ابن رشد وميتافيزيقا أرسطو

كتابه «تفسير ما بعد الطبيعة» يعد من الشروح الكبرى التي وضعها

تمثال ابن رشد في قرطبة
تمثال ابن رشد في قرطبة
TT

ابن رشد وميتافيزيقا أرسطو

تمثال ابن رشد في قرطبة
تمثال ابن رشد في قرطبة

الحديث عن مصطلح الميتافيزيقا، يستوجب الأخذ بعين الاعتبار أمرين:
أولهما: أن الميتافيزيقا مصطلح نحته اليوناني أندرونيكوس الرودسي، ووضعه عنوانا لمقالات أرسطو المصنفة، بعد كتاباته المسماة فيزيقا (الكتب الطبيعية: السماع الطبيعي، الكون والفساد...) وذلك في القرن الأول قبل الميلاد، وهي مصنفات تركها أرسطو من دون عناوين، لذلك يحمل كل مقال من هذه المقالات حرفا من الحروف.
ثانيهما: أن الميتافيزيقا كمصطلح وكمفهوم، اتخذ دلالات متعددة خارج مجال الترتيب والتصنيف، وأصبحت علمًا من العلوم الفلسفيّة التي وُضع لها موضوع خاص بها للدلالة على علم «الوجود بما هو موجود». وهكذا اتخذت تسميات عدة: علم ما بعد الطبيعة، العلم الإلهي، الفلسفة الأولى وغير ذلك.
يستعمل ابن رشد مفهوم «علم ما بعد الطبيعة»، بمعان متعددة ومتنوعة، تحمل كلها مضمونًا واحدًا، وهي: الحكمة، الفلسفة الأولى، العلم الإلهي، العلم الكلي، العلم الأتم، الحكمة المطلقة، علم الوجود بالموجود، علم الموجود بما هو موجود، علم الأوائل، علم أشرف العلل، العلم العام، علم الواحد بما هو واحد، علم الجواهر المفارقة أو الأوائل الوجودية، علم الأعراض الذاتية للموجود بما هو موجود، علم الأوائل الذهنية المطلقة، الخ.
وإذا كانت الفلسفة الأولى هي علم الوجود، كما جاء في مقال الجيم، فإن هذا لا يعني أن الوجود هو الموضوع الأول والأخير لهذا العلم. بل عمل أرسطو، ومن بعده ابن رشد، على الاهتمام في هذا العلم بأقسام الوجود الكبرى: القوة والفعل، الجوهر والعرض، الكثرة والوحدة. ولكن غاية هذا العلم كما يظهر هنا بالدرجة الأولى، هو الوصول إلى المبدأ الأول والمحرك الذي لا يتحرك. أي البحث في الله كعلة أولى، وهذا هو حال القسم الثاني من ميتافيزيقا أرسطو وابن رشد. ولما كان هناك قاسم مشترك بين هذا العلم، الذي يعالج الوجود بإطلاق، وبين العلوم الجزئية، التي تهتم بأنواع الموجود، فقد خصص للنظر في مبادئ العلوم قسمًا كاملاً لهذه المسألة.
يكمن غرض علم ما بعد الطبيعة، كما جاء في «رسالة ما بعد الطبيعة»، في النظر في الموجود بما هو موجود، وفي جميع أنواعه إلى أن ينتهي إلى موضوعات الصنائع الجزئيّة، وفي اللواحق الذاتيّة له، وإعادة ذلك إلى أسبابه الأولى، وهي الأمور المفارقة. وفي هذا المستوى، يكون التداخل ممكنًا بين هذا العلم والعلوم الجزئية الأخرى. لذلك لا يعطي هذا العلم من الأسباب إلا السبب الصوري والغائي والفاعل. هكذا إذن، فالميتافيزيقا في نظر أرسطو، هي العلم الذي يدرس الموجود من حيث هو موجود. إنها دراسة للمبادئ التكوينيّة الكليّة، التي من دونها لا يمكن قيام نظام مرتب لموضوعات المعرفة، أي إنها دراسة لمختلف أنحاء الوجود (الطبيعة العامة لكل الأشياء). ويسمى بالإلهيات كعلم يبحث في «الوجود بما هو وجود»، أي بحث في الموجودات غير الخاضعة للكون والفساد، يخص طبيعة المحرك الأول الذي هو فعل محض وعقل محض، كما يخص عقول الأفلاك وهي أيضا عارية عن المادة وغير خاضعة للكون والفساد.
