كتاب أرشحه لك: «ألف عام من الموسيقى» لإبراهيم العريس

ثناء عطوي
ثناء عطوي
TT

كتاب أرشحه لك: «ألف عام من الموسيقى» لإبراهيم العريس

ثناء عطوي
ثناء عطوي

نعرف الكثير عن تأثير الموسيقى، وعن أسماء المقطوعات وأرقام السيمفونيات، ونعرف القليل عن معزوفات تجاوزت موضوعها الموسيقي نحو التأثير الفعلي في مجتمعاتها، وعن مجد الموسيقيين الذين تحدّوا أزمانهم وأسوار معابدهم. نعرف عن الموسيقى الكلاسيكية ما يلزم، لكننا لا نعرف عن «ألف عام من الموسيقى»، الموسوعة التي أعدّها الباحث في التاريخ الثقافي والناقد السينمائي إبراهيم العريس، مستعرضًا المسار التطوّري للموسيقى منذ ألف عام، وانتقال الموسيقى من داخل جدران الكنسية والمعابد إلى الساحات العامة وحلقات الأداء الفردي والمناسبات، بعد أن كانت محصورة في التراتيل ومقامات الآلهة، وبعد أن كان الموسيقى مبدعًا جماعيًا أو مبدعًا ذا أصول إلهية.
منذ ذلك الحين، خرجت الموسيقى إلى الحياة الاجتماعية، وأصبح هناك مكانة مهمّة للتأليف الموسيقي وللمؤلّفين والعازفين، وتنوّعت الموسيقى وتوزّعت إلى أنواع وتيارات، فولدت السوناتا والكونشرتو والفوغا والسيمفونية وموسيقى الحجرة، وعرفنا مدارس وتيارات من قوطية، وروكوكو وباروك إلى الرومانطيقية والتعبيرية والواقعية، بالتوازي مع الموسيقى الشعبية التي بقيت مزدهرة.
يروي العريس بأسلوب مكثّف وشيّق في موسوعته الصادرة عن «مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث»، السير الذاتية لأشهر العازفين الكلاسيكيين، رابطًا نتاجاتهم بمساراتهم الشخصية وتجاربهم القاسية والمتنوّعة. يبدأ من صاحب «الاستطيقا» أو «المدخل إلى علم الجمال» الفيلسوف الألماني هيغل، الذي أوصل مفهوم الروح إلى قلب الأداء الآلي للموسيقى، وكان يعتقد أن الموسيقى هي ثاني الفنون رومانسية بعد الرسم، كما أنها أكثر الفنون تحرّرًا من ثقل المادة، لأن الموسيقى تتعامل مع الصوت، والصوت مادة تتلاشى، وهو حركة اهتزازية ليس لها شكل جسماني ولا استمرارية فيزيقية.
ويتناول العريس أشهر المعزوفات التي لا يزال لها سحر ورهبة، مثل مقطوعة «كارمينا بورانا» التي تحمل توقيع الألماني كارل أورف، وهي حظيت بإجماع المثقفين والكتّاب في القرن العشرين، وجاءت كنوع من التمرّد على الغناء الكنسي، على اعتبار أن جذورها تعود إلى بدايات عصر النهضة، حيث اكتشف أورف تلك الأعمال المخبوءة داخل دير في ألمانيا، وكانت عبارة عن أناشيد يردّدها الطلاب والمتجوّلون في الأعياد والحانات، كنوع من الطقس الوثني المرتبط بآلهة الخمر والحب عند اليونان والرومان.
ويستعرض المؤلف قصص الموسيقيين الأكثر شهرة من خلال سير مجتمعاتهم، متحدّثاّ عن الفصول الأربعة لكاهن البندقية أنطونيو فيفالدي، وعن رائد «فن الفوغا» الألماني سباستيان باخ الذي أحدث ثورة في عالم الموسيقى، مذكّرًا بحيوية موزارت الموسيقية في «300 نص لحياة قصيرة» وعبقريته في «قداس لراحة الموتى» وأيضًا عن تأثير «حلم ليلة صيف» لمندلسون في المجتمع البريطاني، التي استقى شكسبير أحداثها من مصادر عدّة قديمة ومعاصرة، وصولاً إلى غوته وشوبان وفاغنر ورائعة تشايكوفسكي «بحيرة البجع»، وأعمال أرنولد شونبرغ وهربرت فون كارايان وآخرين.
في فضاءات الموسيقى أيضًا، قرأتُ بالتزامن مع موسوعة إبراهيم العريس كتاب «روح الموسيقى» للناقد والكاتب اللبناني سمير الحاج شاهين الصادر عن دار الجمل. يقدّم فيه قراءة معمّقة لعالم لا يسحرنا فحسب، وإنما يشحن خلايانا بدم جديد، ويولّد فينا إحساسا بالفرح الكياني المنزّه، الفرح الذي يُحوّل أقل شؤون الحياة في عين الفن إلى مادة جمالية. ويعتبر الحاج في بحثه أن الموسيقى هي الصدى العميق لانفعالاتنا، والوسيلة الأرقى لنقل عواطفنا وأفكارنا، وهي تحملنا إلى حيث يمكننا أن نطير بخفّة من دون أي روابط، وتستحوذ علينا كلّيًا حتى نلامس حدود السماء، بعيدًا عن اعتبارات الزمان والسببية والنفعية.
ويستشهد برأي شوبنهاور عن الفن كمهدّئ للحياة، فيما يراه نيتشه محرّضًا عليها. وفي رسالة خاصة إلى صديقه غاست يقول نيتشه: «الموسيقى تحرّرني من نفسي، إنها تُسكرني عن نفسي، كما لو أني كنت أنظر إلى نفسي من أعلى، وأشعر بنفسي من أعلى، إنني كما لو استحممت في عنصر أكثر طبيعية».
العازف في «روح الموسيقى» هو الروح الرديفة لهذا الفن، فهو بحسب الكاتب يُعيرنا عيونه لنرى بها العالم، ونستمتع من خلاله بالصفاء النفسي العميق وتلاشي الأشياء التي نتنبّه إليها بحبّ، ويكشف لنا عن جوهر العالم الحميم، جاعلاً من نفسه ترجمانًا لأعمق حكمة في لغة لا يفهمها العقل.
يخوض الكاتب في الفروع المؤلّفة للموسيقى، ويحلّل فلسفة النغم والتأمّلات الجمالية وموسيقى الأغاني والأوبرا والسيمفونيات والرقص والموسيقى الدينية، ويرى أن الإيقاع بدوره يعلّمنا فضائل الانتظار والإصغاء إلى نبض الزمن، وهو يخلو من ذلك القلق الذي هو وعي باللحظة الفارغة إذ تتحطم فيها وثبة الحياة.
في الكتابين نفحات تتجاوز الموسيقى كموضوع، نحو العمق الأدبي والفلسفي لعالم لم ينجُ فيه إلّا اللحن والنغم، عالم تغرق خيالاتنا فيه عميقًا، ونعثر فيه على معنى للوجود مهما كان مُعدمًا، عالم مزدحم بالإيقاع، قد يكون صمتًا أو صخبًا، إيقاعًا وأنغامًا، عشقًا أو جنونًا، وغيرها الكثير..
*كاتبة وإعلامية لبنانية



ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي
TT

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

صدر عن دار «إضاءات» بالقاهرة كتاب «المقاومة في مسرح عبد الرحمن الشرقاوي» للناقدة د. سامية حبيب، الأستاذ بالأكاديمية المصرية للفنون، حيث تناقش واحدة من أهم التجارب الرائدة في المسرح الشعري المصري والتي أبدع فيها الشرقاوي عبر حياته الممتدة من 1921 حتى 1987.

تشير المؤلفة في البداية إلى أن الدراما الشعرية، أي تأليف مسرحية من خلال نص شعري، طرحت منذ وجودها في المسرح العربي عبر القرن العشرين إشكاليات درامية ولغوية وفنية، بداية من محاولات أمير الشعراء أحمد شوقي وعلي أحمد باكثير، والتي يمكن اعتبارها «المرحلة الكلاسيكية»، حيث حاول مثل أولئك الرواد خلق الدراما الشعرية في إطار التقاليد الموروثة لبناء القصيدة العربية. واصطدمت تلك المحاولات بتناقض جوهري بين طبيعة الدراما من حيث هي تغير مستمر في الشخصية الدرامية وفقاً لدرجة تفاعلها مع الموقف الدرامي الذي تتحرك فيه وتعبر عن ذاتها في إطاره بما يعكس تغيرات فكرها وانفعالها ومواقفها الأخلاقية، وبين طبيعة الشعر العربي بما فيه من درجات الثبات والرتابة الإيقاعية في أسلوب البناء التقليدي للقصيدة العربية.

وتلفت الباحثة إلى أن ذلك أدى لعيب جوهري في النماذج الرائدة من الدراما الشعرية، يتمثل في الانفصال بين وسيط الأداء الفني وطابعه الجامد، وبين الموضوع المُشَكَّل داخل هذا الأداء الفني، إلا أنّ هذه المرحلة كانت ضرورية ومنطقية في إنجازاتها الإبداعية في إطار واقعها الثقافي والتاريخي.

