برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل

الحزبيون يتصدرون المشهد.. وضعف المشاركة أبرز التحديات

برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل
TT

برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل

برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل

في غياب القواعد التقليدية للانتخابات في مصر، أجريت المرحلة الأولى من الاستحقاق النيابي منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأعلنت نتائجها النهائية نهاية الشهر نفسه. وتكفل فاصل الأسبوعين هذا، بين انطلاق المرحلة وإعلان النتائج، بإدخال تعديل جذري على المشهد؛ فالاقتراع الذي بدأ فاترا، تصاحبه أصداء ضحكة مجلجلة لرئيس نادي قضاة مصر حين سئل عن وجود تجاوزات، فعلق قائلا: «لا.. لا توجد تجاوزات.. ولا ناخبون»، انتهى بحسب مراقبين إلى ترتيب جديد للنخبة السياسية في البلاد، عبر «علاقات قوة» غير مسبوقة في أروقة الحكم.
وأظهرت النتائج النهائية للمرحلة الأولى حضورا قويا للأحزاب التي فازت بـ108 مقاعد، مقابل 105 مقاعد للمستقلين في النظام الفردي. وتصدر حزب «المصريين الأحرار»، الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، السباق الانتخابي بـ36 مقعدا، يليه حزب «مستقبل وطن» حديث العهد بـ21 مقعدا، وتقاسم حزبا «الوفد» أعرق الأحزاب المصرية و«الشعب الجمهوري» المركز الثالث محققين 11 مقعدا لكل منهما، فيما اكتفى حزب النور، الممثل الوحيد لتيار الإسلام السياسي، بـ8 مقاعد في الجولة الأولى، وتوزعت باقي المقاعد على 11 حزبا.

يتوقع الدكتور ضياء رشوان، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن يستحوذ حزب «المصريين الأحرار» على ما بين 90 إلى 80 مقعدا بنهاية الجولة الثانية التي تنطلق أواخر الشهر الحالي، كما توقع أن يحصل حزب «مستقبل وطن» على نحو 60 مقعدا، معتبرا أن هذا النسب ستؤدي حتما إلى برلمان مختلف جذريا عن البرلمانات التي شهدتها البلاد طوال تاريخها.
وجاء أول اقتراع نيابي في مصر بعد ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، من خارج المقررات التاريخية المتعارف عليها، فمنذ رأى الرئيس الراحل أنور السادات أن الوقت حان لإنهاء تجربة الحزب الواحد، معلنا عودة الأحزاب في نوفمبر (تشرين الثاني) 1976، قاد الحزب الذي يتزعمه الرئيس البرلمانات المنتخبة، بأغلبية تراوحت بين المريحة أو الساحقة، ولم يكن الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي في تجربته التي لم تتجاوز العام بمنأى عن ذلك.
ويرى الدكتور معتز بالله عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن «البرلمان الجديد أدخلنا إلى مساحة غير مطروقة في حياتنا السياسية، فللمرة الأولى يأتي البرلمان من دون أهلي وزمالك الحياة السياسية (في إشارة لحالة الاستقطاب الحاد والمنافسة التقليدية بين أهم ناديين لكرة القدم في البلاد)، فلا وجود للحزب الوطني الديمقراطي بالصيغة الرسمية، ولا لإخوان مسلمين بالصيغة الرسمية».
في غياب المشهد التقليدي وجد المرشحون والناخبون أنفسهم أمام انتخابات برلمانية بلا بوصلة هادية، وخارج المربع المريح للموالاة أو المعارضة، فالرئيس عبد الفتاح السيسي، القادم من المؤسسة العسكرية رأسا إلى سدة الحكم، تعهد ألا يؤسس حزبا أو يدعم حزبا من الأحزاب الموجودة على الساحة، وهو أمر كرسه الدستور الجديد، رغم محاولات جرت للإيحاء بعكس ذلك من قبل تحالفات انتخابية.
ووضع الدكتور رفعت السعيد، السياسي المخضرم، رئيس المجلس الاستشاري لحزب التجمع، محاولات قائمة «في حب مصر» للإيحاء بأنها قائمة الرئيس السيسي ضمن الأسباب التي أدت إلى عزوف الناخبين، وهو التحدي الأبرز أمام البرلمان المقبل. وأضاف قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «هذا الإيحاء غير الذكي من قائمة (في حب مصر) جعل الناخب يتصور أنها آتية للمجلس لا محالة، وقد كان».
وتنفي قائمة «في حب مصر» هذا الاتهام، وتعلن بوضوح أنها تدعم الرئيس السيسي دون أن يعني هذا أنها مدعومة من طرفه. وقال اللواء سامح سيف اليزل، الذي يتزعم القائمة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه يعتزم بناء تحالف واسع داخل المجلس، متعهدا بأن يقوم تحالفه بدور رقابي قوي.