يتضح من هذا، أن ما بعد الطبيعة علم نظري كلي، ينظر في الموجود بما هو موجود، أي في الوجود المطلق، ويحدد الأسباب الأولى لهذا الوجود وهي: السبب الفاعل والسبب الغائي والسبب الصوري، تمييزا له عن العلم الطبيعي الذي يهتم بالسبب المادي أي الهيولى والمحرك.
وعن أقسام هذا العلم، يرى ابن رشد، أن الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة) تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم أول، يهتم بالأمور المحسوسة بما هي موجودة، وفي جميع أجناسها، وفي جميع اللواحق التي يلحقها، وينسب ذلك إلى الأوائل فيها بقدر ما يمكنه في هذا الجزء. ويعتبر هذا القسم الأهم الذي يربط فيه ابن رشد مبدأ الجوهر المحسوس بنوعيه، كما وضعه في العلم الطبيعي، مع الجوهر المفارق الذي يبرهن على وجوده أولاً في الفيزيقا، كما فعل في المقالة الثامنة من السماع الطبيعي.
قسم ثانٍ، ينظر فيه في مبادئ الجوهر وهي الأمور المفارقة، ويعرف أي وجود وجودها، وينسبها إلى مبدئها الأول الذي هو الله. ويعرف الصفات والأفعال التي تخصه، كما بين أيضا، نسبة سائر الموجودات إليه، وأنه الكمال الأقصى والصورة الأولى والفاعل الأول.. وفي هذا القسم يبحث في الوجود بإطلاق، أي في الجوهر بما هو جوهر مفارق، وهذا هو الموضوع الأصلي للميتافيزيقا.
قسم ثالث، ينظر فيه في موضوعات العلوم الجزئية، ويزيل الأغاليط الواقعة فيها لمن سلف من القدماء (وتحديدا ابن سينا)، وذلك في صناعة المنطق وفي الصناعتين الجزئيتين، أي في العلم الطبيعي والتعليمي. ويصحّ أن نسمي هذا القسم من ما بعد الطبيعة، بالقسم النقدي الذي يحاول ابن رشد أن يبني، من خلاله نظرية، نقدية تتسم بالوقوف أمام الأغاليط التي وقع فيها من سلف، وذلك بغية وضع النص الأرسطي في مقامه وبيان ما للحكيم وما للقدماء. وهنا يكون التقاط الأقاويل العلمية مفيدًا. وإذا صح القول، فهذا الجزء من المشروع الرشدي، يعتبر بحق أهم جزء أسس عليه رؤيته واستراتيجية اشتغاله طوال أربعة عقود من الوفاء للأرسطية، فما برح يوما القراءة والتلخيص والشرح والتفسير، ومنه يستفاد عمق الطريقة البيداغوجية الرشدية.
وتكمن قيمة علم ما بعد الطبيعة ومنفعته، في كونه علمًا نظريًّا جاء ليستكمل العلوم الجزئيّة. ففي «كتاب النفس»، يحدد أرسطو الغرض منه باستكمال «النفس الناطقة حتى يحصل الإنسان على كمالها الأخير». فمن دون هذا العلم لا تحصل العلوم النظريّة الأخرى على غايتها وتمامها، لأن بمعرفة هذا العلم تحصل معرفة الموجودات بأقصى أسبابِها الذي هو المقصود من المعرفة الإنسانيّة.
وإذا كان موضوع الفلسفة الأولى هو «الوجود بما هو موجود»، فإن أشرف الموجودات عنده هي الجوهر المطلق البيّن بذاته، الذي لا يحتاج في بيانه لنفسه إلى أي سبب خارجي. إنه «الجوهر بما هو جوهر»، يختلف عن الجواهر الطبيعية التي تتجسد في الأجسام الطبيعيّة، التي تخضع للحركة والتغير وللكون والفساد.
يعتبر كتاب «تفسير ما بعد الطبيعة» من الشروح الكبرى التي وضعها ابن رشد. وهو أعظم كتاب على الإطلاق، كما وصفه جل المهتمين بالدراسات الرشدية. ففي هذا الشرح، لا نجد فقط أراء أرسطو، وإنما أيضا، آراء الشراح من قبيل: نيقولاس الدمشقي، الإسكندر الأفروديسي، ثامسطيوس، ابن سينا.. ولعل ما يميز هذا العمل هو:
