ابن رشد وميتافيزيقا أرسطو

كتابه «تفسير ما بعد الطبيعة» يعد من الشروح الكبرى التي وضعها

تمثال ابن رشد في قرطبة
تمثال ابن رشد في قرطبة
TT

ابن رشد وميتافيزيقا أرسطو

تمثال ابن رشد في قرطبة
تمثال ابن رشد في قرطبة

الحديث عن مصطلح الميتافيزيقا، يستوجب الأخذ بعين الاعتبار أمرين:
أولهما: أن الميتافيزيقا مصطلح نحته اليوناني أندرونيكوس الرودسي، ووضعه عنوانا لمقالات أرسطو المصنفة، بعد كتاباته المسماة فيزيقا (الكتب الطبيعية: السماع الطبيعي، الكون والفساد...) وذلك في القرن الأول قبل الميلاد، وهي مصنفات تركها أرسطو من دون عناوين، لذلك يحمل كل مقال من هذه المقالات حرفا من الحروف.
ثانيهما: أن الميتافيزيقا كمصطلح وكمفهوم، اتخذ دلالات متعددة خارج مجال الترتيب والتصنيف، وأصبحت علمًا من العلوم الفلسفيّة التي وُضع لها موضوع خاص بها للدلالة على علم «الوجود بما هو موجود». وهكذا اتخذت تسميات عدة: علم ما بعد الطبيعة، العلم الإلهي، الفلسفة الأولى وغير ذلك.
يستعمل ابن رشد مفهوم «علم ما بعد الطبيعة»، بمعان متعددة ومتنوعة، تحمل كلها مضمونًا واحدًا، وهي: الحكمة، الفلسفة الأولى، العلم الإلهي، العلم الكلي، العلم الأتم، الحكمة المطلقة، علم الوجود بالموجود، علم الموجود بما هو موجود، علم الأوائل، علم أشرف العلل، العلم العام، علم الواحد بما هو واحد، علم الجواهر المفارقة أو الأوائل الوجودية، علم الأعراض الذاتية للموجود بما هو موجود، علم الأوائل الذهنية المطلقة، الخ.
وإذا كانت الفلسفة الأولى هي علم الوجود، كما جاء في مقال الجيم، فإن هذا لا يعني أن الوجود هو الموضوع الأول والأخير لهذا العلم. بل عمل أرسطو، ومن بعده ابن رشد، على الاهتمام في هذا العلم بأقسام الوجود الكبرى: القوة والفعل، الجوهر والعرض، الكثرة والوحدة. ولكن غاية هذا العلم كما يظهر هنا بالدرجة الأولى، هو الوصول إلى المبدأ الأول والمحرك الذي لا يتحرك. أي البحث في الله كعلة أولى، وهذا هو حال القسم الثاني من ميتافيزيقا أرسطو وابن رشد. ولما كان هناك قاسم مشترك بين هذا العلم، الذي يعالج الوجود بإطلاق، وبين العلوم الجزئية، التي تهتم بأنواع الموجود، فقد خصص للنظر في مبادئ العلوم قسمًا كاملاً لهذه المسألة.
يكمن غرض علم ما بعد الطبيعة، كما جاء في «رسالة ما بعد الطبيعة»، في النظر في الموجود بما هو موجود، وفي جميع أنواعه إلى أن ينتهي إلى موضوعات الصنائع الجزئيّة، وفي اللواحق الذاتيّة له، وإعادة ذلك إلى أسبابه الأولى، وهي الأمور المفارقة. وفي هذا المستوى، يكون التداخل ممكنًا بين هذا العلم والعلوم الجزئية الأخرى. لذلك لا يعطي هذا العلم من الأسباب إلا السبب الصوري والغائي والفاعل. هكذا إذن، فالميتافيزيقا في نظر أرسطو، هي العلم الذي يدرس الموجود من حيث هو موجود. إنها دراسة للمبادئ التكوينيّة الكليّة، التي من دونها لا يمكن قيام نظام مرتب لموضوعات المعرفة، أي إنها دراسة لمختلف أنحاء الوجود (الطبيعة العامة لكل الأشياء). ويسمى بالإلهيات كعلم يبحث في «الوجود بما هو وجود»، أي بحث في الموجودات غير الخاضعة للكون والفساد، يخص طبيعة المحرك الأول الذي هو فعل محض وعقل محض، كما يخص عقول الأفلاك وهي أيضا عارية عن المادة وغير خاضعة للكون والفساد.
