هل سيتمكن محافظ البنك المركزي المصري الجديد من تهدئة أزمة العملة؟

ورث العديد من القضايا التي يجب حلها أهمها الاحتياطي النقدي المتآكل

هل سيتمكن محافظ البنك المركزي المصري الجديد من تهدئة أزمة العملة؟
TT

هل سيتمكن محافظ البنك المركزي المصري الجديد من تهدئة أزمة العملة؟

هل سيتمكن محافظ البنك المركزي المصري الجديد من تهدئة أزمة العملة؟

ما لبث أن استقال محافظ البنك المركزي المصري هشام رامز من منصبه حتى بدأت أجراس الهواتف تدق ليتبادل المصرفيون التهاني على رحيل الرجل الذي يقولون إنه رفض العدول عن مساره، حتى بعد أن تحولت مصر بسرعة من أزمة نقدية نحو أزمة في التجارة.
وأنعش تجديد دماء أعلى سلطة مصرفية في البلاد الآمال بتغيير وشيك في السياسة النقدية التي فشلت في تحقيق الاستقرار للجنيه المصري، وأغضبت المستوردين، وأصبحت مقرونة بشخص رامز الذي أدت القيود التي فرضها على العملة إلى تعطش بعض الأنشطة التجارية للدولار.
وينظر إلى خلفه طارق عامر الذي يبدأ ولاية مدتها أربع سنوات في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) على أنه مدير نشيط ومتعاون يرجع إليه الفضل في إحداث تحول في حظوظ أكبر بنك في البلاد.
ورحب المصرفيون والمستوردون بإعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذ يشعرون بمزيد من الارتياح تجاه أسلوب عامر الودود ويقولون إن توليه المنصب يعطي البنك المركزي فرصة لتغيير السياسات القائمة من دون خسارة المصداقية.
وقال مصرفي يعمل بقسم الخزانة بأحد البنوك المصرية: «لسنا في الاتجاه الصحيح ونحن في موقف صعب يحتاج إلى أفكار من خارج الصندوق.. هناك أجواء تفاؤل في السوق بأن عامر سيغير بعض السياسات المثيرة للجدل التي انتهجها رامز».
وتولى رامز منصب محافظ البنك المركزي في فبراير (شباط) 2013 عندما كانت حكومة الإخوان المسلمين تصارع من أجل تحقيق الاستقرار لاقتصاد تضرر كثيرًا بسبب الاضطرابات السياسية التي أعقبت انتفاضة شعبية في 2011 أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك.
وكان احتياطي النقد الأجنبي وقتئذ 13.6 مليار دولار، أي أقل من نصف الاحتياطي الذي كان موجودا قبل انتفاضة 2011، وهو ما لا يكفي لتغطية استيراد احتياجات البلاد من الخارج لمدة ثلاثة أشهر.
إلا أن احتياطيات النقد الأجنبي سجلت ارتفاعًا بسيطًا عما كانت عليه حين تولى رامز المنصب حيث وصلت إلى 16.3 مليار دولار في سبتمبر (أيلول). والسبب في ذلك هو تراجع حركة السياحة والاستثمارات وتخصيص البنك المركزي أموالاً طائلة للحفاظ على الجنيه المصري عند مستوى قوة يقول محللون إنها مصطنعة.

* طريق وعر
في حين واجه البنك المركزي ضغوطًا متزايدة لتخفيض قيمة العملة، انتعشت السوق السوداء لتبث الحياة في الأنشطة التجارية غير القادرة على الحصول على الدولار من خلال القنوات الرسمية.
وخفض رامز قيمة الجنيه المصري في يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) قبل أن يبقي العملة المحلية مستقرة عند 7.53 جنيه للدولار حتى يوليو (تموز) عندما سمح لها بالنزول من جديد. وجاءت أحدث موجة من التخفيض هذا الشهر حيث أصبح سعر الدولار حاليا 7.93 جنيه.
لكن مصرفيين يقولون إن تحريك سعر العملة محدود جدا ومتأخر جدا ومتدرج جدا أيضًا، ويبدو أنه اتخذ على مضض. وقال أحدهم: «لا أحد يعرف فيما يفكر. إنه أمر ضبابي».
ويقول مصرفيون إن رامز بات تفكيره منصبًا على القضاء على السوق السوداء حتى وإن كان ذلك على حساب اقتصاد يسير بخطى ثقيلة في طريق وعر نحو العودة إلى النمو الاقتصادي.
وبدأ من دعموا في يوم من الأيام جهود رامز لتحقيق الاستقرار للجنيه إعادة تقييم مواقفهم في فبراير عندما استحدث الرجل قيودًا مصرفية شملت فرض سقف على الإيداعات الدولارية عند 50 ألف دولار في الشهر، وهو ما قضى على السوق السوداء حيث لم يعد أمام الأنشطة التجارية مكان لإيداع الدولارات التي حصلت عليها بشكل غير رسمي.
كما تجبر هذه القيود البنوك على توفير الدولارات لتمويل واردات السلع الاستراتيجية، ومن بينها بعض السلع الغذائية، وتقديم ذلك على توفير الدولارات لشراء السلع غير الضرورية، وهو ما أثار حفيظة مستوردي السلع الكمالية.
ودافع رامز بقوة عن نهج يقول إنه يهدف إلى الاستغلال الأمثل للمتوافر من الدولارات في مصر.
وقال في مقابلة نشرت في صحيفة «الأهرام إبدو» هذا الشهر: «رجال الأعمال يرفضون الاعتراف بأن البلاد تواجه نقصا في الدولار وأن عليها وضع أولويات».
وأضاف قائلا: «احتياطيات النقد الأجنبي تتراجع ومصر شأنها شأن كل دولة تمر بموقف اقتصادي مشابه عليها أن تحدد أولوياتها».
وهبطت الصادرات المصرية 19 في المائة في الأشهر التسعة الأولى من 2015، في الوقت الذي تقول فيه بعض الشركات العاملة في قطاع الصناعات التحويلية إن القيود المفروضة على العملة جعلت مسألة فتح خطابات ائتمان لاستيراد بعض المواد الخام أمرًا صعبًا.
وقال طارق أباظة المدير التنفيذي لشركة النعيم القابضة: «الجميع عنده مشكلة مع الدولار وهم يجعلون هذه المشكلة مسألة خلاف شخصي مع رامز».
أضاف قائلا: «إنهم يقولون دائما إن هشام رامز يقضي على النشاط التجاري، وإنه كان يحاول القضاء على السوق السوداء فقضى على الاقتصاد.. سيكون لدى السوق أمل كبير في طارق عامر».