حفاظه أولا، على الترتيب والنظام الذي وضعه اليوناني أندرونيكوس الرودسي لكتاب ما بعد الطبيعة، وهو الأمر الذي خالف فيه كل من الفارابي وابن سينا.
وثانيا: يعتبر ابن رشد أول فيلسوف عربي مسلم اهتم بهذا الكتاب، في حدود ما توفر لديه من مقالات، حيث غطى أحد عشر مقالا من أصل أربعة عشر، أي إنه لم يتحدث عن المقال الحادي عشر والموسوم بمقال الطاء، والمقالين الأخيرين (13 و14): الميم والنون، لأنهما لم يقعا بين يديه، كما يشير إلى ذلك في ديباجة آخر مقال فسّره وهو مقال اللام.
وثالثا: يتميز كما هو معلوم، بالطريقة النموذجيّة التي اعتمدها ابن رشد في التفسير، وهي طريقة تتبع المقالات، فقرة فقرة، بالشرح الوافي، الذي يتجاوز أطوله في المقال الواحد 300 صفحة. وهو الشرح الذي قال عنه معظم الرشديين، بأنه يشبه، إلى حد كبير، طريقة الشراح المسلمين المختصين في تفسير القرآن، والسيرة النبوية.
ورابعا: ينفتح ابن رشد في تفسيره لمقالات ما بعد الطبيعة، على جل مؤلفات المعلم الأول، ويربط بينها برباط عجيب ومتناسق ومتكامل، يدل على إلمامه ومعرفته بخبايا المتن الأرسطي. هذا ما يكشف عنه حجم النشرات التي اعتمدها فيلسوف قرطبة وعدد الترجمات التي وقعت بين يديه، حيث لا يدع مجالا للشك، في أن استحضاره لكل أصناف الشروح التي عرفها العرب إلى حدود القرن الثاني عشر. وبهذا نال لقبه الذي اشتهر به في العالم العربي واللاتيني: الشارح الأكبر.
وخامسا: يكشف هذا الكتاب عن النزعة العقلانيّة التي ترجمها المنهج البرهاني في التفكير والتأليف، كما ترجمها الربط المنهجي والموضوعي بين القضايا التي طرحتها الفلسفة اليونانية مع أرسطو، وبين القضايا المطروحة في الساحة الفكرية العربية - الإسلامية. ولعل خير نموذج لهذا السجال، ما أثاره مقال اللام من نقاش عميق، نال اهتمام العرب على وجه أخص. وتشكل هذه المسألة الدليل على أصالة الفكر الرشدي، ذلك أنه لم يكتف بالإدلاء بدلوه في القضايا التي تقض مضجع المسلمين، كمسألة المحرك الذي لا يتحرك، وصلة الله بالعالم أو ما شابه، بل وضع تلك القضايا في سياقها التاريخي، مدشنًا بذلك تحليلاً نوعيًا بالمقارنة مع السابقين. فإذا كان السابقون قد اكتفوا بشرح مقال اللام والتركيز على القضايا الأساسيّة فيه، فإن ابن رشد قد عمل على إعادة شرح كتاب الميتافيزيقا كاملاً. وقد بين في ذلك، عن صلة مقال اللام ليس بموضوعات كتاب الميتافيزيقا فقط، بل بالمنظومة الأرسطيّة بأكملها. فالمحرك الأول الذي لا يتحرك، يستوجب النظر في مسألة الحركة وما استلزمه من عودة إلى المقال السابع والثامن من السماع. ومن المهم جدًا التأكيد على أن عمل ابن رشد، يتوجه صوب الفصل بين ما لأرسطو وما لابن سينا وما للفارابي. وذلك لعزل الافتراءات التي تعرض لها القول الفلسفي على يد العقل الأصولي، وللتأكيد على أن الموضوعات الفلسفيّة الأرسطيّة بيّنة بذاتها فلتعملوا على دحضها. وهذا هو الأمر الذي دشنه «فصل المقال»، الذي يعتبر بحق بيانًا تأسيسيًا لحداثة رشديّة تعبر عن نزوع نحو رؤية نقديّة عقلانيّة غير مسبوقة في التاريخ العربي - الإسلامي.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!