وتأتي بعد ذلك مرحلة الثورات الفنية والسياسية في واقعنا العربي وهي فترة الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن العشرين والتي لم يكن هناك مفر من انعكاسها في أشكال التعبير الفني والأدبي، حيث طرأ تغير في بناء القصيدة العربية بما يخلصها من رتابة وحدة البيت والقافية والروي، وأصبح اختيار البحر الشعري خاضعاً لمعنى التجربة أو الانفعال الكامن فيها. كما أن البناء الشعري صار أكثر طواعية لمفهوم الدراما بخصوصيتها من حيث الترابط بين لغة الحوار وطبيعة الشخصية والموقف بما فيه من تغير وتفاعل يمكن أن يستمد من التغير في الإيقاعات الشعرية، وبالتالي يرتبط الشكل بالمضمون والشخصية بالموقف، مما يعد مقدمة فنية لحل التناقض بين الشاعر العربي والدراما.

في إطار هذه المرحلة الفنية التي امتدت حتى اليوم بامتداد الوطن العربي، كتب الشرقاوي إنجازاته الدرامية شعراً، فإلى أي مدى تقني استطاع أن يخلق ترابطاً بين اللغة الشعرية التي كتب بها مسرحه والدراما بوصفها قالباً فنياً اختاره بعد محاولات في القصيدة والرواية والتراجم؟

تجيب د. سامية حبيب عن هذا التساؤل، مشيرة إلى أن فكرة المقاومة تبرز في هذا السياق على خلفية معارك التحرر من الاستعمار الغربي التي عصفت بمصر والعالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلال اختياره لشخصيات اقترنت في الوجدان العام للعرب ووعيهم بتاريخهم بمواقف ذات أثر كبير في مصير الأوطان والشعوب وبلورة أنماط حياتها وتجربتها الاجتماعية والاقتصادية وأحلامها الممكنة لتجاوز أوضاعها السيئة.

هكذا، يتخير الشرقاوي مادة تاريخية صريحة يعيد بناءها في عالم فني ويضيف إليها وينسج في إطارها المتواري في كتب التاريخ حركة وأحلام الشعوب في إطار تفسيرها واستقراء مكنونها، مستهدياً بالشخصيات البطولية الفاعلة للأحداث والمواقف، والمنتجة في الوقت نفسه للأفكار والمشاعر. وربما يتخير مادة «شبه تاريخية» يستنبطها في ضوء الوقائع والمعلومات التاريخية الصريحة والأكثر ارتباطاً بالقضايا والهموم الجماعية العامة والساخنة بكل ما لها أحياناً من ثقل الحداثة والمعاصرة.

من النوع الأول على سبيل المثال لا الحصر، تصدر مسرحية «النسر الأحمر» بثنائية «النسر والغربان» و«النسر وقلب الأسد» التي تدور حول بطولات صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الحملات الصليبية في العصر الوسيط، وكذلك الزعيم الوطني المصري أحمد عرابي زعيم الفلاحين والتي تتناول المخططات الغربية التي انتهت بمحنة الاحتلال الإنجليزي لمصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

ومن النوع الثاني تأتي مسرحيته الأشهر «الفتى مهران»، التي تعتمد على ما تواتر من معلومات تاريخية ووقائع عن الهجمات التترية على المحيط العربي وأرضه وحضارته، وكذلك مسرحية «وطني عكا» التي تتخلق في إطار المواجهات العربية الأكثر حداثة وعصرية منذ حرب 1948 وما تلاها من هزيمة 1967 ثم نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وتبرز «الغنائية» باعتبارها أحد مفردات «مسرح المقاومة» لدى عبد الرحمن الشرقاوي والتي تتمثل على سبيل المثال في لجوء الشخصية إلى مخاطبة الجماعة غير المحددة، أي مخاطبة المطلق الإنساني في نبرة خطابية عالية وبعيدة عن الموقف الدرامي وعن قدرات الشخصية. ومن مثل ذلك قول «جميلة» في نهاية مسرحية «مأساة جميلة»:

«جميلة: أيها الأحياء في عصر الحقوق البشرية، أوقفوا تلك المآسي الهمجية

أوقفوا هذا العذاب

نحن من لحم ودم، لا جلمود من رخام

نحن لا نبحث عن مجرد البطولة

إننا نطلب أن نحيا كما يحيا سوانا»

وتخلص الكاتبة إلى أن تأثر الشرقاوي بغنائية شوقي وباكثير، كان واضحاً، لكنه استوعب ذلك بوعي، ساعده في هذا موهبته الشعرية الكبيرة، مما جعل تجربته تحمل إضافات لا سبيل إلى إنكارها، مثل تحرره من اللغة الكلاسيكية ذات البعد الواحد وطرحه لغة جديدة مستوحاة من العصر وتعكس ما فيه من حيوية وتناقضات وانفعالات وصراعات.