مشروع طموح لتحويل جامعة الملك سعود إلى أكبر حاضنة للمخطوطات الأدبية

من خلال «كرسي الدكتور عبد العزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها»

مشروع طموح لتحويل جامعة الملك سعود إلى أكبر حاضنة للمخطوطات الأدبية
TT

مشروع طموح لتحويل جامعة الملك سعود إلى أكبر حاضنة للمخطوطات الأدبية

مشروع طموح لتحويل جامعة الملك سعود إلى أكبر حاضنة للمخطوطات الأدبية

يسعى «كرسي الدكتور عبد العزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها» في جامعة الملك سعود لإنجاز مشروع طموح يتعلق بتحويل الجامعة إلى أكبر حاضنة عالمية للمخطوطات العربية. وبدأ هذا الكرسي في تأسيس النواة الأولى للمشروع من خلال إنشاء مركز جامعة الملك سعود لجمع المخطوطات وتحقيقها ونشرها، إذ وصل عدد المخطوطات إلى أكثر من 100 ألف مخطوط، ولا يزال الكرسي يتواصل مع الجهات التي تملك مخطوطات عربية بغرض الحصول عليها وإيداعها مكتبه الجامعة.
وتضمن إنجاز المشروع مراحل تبدأ بتزويد قسم المخطوطات في الجامعة بأكثر من 37 ألف مخطوط خلال ستة أشهر، بينما لم يكن في القسم طوال خمسين عاما سوى 21 ألف مخطوط، في حين تتضمن المرحلة الثانية تزويد الكرسي مكتبة جامعة الملك سعود بأكثر من 37 ألف مخطوط، ثم يصل الرقم إلى 57 ألف مخطوط، وهو قابل للزيادة باستمرار، إذ إن الكرسي يتواصل مع الجهات التي تحتوي على مخطوطات عربية بغرض المبادلة والإهداء والتعاون مقابل الحصول على نسخ من مخطوطاتهم.
أما المرحلة الثالثة فتشمل تزويد مكتبة جامعة الملك سعود بما يقرب من 100 ألف مخطوط، كان الكرسي قد حصل عليها عن طريق المبادلة / الإهداء / التعاون. وبهذا يكون الكرسي قد أسس النواة الأولى للمشروع المقدم لإنشاء «مركز جامعة الملك سعود لجمع المخطوطات وتحقيقها ونشرها»، بعد استكمال تزويد مكتبة الجامعة بهذا العدد الكبير من المخطوطات (نحو 100 ألف مخطوط)، ولا يزال الكرسي يتواصل مع الجهات التي تحتوي على مخطوطات عربية بغرض الحصول عليها وإيداعها مكتبة الجامعة إلى هذه اللحظة.
وقد استطاع الكرسي أن يحصل على صور لهذه المخطوطات من دون أن تتكلف الجامعة ريالا واحدا.