الحيوية الموعودة لمجلس تتوزع مواقع القوة فيه بين عدة أحزاب، وائتلافات تسعى حاليا لتوسيع نفوذها باستمالة نواب مستقلين، تعاني من أزمة جوهرية تتعلق بضعف المشاركة، الأمر الذي من شأنه أن يلقي بظلال من الشك حول شرعية المجلس التمثيلية.
ويرى الدكتور نور فرحات، أستاذ فلسفة القانون والفقيه الدستوري بجامعة الزقازيق، أن توافر الشرعية القانونية للانتخابات لا يغني عن الشرعيتين؛ السياسية والشعبية، مؤكدا أن الحديث عن الشرعية القانونية وحدها لا يجوز بعد ثورتين شعبيتين شهدتهما البلاد.
وبالنظر للدور الذي حدده الدستور للبرلمان المقبل، تبدو أزمة الشرعية أكثر إشكالية، فمجلس النواب الجديد منوط به وضع القوانين المكملة للدستور، إلى جانب توسيع صلاحيات المجلس الذي سيكون بمقدوره أن تشكل أغلبيته الحكومة إذا لم يحظ مرشح الرئيس لرئاسة مجلس الوزراء برضا النواب، كما سيكون بمقدور المجلس طلب طرح الثقة عن الرئيس في استفتاء شعبي، وإن رفض الشعب طرح الثقة يعني ذلك حل المجلس.
وقبيل الانتخابات البرلمانية، قادت تحليلات لمراقبين ورؤساء أحزاب إلى تهيئة الساحة لـ«انتخابات ضعيفة»، يهيمن عليها المستقلون ونواب الحزب الوطني الديمقراطي (المنحل) الذي احتكر السلطة طوال عقود حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.
يعارض الدكتور ضياء رشوان، وهو عضو لجنة كتابة الدستور، تلك الآراء، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الانتخابات البرلمانية أحيطت بكم هائل من التحليلات التي بنيت على انطباعات، وأحيانا معلومات غير مدققة، فبينما كان طيف واسع من المراقبين يتحدثون عن برلمان سيهيمن عليه المستقلون، عكست الأرقام حضورا قويا لمرشحي الأحزاب؛ فمن بين 2548 مرشحا في الانتخابات كان هناك 883 مرشحا حزبيا، وهذا أمر انعكس بدوره على النتائج النهائية للمرحلة الأولى، وهذه النتائج لم تأت من فراغ».
وتابع: «المؤكد أن المجلس وبخلاف ما تردد يشهد حضورا هائلا للأحزاب يتجاوز 50 في المائة، ربما للمرة الأولى منذ عقود، ومعظم تلك الأحزاب جديد على الساحة، باستثناء حزب واحد قديم هو حزب الوفد، كما أن اللافت أيضا أن هذا الحضور الحزبي برز في المحافظات وهو أمر غير متوقع، بعد أن تعودنا على أن وجودها يقتصر على المناطق الحضرية فقط، وهو ما يعني أن الأحزاب اخترقت المجتمع من أسفل».
ويحاجج البعض بأن الأحزاب التي تحظى بدعم سخي من رجال أعمال نجحت في استقطاب مرشحين أقوياء في دوائرهم الانتخابية من دون أن تربطهم أي صلة بالحزب أو أفكاره أو برنامجه، مما يعني أن نجاحها لا يعبر عن وزنها الفعلي ولا يعكس حضورا شعبيا. لكن رشوان يشير إلى ضرورة تجاوز قراءة المشهد من منطلق نظرية الدوافع فقط؛ ويقول: «الأحزاب كان أمامها طريقان، بناء كوادرها أو استقطاب كوادر موجودة على الأرض بالفعل، وبحكم التوقيتات اختارت الحل الثاني، وعلينا أن ننتظر لنرى التجربة خلال الممارسة، فهؤلاء النواب سينشطون بحكم عدة أمور داخل هياكل أحزابهم، وهو أمر سيكون له مردود جيد جدا على الحياة السياسية».
لا يبدي الدكتور عبد الفتاح، وهو أيضا أستاذ للعلوم السياسية في جامعة ميشيغان الأميركية، الثقة نفسها في أداء البرلمان المقبل، ويشير إلى أن «نتائج الانتخابات التي ترتب عليها خروج جيل من السياسيين من المشهد السياسي لصالح جيل جديد، سيشغل المساحة الأكبر من مقاعده، تضعنا أمام نواب ليست لديهم خبرة كافية».
ويضيف عبد الفتاح قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون تحديا وفرصة ربما يحسنون (النواب الجدد) استغلالها بالبناء على قواعد مختلفة، أو ربما لا يحسنون استغلالها وبالتالي نكون أمام برلمان هو تكرار للبرلمانات السابقة، برلمان مفتت، وجوده كغيابه، وهذا هو الخوف الأكبر، أن يفقد البرلمان دوره كأداة للتفاوض الجماعي بين فئات المجتمع المختلفة، وكأداة لحل الصراعات السياسية بطريقة منضبطة».