يتضح من هذا، أن ما بعد الطبيعة علم نظري كلي، ينظر في الموجود بما هو موجود، أي في الوجود المطلق، ويحدد الأسباب الأولى لهذا الوجود وهي: السبب الفاعل والسبب الغائي والسبب الصوري، تمييزا له عن العلم الطبيعي الذي يهتم بالسبب المادي أي الهيولى والمحرك.
وعن أقسام هذا العلم، يرى ابن رشد، أن الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة) تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم أول، يهتم بالأمور المحسوسة بما هي موجودة، وفي جميع أجناسها، وفي جميع اللواحق التي يلحقها، وينسب ذلك إلى الأوائل فيها بقدر ما يمكنه في هذا الجزء. ويعتبر هذا القسم الأهم الذي يربط فيه ابن رشد مبدأ الجوهر المحسوس بنوعيه، كما وضعه في العلم الطبيعي، مع الجوهر المفارق الذي يبرهن على وجوده أولاً في الفيزيقا، كما فعل في المقالة الثامنة من السماع الطبيعي.
قسم ثانٍ، ينظر فيه في مبادئ الجوهر وهي الأمور المفارقة، ويعرف أي وجود وجودها، وينسبها إلى مبدئها الأول الذي هو الله. ويعرف الصفات والأفعال التي تخصه، كما بين أيضا، نسبة سائر الموجودات إليه، وأنه الكمال الأقصى والصورة الأولى والفاعل الأول.. وفي هذا القسم يبحث في الوجود بإطلاق، أي في الجوهر بما هو جوهر مفارق، وهذا هو الموضوع الأصلي للميتافيزيقا.
قسم ثالث، ينظر فيه في موضوعات العلوم الجزئية، ويزيل الأغاليط الواقعة فيها لمن سلف من القدماء (وتحديدا ابن سينا)، وذلك في صناعة المنطق وفي الصناعتين الجزئيتين، أي في العلم الطبيعي والتعليمي. ويصحّ أن نسمي هذا القسم من ما بعد الطبيعة، بالقسم النقدي الذي يحاول ابن رشد أن يبني، من خلاله نظرية، نقدية تتسم بالوقوف أمام الأغاليط التي وقع فيها من سلف، وذلك بغية وضع النص الأرسطي في مقامه وبيان ما للحكيم وما للقدماء. وهنا يكون التقاط الأقاويل العلمية مفيدًا. وإذا صح القول، فهذا الجزء من المشروع الرشدي، يعتبر بحق أهم جزء أسس عليه رؤيته واستراتيجية اشتغاله طوال أربعة عقود من الوفاء للأرسطية، فما برح يوما القراءة والتلخيص والشرح والتفسير، ومنه يستفاد عمق الطريقة البيداغوجية الرشدية.
وتكمن قيمة علم ما بعد الطبيعة ومنفعته، في كونه علمًا نظريًّا جاء ليستكمل العلوم الجزئيّة. ففي «كتاب النفس»، يحدد أرسطو الغرض منه باستكمال «النفس الناطقة حتى يحصل الإنسان على كمالها الأخير». فمن دون هذا العلم لا تحصل العلوم النظريّة الأخرى على غايتها وتمامها، لأن بمعرفة هذا العلم تحصل معرفة الموجودات بأقصى أسبابِها الذي هو المقصود من المعرفة الإنسانيّة.
وإذا كان موضوع الفلسفة الأولى هو «الوجود بما هو موجود»، فإن أشرف الموجودات عنده هي الجوهر المطلق البيّن بذاته، الذي لا يحتاج في بيانه لنفسه إلى أي سبب خارجي. إنه «الجوهر بما هو جوهر»، يختلف عن الجواهر الطبيعية التي تتجسد في الأجسام الطبيعيّة، التي تخضع للحركة والتغير وللكون والفساد.
يعتبر كتاب «تفسير ما بعد الطبيعة» من الشروح الكبرى التي وضعها ابن رشد. وهو أعظم كتاب على الإطلاق، كما وصفه جل المهتمين بالدراسات الرشدية. ففي هذا الشرح، لا نجد فقط أراء أرسطو، وإنما أيضا، آراء الشراح من قبيل: نيقولاس الدمشقي، الإسكندر الأفروديسي، ثامسطيوس، ابن سينا.. ولعل ما يميز هذا العمل هو:
