أمينة مكتبة عمرها 84 عامًا تضع قاعدة بيانات لكتب الطبخ على مر التاريخ

تهدف لاستطلاع تركيبات مختلف النكهات لدى مختلف الطهاة.. واستكشاف معنى الغذاء لدى الناس

TT

أمينة مكتبة عمرها 84 عامًا تضع قاعدة بيانات لكتب الطبخ على مر التاريخ

في العصر الذي نقضي فيه أوقاتا أقل للطبخ مما اعتاد عليه البشر قبلنا، فإن نهمنا للمزيد من وصفات الطهي لا ينقضي أبدا. في كل يوم، وفي كل أنحاء العالم، هناك نحو 24 ألف كتاب للطهي قيد الطبع والنشر والتوزيع، في حين أصبحت وصفات الطهي على الإنترنت أكثر عددا من حبات الأرز.
وتعمر أبواب الثلاجات لدينا بملصقات وصفات نتمنى تنفيذها، وامتلأت أرفف المطابخ بمختلف كتب الطهي المختلفة. وما زلنا نرغب في المزيد: من وصفات الطبخ المنجزة مقدما، والوصفات العبقرية، والوصفات العشر للأفوكادو التي لا يمكن الحياة من دونها. أي أسرار تلك التي نأمل في اكتشافها؟ إن بعضا منها (الوصفات) يتعهد بأن يجعل منا أفضل طهاة، وغيرها يتعهد بحفظ المزيد من الوقت أو تحسين صحتنا. لكن الراحة تكمن أخيرا في امتلاك تلك الوصفات، مثل الجرعات الدوائية المكنوزة. أخبرتني المؤرخة الغذائية باربرا كيتشام ويتون مؤخرا: «يحاول الناس السيطرة على حياتهم، وإحدى الطرق وراء ذلك هي الطعام»، موضحة الجيشان العاطفي حيال الوصفات الغذائية.
للسيدة ويتون، البالغة من العمر (84 عاما)، عينان متفحصتان، وصوت رخيم ساخر، وشعر أشيب معقود خلف رأسها بربطة شعر صغيرة. وهي مؤلفة كتاب نشر عام 1983 بعنوان «مذاق الماضي: المطبخ والمائدة الفرنسية بين عام 1300 حتى 1789»، وهو تأريخ رائع لفن الطهي الفرنسي مفعم بالعديد من الموضوعات الطريفة، مثل عصير الليمون على شرائح سمك الترس. وعبر 25 عاما، عملت السيدة ويتون كمنسقة لتجميع كتب الطهي لدى مكتبة شليزنجر في معهد رادكليف للدراسات المتقدمة في كمبردج بولاية ماساشوستس، وأنا على علاقة بها منذ نحو نصف ذلك الوقت الطويل عبر اهتماماتنا المشتركة في تاريخ الطعام. وعلى الغداء، كان حديثها مفعما بالذكاء والدعابة، وتضفي التحية على كل طبق بشهية ورفق أليفين. لا تبدو من نوعية البشر الغارقين في الهوس أو الوساوس. لكن عبر نصف قرن من الزمان عملت بهدوء على مشروع كرست لأجله جُل وقتها في تفان عجيب - ألا وهو قاعدة بيانات بعنوان «كوك أوراكل»، وكانت تنتوي من خلالها إدراج كل وصفة طهي، أو مكونات، أو أساليب في الغالبية العظمى من كلفة كتب الطهي المنشورة في أميركا وأوروبا.
تبدأ قاعدة البيانات التي شغفت السيدة ويتون حبا بالوصفات المذكورة في مخطوطات العصور الوسطى مثالا بـ«طريقة كوري»، وهي مجموعة من الأوراق مكتوبة على رق تعود للقرن الـ14 الميلادي. وتنتهي قاعدة بياناتها في القرن العشرين. ومن الناحية النظرية، يمكن إضافة المزيد من الكتب الحديثة وغير الغربية إلى الموسوعة، بمجرد اكتمالها بالطبع، لكن قاعدة بيانات السيدة ويتون سوف تمكن العلماء والطهاة على حد سواء من البحث عن كل وصفة من وصفات شطيرة التفاح خطها قلم ذات مرة، كل شريحة من شرائح التوست، وكل طريقة من طرق هرس البطاطا، وكل أسلوب مختلف للعمل بالسكين في المطبخ، وكل ما يتعلق بأعواد القرفة. والهدف من تجميع كل الوصفات القديمة تقريبا ليس إنقاذ وصفات الأطباق الحالية، ولكن إدراك وتفهم التطلعات الكامنة وراءها: لاستطلاع تركيبات مختلف النكهات لدى مختلف الطهاة أو الأشياء التي تثير القلق في المطبخ. تتيح لنا قاعدة البيانات تلك بلمحة، كما تقول السيدة ويتون، إلى كامل المشهد المعقد لما يعنيه الغذاء إلى الناس.
تكونت فكرة قاعدة البيانات أول الأمر لدى السيدة ويتون في عام 1962. كان زوجها بوب يتابع دراساته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، وكانت هي قد أنهت دراستها الجامعية في تاريخ الفن، لكنها اكتشفت أن ما أرادت فعله وبحق هو قراءة كتب الطهي القديمة.