يعبر الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، عن المخاوف نفسها معتبرا أن البرلمان لن يعارض سياسات الرئيس السيسي، مشيرا إلى أن النواب يريدون أن يظلوا قريبين من الرئيس لأنه لا يزال مركز النظام السياسي في البلاد.
الرأي نفسه يؤيده أستاذ العلوم السياسية حازم حسني، الذي يقول إن «البرلمان سيكون برلمان الرئيس». ويضيف أن البرلمان «سيترك للرئيس حرية إدارة شؤون البلاد كما يشاء، سيكون برلمانا للحفاظ على الأمر الواقع كما هو مع إعطاء مسحة من الديمقراطية».
ويختلف الدكتور رشوان مع هذه الانتقادات المسبقة أيضا، ويقول إن التصريحات التي خرجت من أكبر حزبين في البرلمان تنقد هذا الأمر، فرئيس حزب «مستقبل وطن» أعلن صراحة أنه لن يؤيد رئيس الوزراء شريف إسماعيل المدعوم من الرئيس المصري، إذا ما عرض برنامج الحكومة على البرلمان، كما أكد اللواء سيف اليزل أن بقاء حكومة إسماعيل لا يزال أمرا غير محسوم.
ورغم المخاوف يتوقف الدكتور رشوان، وهو نقيب الصحافيين السابق، أمام ظواهر أخرى تؤشر في اعتقاده على وجود منحى جديد للناخبين، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لأول مرة في تاريخ البرلمانات المصرية نجد 24 قبطيا في جولة الإعادة، منهم مرشحان اثنان تنافسا على المقعد نفسه في بندر ملوي (في محافظة المنيا بصعيد مصر)، كما شهدنا للمرة الأولى أيضا منذ حصول المرأة على حق التصويت حضور 11 سيدة في جولة الإعادة».
وأضاف أن محافظة المنيا التي شهدت أكبر عدد من حرق الكنائس (في أعقاب موجة العنف التي تلت فض اعتصام أنصار الإخوان العام قبل الماضي)، والتي شهدت منع تصويت الأقباط في الانتخابات الرئاسية عام 2012، هذه المحافظة دخل جولة الإعادة فيها 10 أقباط. نحن هنا نتحدث عن نوع جديد من الناخبين لا تشكل العائلات والقبليات عصبه الأساسي، رغم أنها لا تزال موجود بالطبع فهي جزء من تركيب اجتماعي.
وكان رئيس اللجنة العليا للانتخابات، المستشار أيمن عباس، قد أعلن في وقت سابق أن نسبة التصويت في المرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب بلغت 26.56 في المائة بإجمالي بلغ نحو 7.3 مليون صوت، فيما شارك في جولة الإعادة بالمرحلة الأولى 5 ملايين و554 ألفا و678 ناخبا، من أصل 25 مليونا و582 ألفا و518 ناخبا لهم حق التصويت في الجولة التي شملت 14 محافظة من بينها محافظتا الجيزة والإسكندرية.
وأوضح المستشار عباس أن مجموع النواب الفائزين في الجولة الأولى بلغ 273 نائبا، بينهم 5 نساء و12 شابا و108 حزبيين و105 مستقلين و60 نائبا فازوا بنظام القوائم (قائمة في حب مصر حسمت الانتخابات في الجولة الأولى).
ورغم الإيجابيات التي تحدث عنها رشوان، بدا لعدد من المراقبين أن الاقتراع جرى «خارج الصندوق»، بالنظر لنسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات البرلمانية، لكن بقي الخلاف حول من حصد «مقاعد الفراغ»؛ اللامبالاة التي وسمت الانتخابات طوال العقود الثلاثة ما قبل ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أم أنه الغضب مما عده معارضون «إغلاقا للمجال العام»، أم استفتاء جديد على شعبية الرئيس السيسي؟
وترى الدكتورة هالة شكر الله، الرئيسة السابقة لحزب الدستور، أن عزوف الناخبين عن الاقتراع في أول مجلس نواب في مصر بعد 30 يونيو (حزيران) لا يعبر عن قرار قصدي، بقدر ما يشير إلى إحساس عام عبرت عنه بـ«الإيمان بالمستقبل».
وقالت شكر الله لـ«الشرق الأوسط» إن «قطاعا كبيرا جدا من المصريين لم يذهب لأنه شعر بأنه غير مطلوب منه المشاركة.. هناك علاقة ديناميكية بين الجماهير والسلطة، والمصريون عبر تراكم الخبرة يدركون متى يكون لمشاركتهم أثر ومتى لا يكون لهذه المشاركة معنى».