أسلوب إدارة
يقول مصرفيون إن عامر الذي عمل لدى «سيتي بنك» و«بنك أوف أميركا» وشغل في السابق منصب نائب محافظ البنك المركزي يتمتع بروح الفريق، وإنه أكثر قدرة على بناء علاقات قوية مع المؤسسات العالمية مثل صندوق النقد الدولي.
ويقول البعض إن تفكيره أكثر تحررًا مقارنة برامز، وعلى أقل تقدير فإن المصرفيين يتوقعون علاقة تتسم بالمزيد من التعاون.
وقال مصرفي عمل مع عامر بالبنك الأهلي المصري المملوك للدولة: «عامر كان يستمع دائما لمن يعملون معه ويدرس آراء الخبراء. إنه مستمع جيد يثق برجاله وليس من النوع الذي يعطي فقط الأوامر».
وكان البنك الأهلي المصري يفتقر إلى الحيوية قبل أن يتولى عامر رئاسته في 2008 في خضم الأزمة المالية العالمية. وقام عامر بتسييل الأصول عالية المخاطر، وأعاد هيكلة البنك، ورفع مستوى الإدارة، بحسب مصرفي كان يعمل بالبنك في ذلك الوقت. وعندما ترك عامر البنك في 2013 كان الأهلي المصري أحد أكبر البنوك التي تحقق أرباحًا في المنطقة.
وتغيير سياسة مصر النقدية إجراء لتحقيق التوازن له حساسية سياسية ولن يكون مباشرا جدا.
وأمام عامر قرارات صعبة يتعين عليه اتخاذها، إذ يواجه البنك المركزي المصري ضغوطًا لتخفيض قيمة الجنيه، خصوصًا منذ الهبوط الحاد لعملات الأسواق الناشئة هذا العام. لكن الكثيرين يعارضون مثل هذا الإجراء خشية أنه، وإن كان يريح الأنشطة التجارية، يرفع معدلات التضخم في بلد يعتمد على الواردات ويعيش الملايين من سكانه على حد الكفاف.
وأكد رامز مرارا وتكرارا على هذا النقطة، ولقي دعما لأجلها من القمة. وعندما اختار السيسي عامر لتولي المهمة أكد على الحاجة إلى إعطاء أولوية للبسطاء من خلال السيطرة على معدلات التضخم والتأكد من توفير الغذاء والدواء والوقود لهم، وهو الأمر الذي يوافق عليه الكثير من المصريين في الشارع.
وفي الوقت نفسه، فإن دعوة بعض رجال الأعمال لربط الجنيه بسلة من العملات المرجحة بالتجارة أو تعويم العملة تحمل في طياتها مخاطر كبيرة.
فالتغييرات الجريئة قد تكون غير مستساغة في مصر، إذ تنشد الحكومة الاستقرار، ولا تتمنى تكرار مشهد احتجاجات الشوارع التي ساعدت في الإطاحة برئيسين في ثلاث سنوات.
وقال انجوس بلير رئيس معهد سيجنت، وهو مركز أبحاث اقتصادية مقره القاهرة: «الحقيقة هي أنه عامر يريد نظاما اقتصاديا أكثر تحررا في مصر، وهو ما تحتاجه مصر بالضبط لدفع النمو الاقتصادي نحو مستويات أعلى».
وأضاف قائلا: «سلفه.. كان حذرا جدا بشأن ما تحتاجه مصر، وأعتقد أن السيد عامر سيتخذ القرارات الأصعب التي تحتاجها مصر لبث الثقة في نفوس القطاع الخاص والمستثمرين لدعم الاستثمار».
وكان تدخل رامز في التفاصيل الدقيقة بما في ذلك تسعير المنتجات سببا في تقليص شعبيته في القطاع المصرفي.
ويقول مصرفيون إنه كان يعطي أوامر، ولم يكن يرحب بالرأي الآخر، وكان في بعض الأحيان يوبخ مصرفيين بارزين أمام أقرانهم، ويخلق بيئة يخاف الخبراء من التحدث فيها بحرية.
لكن آخرين يقولون إنه بغض النظر عن مؤهلات عامر فإن قليلين هم الذين يعرفون كيف كان يخطط لمعالجة الأزمة، ويقولون إن السياسة النقدية أمر معقد وأكبر من أن يضطلع بها رجل واحد.
وقال أحد المصرفيين: «أي شخص يحل محل هشام رامز، فإنه عندما يتولى منصبه لن يلبث أن يواجه نفس الانتقادات».



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».