سألتها إذا ما فقدت نفسها ذات مرة في خضم ذلك الكم الهائل من البيانات، فقالت: «أوه، أجل، أجل»، وكان صوتها ضعيفا مرتعشا. لما أرسلت السيدة ويتون قاعدة البيانات خاصتها محفوظة على «فلاش ميموري» بالبريد، كنت لا أكاد أطيق الانتظار للاطلاع عليها. ومن المؤكد، فقد عثرت فيها على مخزن كبير يفيض بالأسرار. يمكنك استرجاع بعض المشاعر المنسية منذ زمن طويل، مثل حنين القرن الـ18 القديم للفطائر بنكهة القهوة، واكتشاف تلك اللحظات التي بدأت عندها الكثير من طرق الطهي الأساسية الحالية. كما يمكنك العثور على المرة الأولى التي جاء فيها ذكر للشوكولاته في أي كتاب من كتب الطهي كعنصر مكون بدلا من مجرد مشروب (وللذكرى، إنه كتاب «الطاهية البرجوازية» من تأليف ماسيلوت في عام 1691). ولكن، مثل القارئة السريعة ذات الخبرة الطويلة في كتب الطهي التاريخية، فإن كتاب «كوك أوراكل» يمكنه ذكر طرق الطهي القديمة التي عفا عليها الزمان حتى إنه ما من أحد في يومنا الحاضر ليعرف عنها أي شيء.
إن بعضا من فتات الفكر ليدفع إلى ذلك التساؤل: لماذا توقفنا منذ فترة طويلة عن طهي ذلك؟ مثل ثمرة الخرشوف في مختلف أنحاء العالم على سبيل المثال. عبر أوروبا، اعترف الطهاة من القرنين الـ16 وحتى الـ18 بتلك الثمرة الخضراء الداكنة ومذاقها العظيم الرائع.
لن تجد شيئا مفيدا هنا حول الكزبرة أو جبنة الفيتا. بدلا من ذلك، سوف تجد لحم الضأن: وصفات للحم الضأن تملأ صفحات تلو الصفحات، من الضأن المقطع إلى لحم الضأن المفروم، والجيلاتين، على مرق الضأن المفيد للمرضى. كما هناك ذكر للكرواسون، لكنها وصفات فرنسية فحسب. هناك وصفة أميركية وحيدة للأفوكادو، تعود لعام 1887 (للسلاطة مع المايونيز والبصل)، غير أن الثمرة تسمى «كمثرى التمساح». وتفترض مؤلفة الوصفة وتدعى ماريا بارلو أنه من النادر أن يخبرنا أحدهم أين يمكننا أن نجد تلك الثمرة (في أحد متاجر فولتون ستريت في نيويورك كما تقول المؤلفة، حيث يصل سعرها إلى 15 - 20 سنتا للقطعة الواحدة، أو نحو 4 - 5 دولارات بأسعار اليوم). تبدأ في متابعة أن الكثير مما نفكر فيه اليوم كذوق شخصي كان في حقيقة الأمر سؤالا عن المتاح في أي سوق من الأسواق من قبل. ولكي تكون من محبي الأفوكادو في عام 1887 كانوا يعتبرونك من غريبي الأطوار حينها كما هو الحال لو كنت من عشاق لحم الضأن في وقتنا الحالي.
إن مشاهد المطابخ القديمة لتختلف اختلافا كبيرا عما عليه الأمر في الحاضر، فهي مفعمة بالكثير من الأواني غريبة الشكل مثل السلمندر (أدوات ذات أيد طويلة للتسخين والشواء)، وقوالب الكروكيت، والسكاكين المخززة المستخدمة في قطع جذور الخضراوات إلى أشكال لطيفة. هناك أساليب قديمة غير اعتيادية لطهي الطعام، مثل وصفة من القرن الـ18 لشواء البفتيك على نار مصنوعة من أوراق صحيفتين مشتعلتين. ومن دون ميقات المطبخ أو أجهزة قياس الحرارة، فإن الطهاة المذكورين في قاعدة ويتون للبيانات كانوا في أغلب الأحيان يلجأون إلى الخبرة والبراعة في معرفة توقيت الانتهاء من طهي الأطباق مستخدمين معايير متداولة مثل: «حتى تسقط العظام من فورها»، أو «حتى يمكنك إدخال القشة داخل الجلد»، أو «يتحول مذاق الحليب إلى الحامض»، أو «حتى تكون لينة أو مرنة». كانوا يستخدمون حواسهم بشكل حاذق وببراعة أكثر مما نفعل اليوم.
لما شرعت السيدة ويتون في إعداد قاعدة البيانات خاصتها، كانت تحدوها رغبة قوية نابعة من حب الوجبات الجيدة. وأرادت إعادة وجود بعض من الأشياء اللذيذة التي كانت في الماضي، مثل «السخاء الفياض».
* خدمة «نيويورك تايمز»



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».