جاستن ترودو.. يحول كندا يسارًا

الأربعيني الشاب أنهى 9 سنوات من حكم اليمين المتشدد

جاستن ترودو..  يحول كندا يسارًا
TT

جاستن ترودو.. يحول كندا يسارًا

جاستن ترودو..  يحول كندا يسارًا

«ترودو آخر» عاد لتولّي الحكم في كندا، بعد الانتخابات العامة التي أعلنت نتيجتها أمس، وأنهت فترة حزب المحافظين اليميني التي استمرت تسع سنوات برئاسة ستيفن هاربر. فخلال الساعات الماضية نجح جاستن ترودو، زعيم حزب الأحرار الوسطي الليبرالي ونجل بيار إيليوت ترودو رئيس الوزراء الأسبق، في قيادة حزبه إلى النصر بعد انتخابات حامية، ويبدو إنجاز ترودو أكثر إثارة إذا ما علمنا أن الأحرار خرجوا من الانتخابات السابقة بهزيمة مؤلمة وانتهوا في المرتبة الثالثة بعد المحافظين والديمقراطيين الجدد اليساريين.

تتمتع السياسة الكندية بديناميكية شبه استثنائية، إذ إنها لا تستقر على حال لفترة طويلة، وقد يكتسح أحد الأحزاب الكبرى المشهد السياسي في انتخابات ما، لكنه سرعان ما يتراجع بفارق كبير خلال بضعة سنوات. ولقد عاش هذا التذبذب في الجاذبية الجماهيرية الحزبان التاريخيان الكبيران حزب الأحرار وحزب المحافظين، الذي كان يعرف لفترة طويلة من تاريخه بحزب المحافظين التقدميين، قبل اندماجه بحزب التحالف اليميني ووصوله تحت قيادة رئيس الوزراء المهزوم ستيفن هاربر إلى الحكم عام 2006.
أيضًا برزت في كندا، الدولة الفيدرالية الشابة، خلال العقود الأخيرة عدة قوى «مصلحية» مؤثرة سياسية وقومية واقتصادية تفاوت نجاحاتها، وانعكست بعض هذه النجاحات في ولايات معينة، وبعضها امتدت عبر الولايات الكندية. كذلك تأثر المشهد السياسي الكندي عبر السنين والعقود بشخصيات «كاريزمية» تركت بصماتها على الثقافة السياسية في البلاد.
وتاريخيًا، كانت هناك دائمًا قوى انفصالية تعتز بهويتها ولغتها الفرنسية في ولاية كيبيك الكندية، وبالفعل برزت في كيبيك تنظيمات حزبية انفصالية - استقلالية مثل «الحزب الكيبيكي» و«الكتلة الكيبيكية»، ولمع فيها زعماء شعبويون بينهم رينيه ليفيك. كذلك كانت هناك أرضية صلبة للثقافة البريطانية عبر عنها لفترات طويلة حزب المحافظين التقدميين، الذي أعطى كندا عددًا من أبرز زعمائها. وفي ولايات الوسط الزراعية وكذلك في مدن ولاية أونتاريو، كبرى ولايات البلاد من حيث عدد السكان، قويت شوكة اليسار ممثلاً بالحزب الديمقراطي الجديد (الديمقراطيون الجدد)، وامتد نفوذ هؤلاء إلى ولايات أخرى. وفي ولاية ألبرتا الغنية بالنفط في وجارتها الأكبر بريتيش كولومبيا في غرب كندا، ظهرت قوى «اليمين الجديد»، وكان أبرزها حزب الإصلاح (1987 – 2000) الذي ورثه «التحالف الكندي» (2000 – 2003)، والذي من ثم انتهى في اندماج يميني بحزب المحافظين التقدميين العريق ينتج عن الاندماج حزب المحافظين الحالي.
وسط هذا المشهد كان هناك حزب واحد جسّد دائمًا الوحدة الوطنية الكندية، اعتز طويلاً بهويته السياسية والثقافية العابرة للحواجز العرقية واللغوية والطبقية والجغرافية هو حزب الأحرار.
هذا الحزب تنظيم ليبرالي منفتح كان دائمًا مؤمنًا بهوية جامعة لكندا، التي إحدى أكثر دول العالم تنوعًا. وبفضل هويته الجامعة اعتمد دائمًا على نوبات التسامح والهدوء لتحقيق انتصارات كبيرة في كيبيك على الانفصاليين، ومن ثم، البناء على نهج الاعتدال لاجتذاب الأصوات من مختلف المكوّنات الكندية. وحقًا، خلال العقود الأخيرة تولى رئاسة وزراء كندا اثنان من زعماء حزب الأحرار يتحدّران من أصول فرنسية، الأول هو بيار إيليوت ترودو - أبو رئيس الوزراء الجديد - الذي حكم البلاد مرتين بين 1968 و1979 ثم بين 1980 و1984، والثاني جان كريتيان الذي حكم بين 1993 و2003 لمدة عشر سنوات متتالية.
يوم أمس أعاد جاستن ترودو حزب الأحرار إلى السلطة، مؤسسًا سلالة سياسية لكندا هي «سلالة ترودو».. معيدًا إلى الأذهان «السلالات السياسية» في الولايات المتحدة جارة كندا الكبيرة إلى الجنوب، مثل آل آدامز وآل تافت وآل كيندي وآل بوش.. وربما آل كلينتون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016.