وتضيف شكر الله أن «القطاع الوحيد الذي يمكن أن نعتبر مقاطعته للعملية الانتخابية مقاطعة واعية هو قطاع الشباب. هناك غضب بالتأكيد، وربما يأس، ولدى البعض رغبة في الانسحاب من المجال العام».
عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية كثفه مشهد احتشاد ما يزيد على 40 ألف شاب من روابط مشجعي النادي الأهلي في استاد مختار التتش بوسط القاهرة غير بعيدين عن ميدان التحرير لتشجيع ناديهم، في حين خيم الصمت على مراكز الاقتراع القريبة.
وفي رسالة مباشرة، انتشرت في شوارع بالقاهرة ملصقات دعائية لمجموعة من شباب الثورة المحبوسين في قضايا تتعلق بالتظاهر دون الحصول على ترخيص. وحملت تلك الملصقات صور النشطاء علاء عبد الفتاح (مسجون)، أحمد دومة (مسجون)، وأحمد ماهر، وآخرين، مع دعوة للتصويت للقائمة التي أطلق عليها قائمة «أفرجوا عن مصر».
وتتابع شكر الله قائلة: «على الدولة أن تستفيد من الرسائل التي مررها المصريون عبر العزوف عن المشاركة في الانتخابات، هذه مؤشرات قوية على أن هناك خطبا ما، وأننا لسنا على طريق المستقبل».
ومن ثم، يطالب الدكتور السعيد الحكومة بمراجعة مواقفها أيضا، لكنه يحمل لجنة قانونية أنيط بها وضع قوانين الانتخابات وترأسها وزير العدالة الانتقالية (ألغيت في الحكومة الحالية) مسؤولية عزوف الناخبين. وقال السعيد إن قوانين الانتخابات أساءت للعملية الانتخابية بقدر ما استبعدت بشدة الفئات الوسطى والفقراء، نظرا للالتزامات المادية التي فرضتها على المرشحين والتي بلغت في الانتخابات الحالية نحو 11 ألف جنيه، وهذا يعني أن 60 في المائة من المصريين أجبروا على عدم الترشح، وهو أمر يفتقر إلى المنطق خاصة حينما نعلم أن المرشح لرئاسة الجمهورية غير مطالب بدفع مليم واحد.
ويشير السعيد إلى قيمة الكشف الطبي والتي تقدر بـ3 آلاف جنيه، وقد اضطر المرشحون لإعادته مرة أخرى بعد أن تأجلت الانتخابات بحكم قضائي، بالإضافة لمبلغ 5 آلاف جنيه رسوم نظافة تحصلها المحافظات. وكانت هذه التكلفة المادية سببا في تراجع قائمة «صحوة مصر» عن السباق الانتخابي.
وانتقد السعيد أيضا موقف اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات. وقال إن «اللجنة وقفت مكتوفة الأيدي وعاجزة عن تفعيل المادة 74 من الدستور التي تمنع الدعاية الانتخابية على أساس ديني، كما وقفت مكتوفة الأيدي أمام أكوام الأموال التي تدفقت من الخارج على حزب بعينه، ومن الداخل على أحزاب أخرى، حتى إن تلك الأحزاب بدأت تتباهى بحجم الإنفاق، والنتيجة العملية أن قطاعا واسعا ابتعد عن العملية الانتخابية ترشيحا وتصويتا».
ويحدد قانون الانتخابات ضوابط وسقفا للدعاية الانتخابية، لكن معظم المراقبين يعتقدون أن عددا من الأحزاب تجاوز سقف الدعاية المسموح به.
الانتقادات التي وجهها السعيد للعملية الانتخابية لم تمنعه من التأكيد على أنها تمت بشفافية ونزاهة، وهو أمر شككت فيه أحزاب صغيرة أعلنت انسحابها قبل أيام من بدء جولة الإعادة في المرحلة الأولى.
وقال طارق زيدان، القيادي في تحالف نداء مصر المنسحب، لـ«الشرق الأوسط»، إن «قرار انسحاب التحالف جاء كرد فعل طبيعي للتجاوزات التي شهدتها العملية الانتخابية، وتجاوبا مع نبض الشارع الذي قاطع الانتخابات».
وهكذا، بين فتور مشهد الاقتراع وسخونة التنافس الحزبي على أكثرية البرلمان المقبل، ينتظر المصريون نتائج الجولة الثانية للبرلمان التي ستجرى يومي 22 و23 نوفمبر الحالي في 13 محافظة مصرية من بينها العاصمة القاهرة، ليعرفوا إذا ما كانت الأحزاب ستكرس حضورها بالفعل كلاعب رئيسي على الساحة السياسية، أم لا.. كما سيعرف قادة تلك الأحزاب ما إذا كان الناخبون سيعيرونهم هذه المرة الاهتمام الكافي، أم لا.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.