الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون
TT

الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون

مع صعود الحركات الأصولية، بتنوعاتها واتجاهاتها المختلفة، صعدت مسألتها في الفكر العربي المعاصر ومشاريعه التجديدية، كأولوية تتقدم حتى على التأسيس للنهضة أو التمكين لها، كون الأصولية تمثل إعاقة عميقة للنهضة والحداثة أولا، ليس فقط على مستوى الحقوق الإنسانية (حقوق المرأة وحقوق الأقليات) بل على مستوى المؤسسات في إصرار بعض اتجاهاتها العنيفة على الانقلاب وابتلاع الدولة، وهو ما لم يشفها منه انتكاساتها ولا متتابعة غلوائها وقتالها بعضها بعضا، ولا ثورات ما عرف بالربيع العربي الذي انتهى خريفا!
نشط الكثير من مفكرينا في قراءة الأصوليات، بدءا من ناصيف نصار الذي سطر فيها كتابه «من التفكير إلى الهجرة: نحو سبيل لنهضة عربية ثانية» وكتب فهمي جدعان عددا من الدراسات والكتب في هذا الاتجاه، وقد انفرد باهتمام خاص بالسلفية وتحديد ملامحها وهويتها، كما درسها علي أومليل في «الإصلاحية والدولة الوطنية» ووضع الراحل عابد الجابري كتابا لدراستها، وأكثر من الاهتمام بها بالخصوص رضوان السيد في «الصراع على الإسلام» وقبله في «سياسات الإسلام» عادل ضاهر في «أولية العقل» وأصدر عبد الجواد يس مؤخرا الجزء الأول من كتابه «الدين والتدين» واهتم بها نقديا عبد الحميد الأنصاري والراحل أحمد البغدادي في الخليج، وغيرهم كثيرون.
لنا ملاحظتان على تعاطي الفكر العربي المعاصر في تقييمه لدراسات الحركات الإسلامية في العالم، تعيق تأثير الحداثة الفكرية وقيمها وتبقيها فوقية غير ملتحمة ميدانيا مع طرح التطرف، وإن كان المثقفون لا يتحملون مسؤولية ذلك وحدهم ولكن السياسات الثقافية والإعلامية في المقام الأول، وإلى الملاحظتين:
1 - اهتمامه بالنقد البراني دون الجواني لخطاب هذه الحركات في الغالب، وأنه لم يلتحم بغير خطاب الإخوان والقطبية في الأغلب الأعم، دون التحام نقدي حقيقي بالحركات العنفية والجهادية بالخصوص، بدءا من الجماعات الجهادية القطرية وصولا لـ«القاعدة» و«داعش».
2 - غلبة النقد غير المباشر عبر الاهتمام بالآيديولوجيا ونقدها، أو الاهتمام بالتراث الكلامي والفلسفي دون الفقهي - ربما باستثناء رضوان السيد وفهمي جدعان - مما جعل المنازلة الفكرية نظرية وغير ملتحمة بنقد هذه الحركات الحديثة نسبيا.
خصص المفكر الكبير الراحل محمد أركون (1 فبراير/ شباط 1928 - 13 سبتمبر/ أيلول 2010) جزءا من كتابه «أين الفكر الإسلامي المعاصر» الصادر أوائل التسعينات لمناقشة دراسات الحركات الإسلامية، وقد ظلت الملاحظتان، وإن ألح على ضرورة تفكيك البنى الخطابية لهذه التيارات والالتحام بها نقديا وقراءة ظاهرة الأصولية أفقيا في ضوء التاريخ الأصولي العالمي، ورأسيا في تكرار ظواهرها وتمثلاتها في التاريخ الإسلامي.
ونتفق مع أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية، دون هذا الالتحام النقدي والفكري، حيث يصنع ما يسميه «الامتثالية الثقافية» بمعنى عدم مناقشة مقولاتها وأفكارها والاكتفاء بأخبارها، استخدام طريقة الصحافي الوصفية والسردية والإخبارية دون طريقة الفقيه والناقد البنيوي.
ويضرب أركون مثالا على ذلك بكتاب جيل كيبل «انتقام الله» وأنه ترجم لتسع عشرة لغة أوروبية، منذ صدوره في سبتمبر 1991 ونال اهتماما إعلاميا كبيرا رغم أنه لا يحمل أي جديد إعلامي كما يشير أركون.
يمكننا اختزال مشكلة دراسة الحركات الإسلامية الحالية في اهتمامها بالأخبار لا بالأفكار، وبالتنظيمات أكثر من التنظيرات، وبالممارسات أكثر من الأسس النظرية لها، ورغم غزارة ما كتب عن قادة هذه التنظيمات بدءا من جماعات الجهاد القطري لـ«القاعدة» وزعيمها الراحل وصولا لـ«داعش» وخليفتها المزعوم لا نجد مثل هذا الاهتمام بأدبياتها ومطوياتها ورسائلها المطبوعة والمنشورة ونقدها النظري والشرعي، الذي كثيرا ما يأتي من خارجها منفصلا عنها وغير محاجج لها.