إنجازات الكرسي

يذكر أن «كرسي الدكتور عبد العزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها» تم إقراره قبل 5 سنوات بعد نيل صاحبه جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة والأدب لعام 2009.
وشملت إنجازات «كرسي الدكتور المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها» قائمة من المؤلفات حققها مجموعة من الباحثين السعوديين والعرب، كما أنجز الكرسي محاضرات في غاية الأهمية ضمن اهتماماته، ونظم دورات مختلفة في تحقيق المخطوطات، وتنمية الكفاءة النحوية، وفي مجال اللغة والإبداع، وكيفية كتابة البحوث العلمية، وتحرير الأساليب الأدبية، والتصحيح الإملائي، والأخطاء الشائعة معها، كما شارك عدد من أعضاء الكرسي خارجيا في إلقاء المحاضرات وإعداد بحوث وتقديم أوراق عمل ودراسات مختلفة. ووقع الكرسي عقود شراكة مع جهات ومؤسسات أكاديمية خارجية ومحلية لتحقيق جملة من أهداف الكرسي، كما تم توقيع عقود مع أفراد للقيام بمشاريع لصالح الكرسي ونشاطاته، وأنجز الكرسي تقارير علمية حولية من العلماء إلى العلماء حول حاجز اللغة العربية وآدابها.
وفي ما يتعلق بإنجازات الكرسي من المؤلفات وتحقيقها تم نشر 16 مؤلفا حملت عناوين: «الشاهد الشعري في النحو العربي» للدكتور محمد الباتل الحربي، و«نظر في الشعر القديم» للدكتور حسين الواد، و«الأسلوبيات الأدبية» للدكتور محيي الدين محسب، و«الشعار على مختار نقد الأشعار» للدكتور عبد العزيز المانع، و«من اسمه عمرو من الشعراء» للدكتور عبد العزيز المانع، و«تحليل القصص» للدكتور ناصر الحجيلان، و«نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب» للدكتور أحمد كمال والدكتور حسن الشماع، و«شعر الأخضر اللهبي» لإبراهيم الحقيل، و«نحو المعنى: بين البلاغة والنحو» للدكتورة خلود الصالح، و«دراسات لغوية» للدكتور إبراهيم الشمسان، و«ظاهرة حديث الشعر عن الشعر» للدكتور عبد العزيز الخراشي، و«الشعر العربي في أعمال ياروسلاف ستيتكيفيتش» للدكتور حسن البنا عز الدين، و«ديوان عبد الله بن الزبعرى» للدكتور عبد الله الجربوع، و«مناظرة الحاتمي وأبي الطيب المتنبي» للدكتور حسن الشماع، و«الزمن في العربية» للدكتورة جنان التميمي، في حين سيتم طباعة ستة مؤلفات هي: «رسائل العميدي» للدكتور إحسان الجابري، و«فصيح ثعلب» للدكتور سليمان العايد، و«قياس العكس في الجدل النحوي» للدكتور محمد العمري، و«معجم المصطلحات النقدية» للدكتور محمود الربداوي، و«جامع محاسن كتابة الكتاب» للدكتور عبد العزيز المانع، و«أمالي الزجاجي» للدكتور محمد خير البقاعي.
أما المحاضرات التي نظمها «الكرسي» خلال السنوات الأربع الماضية فحملت عناوين في غاية الأهمية لخدمة اللغة العربية وآدابها، أبرزها: «نظرية اكتساب اللغة بالفطرة والممارسة»، و«اللغة العربية في الجامعات الأميركية: جامعة كولومبيا نموذجا»، و«اللغة العربية وآفاق الحوسبة»، و«بيت المتنبي في حلب»، و«الحركة العلمية أيام سيف الدولة: العمارة، الطب، الفلك»، و«واقع اللغة العربية في الصحافة المقروءة»، و«أبعاد النظرية الثقافية الاجتماعية وأثرها في مجال تعليم اللغة»، و«النصوص الفردية أم الخطابات الجمعية.. القشرة وما تحتها».
ومن ضمن أنشطة الكرسي إعداد بحث عن نشر المخطوطات بالمملكة لتقديمه لمنتدى مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية، الذي سيعقد في الرباط يناير (كانون الثاني) المقبل، والاشتراك في لجنة الاختيار بجائزة الملك فيصل، وغيرهما. وساهم الكرسي بتدريس اللغة العربية في قسم اللغة العربية بجامعة مالنق بإندونيسيا، بـ90 أستاذا. وفي ما يخص عقود الشراكة مع المؤسسات الأكاديمية، أبرم الكرسي اتفاقية تعاون مع جامعة هايدلبرغ لخدمة مشروع توأمة دولي بهدف حصول جامعة الملك سعود متمثلة بالكرسي على صور لجميع مخطوطات جامعة هايدلبرغ، ومع قسم الإعلام بجامعة الملك سعود من خلال مشروع لدعم التواصل الأكاديمي بين الكرسي والأقسام العلمية ذات الاهتمام باللغة العربية من الناحية التطبيقية، كما تم توقيع عقد مع النادي الأدبي بالرياض لمشروع يتعلق بتحقيق المشاركة المجتمعية في تنمية المعرفة اللغوية والثقافة الأدبية العربية.

يفاوض جامعات عالمية لتبادل المخطوطات العربية

المانع يقدم مشروعا غير مسبوق لطريق هروب المتنبي

أنجز الدكتور عبد العزيز المانع الذي يحمل الكرسي اسمه رحلات علمية وعملية ذات طبيعة مختلفة غير مسبوقة، هذا ناهيك بالمحاضرات والدراسات الأخرى التي قام بها، ولعل أبرزها إنجاز مشروع غير مسبوق لوضع خارطة علمية لهروب المتنبي من مصر إلى الكوفة من خلال قيام المانع برحلتين تمهيديتين لكل من القاهرة وسيناء للتعرف على أماكن انطلاق المتنبي، بالإضافة إلى رحلتين إلى الأردن لتتبع الأماكن التي مر بها المتنبي، ورحلة تمهيدية لكل من تبوك والجوف لذات الهدف. وأنجز المانع الرحلة العلمية إلى الأردن وشمال السعودية لرسم طريق هروب المتنبي ووضع الخرائط النهائية للطريق كله حسب معايير علمية دقيقة، وذلك بالاتفاق والمشاركة مع إدارة المساحة العسكرية بالرياض، إضافة إلى زيارة علمية أخرى إلى الأردن للاطلاع على بعض الخرائط الخاصة بالمتنبي، وذلك بالتعاون مع الجمعية الملكية الجغرافية لخدمة مشروع وضع خارطة علمية لهروب المتنبي من مصر إلى الكوفة. وتضمنت الزيارات العملية والعملية للدكتور المانع زيارة لجامعة هايدلبرغ بألمانيا لصالح تنفيذ مشروع التوأمة المتفق حوله. وقد تم الاتفاق على تزويد الجامعة بما لديهم من مخطوطات عربية لخدمة المشروع. ونظم أيضا زيارة عمل لجامعة مالنق في إندونيسيا، للعمل أستاذا زائرا للغة العربية لمدة أسبوعين، وزيارة إلى برلين للتفاوض مع مكتبة برلين الوطنية حول إمكانية تبادل المخطوطات العربية بينها وبين جامعة الملك سعود، وكذلك زيارة عمل للنمسا للغرض ذاته.

*******************************************************************

شرح الصور:
1. الملك عبد الله بن عبد العزيز يسلم الدكتور المانع جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة والأدب لعام 2009، وعلى أثر ذلك تم إنشاء كرسي باسمه في جامعة الملك سعود
2. الدكتور عبد العزيز المانع



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».