حفاظه أولا، على الترتيب والنظام الذي وضعه اليوناني أندرونيكوس الرودسي لكتاب ما بعد الطبيعة، وهو الأمر الذي خالف فيه كل من الفارابي وابن سينا.
وثانيا: يعتبر ابن رشد أول فيلسوف عربي مسلم اهتم بهذا الكتاب، في حدود ما توفر لديه من مقالات، حيث غطى أحد عشر مقالا من أصل أربعة عشر، أي إنه لم يتحدث عن المقال الحادي عشر والموسوم بمقال الطاء، والمقالين الأخيرين (13 و14): الميم والنون، لأنهما لم يقعا بين يديه، كما يشير إلى ذلك في ديباجة آخر مقال فسّره وهو مقال اللام.
وثالثا: يتميز كما هو معلوم، بالطريقة النموذجيّة التي اعتمدها ابن رشد في التفسير، وهي طريقة تتبع المقالات، فقرة فقرة، بالشرح الوافي، الذي يتجاوز أطوله في المقال الواحد 300 صفحة. وهو الشرح الذي قال عنه معظم الرشديين، بأنه يشبه، إلى حد كبير، طريقة الشراح المسلمين المختصين في تفسير القرآن، والسيرة النبوية.
ورابعا: ينفتح ابن رشد في تفسيره لمقالات ما بعد الطبيعة، على جل مؤلفات المعلم الأول، ويربط بينها برباط عجيب ومتناسق ومتكامل، يدل على إلمامه ومعرفته بخبايا المتن الأرسطي. هذا ما يكشف عنه حجم النشرات التي اعتمدها فيلسوف قرطبة وعدد الترجمات التي وقعت بين يديه، حيث لا يدع مجالا للشك، في أن استحضاره لكل أصناف الشروح التي عرفها العرب إلى حدود القرن الثاني عشر. وبهذا نال لقبه الذي اشتهر به في العالم العربي واللاتيني: الشارح الأكبر.
وخامسا: يكشف هذا الكتاب عن النزعة العقلانيّة التي ترجمها المنهج البرهاني في التفكير والتأليف، كما ترجمها الربط المنهجي والموضوعي بين القضايا التي طرحتها الفلسفة اليونانية مع أرسطو، وبين القضايا المطروحة في الساحة الفكرية العربية - الإسلامية. ولعل خير نموذج لهذا السجال، ما أثاره مقال اللام من نقاش عميق، نال اهتمام العرب على وجه أخص. وتشكل هذه المسألة الدليل على أصالة الفكر الرشدي، ذلك أنه لم يكتف بالإدلاء بدلوه في القضايا التي تقض مضجع المسلمين، كمسألة المحرك الذي لا يتحرك، وصلة الله بالعالم أو ما شابه، بل وضع تلك القضايا في سياقها التاريخي، مدشنًا بذلك تحليلاً نوعيًا بالمقارنة مع السابقين. فإذا كان السابقون قد اكتفوا بشرح مقال اللام والتركيز على القضايا الأساسيّة فيه، فإن ابن رشد قد عمل على إعادة شرح كتاب الميتافيزيقا كاملاً. وقد بين في ذلك، عن صلة مقال اللام ليس بموضوعات كتاب الميتافيزيقا فقط، بل بالمنظومة الأرسطيّة بأكملها. فالمحرك الأول الذي لا يتحرك، يستوجب النظر في مسألة الحركة وما استلزمه من عودة إلى المقال السابع والثامن من السماع. ومن المهم جدًا التأكيد على أن عمل ابن رشد، يتوجه صوب الفصل بين ما لأرسطو وما لابن سينا وما للفارابي. وذلك لعزل الافتراءات التي تعرض لها القول الفلسفي على يد العقل الأصولي، وللتأكيد على أن الموضوعات الفلسفيّة الأرسطيّة بيّنة بذاتها فلتعملوا على دحضها. وهذا هو الأمر الذي دشنه «فصل المقال»، الذي يعتبر بحق بيانًا تأسيسيًا لحداثة رشديّة تعبر عن نزوع نحو رؤية نقديّة عقلانيّة غير مسبوقة في التاريخ العربي - الإسلامي.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.