يرى أركون أن ما واجهته الحداثة العربية التي بزغت في أخريات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، تشبه تلك التي حدثت في أوروبا المسيحية أثناء عصر التنوير، وقد تعاطى الإسلام مع الحداثة كما تعاطت الحداثة عبر طريقين: إما أسلمة المعايير والقيم الحداثية أو الصراع الحاد معها، ولكن هذا الصراع الحاد كان أقوى في الإسلام لعدد من العوامل يحددها أركون فيما يلي:
1 - العامل السكاني والديموغرافي: فقد تضاعف عدد المسلمين خلال خمسة وثلاثين عاما بنسبة بين 60 في المائة إلى 70 في المائة، وخلال ثلاثين عاما بعد الاستقلال منتصف القرن المنصرم كانت الزيادة السكانية بنسبة ثلاثة أضعاف أو حتى أربعة أضعاف! فعدد سكان المغرب مثلاً أو الجزائر لم يكن يتجاوز الستة أو سبعة ملايين عام 1950 فأصبح الآن أكثر من ثلاثين مليونا، وأما مصر فقد أصبحت سبعين مليونا أوائل التسعينيات. ولم تكن الدول ولا الاقتصادات ولا المجتمعات مهيأة لاستقبال هذه الأجيال الغزيرة من الشبيبة المتحمسة.
2 - الحداثة الأوروبية قرون وحداثة المسلمين عقود: يرى أركون أنه مما زاد من أزمة النهضة العربية الحديثة أنه بينما نضجت الحداثة الغربية عبر ثلاثة أو أربعة قرون، قد توترت الحداثة الإسلامية والعربية في عقود قليلة، أربعة أو خمسة، منذ توترت فيها علاقتها مع الغرب الذي رأته حديثا كما رأته مستعمرا وكذلك مع الذات بعد أن انقطعت تاريخيا عن الإسلام الكلاسيكي بين القرنين الأول والسادس الهجري، ويرى أركون أن هذه النقطة تمثل «إحدى أكبر نقاط الضعف الخاصة بكل الأدبيات الصحافية والسياسية بل وحتى السوسيولوجية المرتكزة على الحركات الإسلامية الحالية».
3 - افتقاد الجهاز الفكري للحداثة: يشير أركون أن الفكر الإسلامي المعاصر يفتقد الجهاز الفكري والمصادر والإمكانات الثقافية والعلمية للحداثة، بينما شجعت عليها الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الفاتحة وفلسفة حقوق الإنسان في الغرب.
ويرى أركون أن هذا أنتج عربيا صرخات انفعال وعنفا هائجا ورفضا مسعورا لخطاب الإسلاموية المعاصرة، ولكن دون خطاب نقدي وجذري قادر على إزاحتها، لبعثرة ممثليه الحقيقيين وفقدانه الأطر والقواعد الاجتماعية القادرة على التعبئة التي يمتلكها الإسلاميون.
4 - ترييف المدن وتحويل الفلاحين لبروليتاريا: يرى أركون أن تحويل الفلاحين والبدو إلى بروليتاريا رثة في المدن التي تعشعش فيها الفوضى وازدحام السكان، ثم الطلاق الكائن بين الدولة والمجتمع المدني والهيمنة الشمولية للحزب الواحد تشكل علامات على حصول وتفاعلات غير مسيطر عليها.
من النقاط المهمة كذلك التي يلح عليها الراحل محمد أركون هو وجود متخيل ديني مشترك بين مختلف الحركات الأصولية، اليهودية والمسيحية والإسلامية على السواء، مجتمعات الكتاب كما يسميها، وأنه ليس الإسلام حالة خاصة في ذلك، إلا بالمعنى السوسيولوجي والثقافي والاقتصادي ليس غير.
يستخدم أركون في مقاربته المنهجية التي لم تستمر لدراسة الحركات الإسلامية عددا من المفاهيم التي تفيد البحث الراهن في هذا المجال، ويمكننا أن نشير لثلاثة منها:
1 - مفهوم «المتخيل»: وهو المفهوم القادم من حقل الأنثروبولوجي أحد المفاهيم المهمة التي يستخدمها أركون وينتقد عدم استخدام الاستشراق الأنثروبولوجي المعاصر له، فالإنسان لا تسيره فقط الحوافز المادية والاجتماعية والاقتصادية ولكن تسيره أيضا الصور الخيالية واليوتوبيات التي يؤمن بها وباستعادتها.
2 - مفهوم الدين والتدين أو التأسيس والآيديولوجيات الفرعية: حسب مصطلحات فوكو، عبر تفريقه بين مستوى القرآن ومستوى التركيبات الكلامية والفقهية والتفسيرية التأويلية له، فينزع عنها احتكار المقدس، وهو ما كثر استخدامه بتعبيرات مختلفة من عدد من الباحثين والمفكرين العرب الآخرين، ويدعو في ذلك للاستفادة من مخرجات تاريخ الأديان المقارن وتاريخ الأصوليات المقارنة.
