ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

بلغت ذروتها في «وطني عكا» و«الفتى مهران»

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي
TT
20

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

صدر عن دار «إضاءات» بالقاهرة كتاب «المقاومة في مسرح عبد الرحمن الشرقاوي» للناقدة د. سامية حبيب، الأستاذ بالأكاديمية المصرية للفنون، حيث تناقش واحدة من أهم التجارب الرائدة في المسرح الشعري المصري والتي أبدع فيها الشرقاوي عبر حياته الممتدة من 1921 حتى 1987.

تشير المؤلفة في البداية إلى أن الدراما الشعرية، أي تأليف مسرحية من خلال نص شعري، طرحت منذ وجودها في المسرح العربي عبر القرن العشرين إشكاليات درامية ولغوية وفنية، بداية من محاولات أمير الشعراء أحمد شوقي وعلي أحمد باكثير، والتي يمكن اعتبارها «المرحلة الكلاسيكية»، حيث حاول مثل أولئك الرواد خلق الدراما الشعرية في إطار التقاليد الموروثة لبناء القصيدة العربية. واصطدمت تلك المحاولات بتناقض جوهري بين طبيعة الدراما من حيث هي تغير مستمر في الشخصية الدرامية وفقاً لدرجة تفاعلها مع الموقف الدرامي الذي تتحرك فيه وتعبر عن ذاتها في إطاره بما يعكس تغيرات فكرها وانفعالها ومواقفها الأخلاقية، وبين طبيعة الشعر العربي بما فيه من درجات الثبات والرتابة الإيقاعية في أسلوب البناء التقليدي للقصيدة العربية.

وتلفت الباحثة إلى أن ذلك أدى لعيب جوهري في النماذج الرائدة من الدراما الشعرية، يتمثل في الانفصال بين وسيط الأداء الفني وطابعه الجامد، وبين الموضوع المُشَكَّل داخل هذا الأداء الفني، إلا أنّ هذه المرحلة كانت ضرورية ومنطقية في إنجازاتها الإبداعية في إطار واقعها الثقافي والتاريخي.

وتأتي بعد ذلك مرحلة الثورات الفنية والسياسية في واقعنا العربي وهي فترة الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن العشرين والتي لم يكن هناك مفر من انعكاسها في أشكال التعبير الفني والأدبي، حيث طرأ تغير في بناء القصيدة العربية بما يخلصها من رتابة وحدة البيت والقافية والروي، وأصبح اختيار البحر الشعري خاضعاً لمعنى التجربة أو الانفعال الكامن فيها. كما أن البناء الشعري صار أكثر طواعية لمفهوم الدراما بخصوصيتها من حيث الترابط بين لغة الحوار وطبيعة الشخصية والموقف بما فيه من تغير وتفاعل يمكن أن يستمد من التغير في الإيقاعات الشعرية، وبالتالي يرتبط الشكل بالمضمون والشخصية بالموقف، مما يعد مقدمة فنية لحل التناقض بين الشاعر العربي والدراما.

في إطار هذه المرحلة الفنية التي امتدت حتى اليوم بامتداد الوطن العربي، كتب الشرقاوي إنجازاته الدرامية شعراً، فإلى أي مدى تقني استطاع أن يخلق ترابطاً بين اللغة الشعرية التي كتب بها مسرحه والدراما بوصفها قالباً فنياً اختاره بعد محاولات في القصيدة والرواية والتراجم؟

تجيب د. سامية حبيب عن هذا التساؤل، مشيرة إلى أن فكرة المقاومة تبرز في هذا السياق على خلفية معارك التحرر من الاستعمار الغربي التي عصفت بمصر والعالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلال اختياره لشخصيات اقترنت في الوجدان العام للعرب ووعيهم بتاريخهم بمواقف ذات أثر كبير في مصير الأوطان والشعوب وبلورة أنماط حياتها وتجربتها الاجتماعية والاقتصادية وأحلامها الممكنة لتجاوز أوضاعها السيئة.

هكذا، يتخير الشرقاوي مادة تاريخية صريحة يعيد بناءها في عالم فني ويضيف إليها وينسج في إطارها المتواري في كتب التاريخ حركة وأحلام الشعوب في إطار تفسيرها واستقراء مكنونها، مستهدياً بالشخصيات البطولية الفاعلة للأحداث والمواقف، والمنتجة في الوقت نفسه للأفكار والمشاعر. وربما يتخير مادة «شبه تاريخية» يستنبطها في ضوء الوقائع والمعلومات التاريخية الصريحة والأكثر ارتباطاً بالقضايا والهموم الجماعية العامة والساخنة بكل ما لها أحياناً من ثقل الحداثة والمعاصرة.

من النوع الأول على سبيل المثال لا الحصر، تصدر مسرحية «النسر الأحمر» بثنائية «النسر والغربان» و«النسر وقلب الأسد» التي تدور حول بطولات صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الحملات الصليبية في العصر الوسيط، وكذلك الزعيم الوطني المصري أحمد عرابي زعيم الفلاحين والتي تتناول المخططات الغربية التي انتهت بمحنة الاحتلال الإنجليزي لمصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

ومن النوع الثاني تأتي مسرحيته الأشهر «الفتى مهران»، التي تعتمد على ما تواتر من معلومات تاريخية ووقائع عن الهجمات التترية على المحيط العربي وأرضه وحضارته، وكذلك مسرحية «وطني عكا» التي تتخلق في إطار المواجهات العربية الأكثر حداثة وعصرية منذ حرب 1948 وما تلاها من هزيمة 1967 ثم نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وتبرز «الغنائية» باعتبارها أحد مفردات «مسرح المقاومة» لدى عبد الرحمن الشرقاوي والتي تتمثل على سبيل المثال في لجوء الشخصية إلى مخاطبة الجماعة غير المحددة، أي مخاطبة المطلق الإنساني في نبرة خطابية عالية وبعيدة عن الموقف الدرامي وعن قدرات الشخصية. ومن مثل ذلك قول «جميلة» في نهاية مسرحية «مأساة جميلة»:

«جميلة: أيها الأحياء في عصر الحقوق البشرية، أوقفوا تلك المآسي الهمجية

أوقفوا هذا العذاب

نحن من لحم ودم، لا جلمود من رخام

نحن لا نبحث عن مجرد البطولة

إننا نطلب أن نحيا كما يحيا سوانا»

وتخلص الكاتبة إلى أن تأثر الشرقاوي بغنائية شوقي وباكثير، كان واضحاً، لكنه استوعب ذلك بوعي، ساعده في هذا موهبته الشعرية الكبيرة، مما جعل تجربته تحمل إضافات لا سبيل إلى إنكارها، مثل تحرره من اللغة الكلاسيكية ذات البعد الواحد وطرحه لغة جديدة مستوحاة من العصر وتعكس ما فيه من حيوية وتناقضات وانفعالات وصراعات.



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.