارًا» و«صليبيين». لكن البيان لم يذكر أي معلومات لم تكن متاحة بالفعل من خلال وسائل الإعلام، وبعض خبراء مكافحة الإرهاب لم يكونوا على استعداد للجزم بأن «داعش» هو الذي دبر الهجوم.
القتلة لم يكونوا مسلحين بالبنادق فحسب، بل بالأحزمة الناسفة أيضًا.
يستغل الحزام الناسف الرغبة الإنسانية في التجمع والاختلاط الاجتماعي، ويستثمر المفجر الانتحاري تلك النزعة الاجتماعية أسوأ استثمار، ولا يميز الحزام الناسف بين الضحايا، فالقرب المكاني هو كل ما يهم في الأمر.
ويشبه خبراء مكافحة الإرهاب هجمات باريس بما حدث في مومباي في نوفمبر 2008، عندما أقسم فريق مؤلف من 10 متشددين إسلاميين على القتال حتى الموت، وروعوا المدينة على مدار 4 أيام وقتلوا 164 شخصًا.
وكتب محلل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بروس ريديل، على مدونة تابعة لمعهد بروكينغز المتخصص في سياسات الشرق الأوسط: «هجمات باريس ومومباي استخدمت جماعات صغيرة من الإرهابيين جيدي التسليح الذين وجهوا ضرباتهم بشكل متزامن ومتتابع إلى عدة أهداف سهلة في منطقة حضرية. هجمات باريس أضافت فحسب الأحزمة الناسفة لتزيد حصيلة الضحايا». ويؤكد بيتر بيرغين، نائب رئيس مركز نيو أميركا للأبحاث، أن هذا التشابه ليس عرضيًا. ويقول بيرغين إن مطلقي النار في المدارس بالولايات المتحدة يدرسون أقرانهم من مرتكبي هذه الحوادث، وهذا ينطبق على الإرهابيين أيضًا. ويتابع: «إنهم يدرسون الأساليب التي حققت نجاحًا من قبل».
من جانبه، يقول ويليام ماكنتس، مؤلف كتاب عن «داعش»، إنه حدث تطور بطيء في الأساليب المتبعة من جانب الإرهابيين الذين يميلون الآن إلى استخدام الأسلحة النارية أكثر من صناعة القنابل. ويقول ماكنتس: «مصدر القلق الكبير هو أن مزيدًا من الناس سوف يقررون الهجوم باستخدام المسدسات والبنادق ولا يركزون على القنابل. يبدو ذلك منافيًا للمنطق، لكنك عندما تصنع القنبلة، يشارك في العادة الكثير من الأشخاص ويتعين عليك أن تشتري المواد التي أخضعتها الحكومة بالفعل للرقابة، فمن الأسهل أن ترصد وتفشل مؤامرة تتعلق بقنبلة».
وينسب ماكنتس أيضًا الفضل إلى مومباي في تغير أساليب الإرهابيين. ويقول: «كان لديك عدد قليل نسبيًا من الرجال الذين استحوذوا على اهتمام العالم وذبحوا الكثير من الناس باستخدام أسلحة صغيرة». لكن لا يوجد قالب منفرد للإرهاب، في الأسبوعين الماضيين، وقعت 3 حوادث كبرى، اتبعت كل منها أسلوبها الخاص، فقد تحطمت طائرة ركاب روسية على متنها 224 شخصًا في شبه جزيرة سيناء المصرية، ويؤكد (داعش) مسؤوليته عن تفجيرها. كما قتل مفجرون انتحاريون 43 شخصًا في بيروت. والآن وقع ذلك الرعب في باريس».
ويقول بيرغين إن على الأميركيين أن يضعوا نصب أعينهم الأمن النسبي الذين يتمتعون به مقارنة بأوروبا الغربية. صحيح أن الإرهابيين يمكنهم أن يوجهوا ضرباتهم هنا أيضًا، لكن ليس بالقدر نفسه من السهولة. ويستطرد: «التهديد الأكثر معقولية يأتي من مواطنك الذي تصادف أنه معتوه ولديه القدرة على الوصول إلى أسلحة شبه أوتوماتيكية».
* خدمة: «واشنطن بوست»ــ خاص بـ {الشرق الأوسط}