3 - مفهوم مجتمعات أم الكتاب: حيث يرى أركون أن هناك متخيلا مشتركا لكل المجتمعات المشكلة من تراث الكتب السماوية أو الكتاب الموحى، فالتوراة والأناجيل والقرآن كتب كونية أدخلت رؤيا ما عن التـأله وعن مكانة الإنسان وعلاقته بإله حي متعال، وعممتها وحملتها ثقافات كبرى، بلورتها تدينا وقوانين فقهية مثلت فيما بعد «قاعدة ارتكازية من أجل التوسع الآيديولوجي للحق، وبالتالي من أجل تشكل وانتشار المتخيلات الاجتماعية ضمن خط الأصولية والتزمت».
حيث تحول الأصولية ويستهدف خطابها تحويل الخطاب الديني المفتوح، والمتعدد الدلالات والاتجاهات، إلى أصل لكل قانون صحيح يوجه البشر في دنياهم وأخراهم، وينزع ممثلوها نحو التمامية أي المحافظة على نزاهة الوحي وشموليته وبلوغهم درجة التطابق معه أو مع ما يتصورونه هو. ومن الرؤى التفسيرية التي يطرحها أركون أن العلمانية الديكتاتورية تنتج مع الوقت أصوليات منغلقة، ومثل لذلك بأربعة نماذج، هي نموذج الدولة والآيديولوجية الناصرية (1954 - 1970) ونموذج الدولة وآيديولوجيا جبهة التحرير الوطني (1962 - 1991) ونموذج الدولة والآيديولوجيا البعثية في العراق وسوريا (1968 - 1991) ونموذج الثورة الخمينية على نظام الشاه سنة 1979.
ويشير أركون: «إن فرحة الظفر باستعادة السيادة والاستقلال السياسي والآمال التي علقها البشر على (الدولة - الوطن - الحزب الواحد) قد فعلت فعلها في الجماهير بواسطة الموضوعاتية الإسلامية والشعارات الإسلامية، بعد الفشل الكبير الذي حدث في نكسة 1967». ويضيف عن الحالة الخومينية أن الإيرانيين قد وجدوا في سيرة النبي والأئمة وما حملته الشعاراتية الخومينية سبيلا لحقوق الإنسان وتحقيق آمالهم بعيدا عن الدولة التي أهملتهم وفشلت في تحقيق وعودها لهم.
ويربط أركون بين التصورات التاريخية المثالية المشتركة بين القوميين الذين حكموا في فترات ما بعد الاستقلال والحركات الأصولية التي صعدت وتسعى للحكم على أنقاضهم! فكلاهما يمتلك رؤيا متزمتة تفترض في مجال الثقافات والحضارات وجود استمرارية تاريخية تمجدها وتنفي أي نقص عنها، دون تمحيص علمي للوقائع التي تكذب هذه الصورة المتخيلة للماضي المراد إسقاطه على الواقع، وهو ما يمثل الرأسمال الرمزي لهذه الحركات التي تستثمر فيه وتوظفه، حسب تعبير أركون الذي اقتبسه عن بيير بورديو.
ونحت أركون مصطلح الحركات التمامية للتعبير عن طموح الأصوليات الدينية للتوصل إلى إسلام العصر التأسيسي (610 - 632-661 ميلادية) بتماميته وكليته، وقد أجاد مترجمه الأستاذ هاشم صالح نحت هذا المصطلح تعبيرا عن ذلك، وهو تعبير مناسب جدا لبعض الحركات الأصولية غير السياسية التي تحاول التمام عبر سلوكيات وشكليات في تفاصيل حياتها من مأكل وملبس تتماهى فيها مع المثال التاريخي بالخصوص.
طور «داعش» وجهود الفكر العربي:
بعيدا عما ألح عليه أركون من ضرورة الالتحام النقدي والفكري مع الظاهرة الأصولية العربية، واختلافنا معه أن كثيرا منها جاء مع تناقض الاستعمار والحداثة في الوعي العربي، حيث نراها منتجا انفعاليا لسقوط ما يسمى «الخلافة» سنة 1924 وتراجع الحضور العربي والإسلامي واستنفارها الهوياتي ثم الحركي في مواجهة أخطار سياسية ودينية - تبشير وما شابه - مصبوغا بحلم وحدوي قديم وجديد وراهن رأوا في الخلافة وسيطا محتملا لتحققه.. إلا أننا نرى أن ما طرحه أركون وما طرحه غيره من المفكرين سواء القادمين من خلفية كلامية أو فقهية في غاية الأهمية في القراءة المعاصرة لحركات العنف الديني والسلفية الجهادية لخطورة ما تطرحه وما تستند إليه من مقولات تراثية، فهي سلفية المصدر جهادية المنهج، وليست كلامية أشعرية كما كانت حركات الإسلام السياسي، مما يستعيد وبقوة أهمية التراث وقراءته في الالتحام معها، بعيدا عن الترويج التسطيحي والسجالي معها فقط.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.