* من هو جاستن ترودو؟

ولد جاستن بيار جيمس ترودو، الابن الأكبر لبيار إيليوت ترودو، يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) 1971 في العاصمة الكندية أوتاوا عندما كان أبوه يشغل منصب رئيس الوزراء. أما أمه فهي مارغريت جوان سنكلير ترودو، وهي ابنة وزير سابق وممثلة ومصوّرة فوتوغرافية وإعلامية مثيرة للجدل، طلقت من أبيه عام 1977 وسط عاصفة من اللغط الإعلامي.
بعد الطلاق تربّى جاستن في عهد أبيه بمدينة مونتريال، حيث درس في كلية جان دو بريبوف الكلية الراقية التي درس فيها أبوه. ولمع نجمه على مستوى كندا عندما ألقى كلمة التأبين بعد وفاة أبيه عام 2000 في المأتم الرسمي الكبير.
وتابع جاستن دراسته العليا فتخرج في جامعة ماكغيل العريقة بمدينة مونتريال حاملاً بكالوريوس في الآداب، وأتبعها ببكالوريوس في التربية من جامعة بريتيش كولمبيا. وبعدها امتهن تعليم اللغة الفرنسية والرياضيات. ثم درس الهندسة في معهد مونتريال البوليتكنيكي التابع لجامعة مونتريال، قبل أن يعود لجامعة ماكغيل ليحضر للماجستير في الجغرافيا. لكن مسيرته الأكاديمية توقفت عندما قرر صرف النظر عن متابعة الماجستير واقتحام الحلبة السياسية.

* طريق السياسة

ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2006 هاجم بقوة «نزعة القومية الكيبيكية»، معتبرًا أن القومية عمومًا فكرة قليلة الفطنة تعود إلى القرن التاسع عشر». ورأى مراقبون هذا الموقف غمزًا من قناة مايكل إيغناتييف، القيادي في حزب الأحرار يومذاك، وكان إيغناتييف - وهو مثقف وإعلامي وباحث لامع - قد ألمح لتأييده الاعتراف بكيبيك ككيان له هويته القومية. ومن ثم أعلن ترودو دعمه لجيرارد كيندي في انتخابات زعامة الحزب، وعندما خرج كيندي من الانتخابات حول تأييده للمرشح ستيفان ديون الذي فاز على الأثر بالزعامة.
وعام 2007 ترشح ترودو للانتخابات العامة عن منطقة بابينو، في مدينة مونتريال، وفاز بالمقعد ودخل البرلمان، مع العلم أن حزبه خسر الانتخابات أمام المحافظين.
ثم في انتخابات عام 2011، فاز ترودو مجددًا ونجح في الاحتفاظ بمقعده في بابينو، بينما تراجع حزبه على المستوى الوطني إلى المرتبة الثالثة برصيد 34 مقعدًا فقط، وقفز الحزب الديمقراطي الجديد اليساري إلى المرتبة الثانية خلف المحافظين. وفي ضوء هذه النكسة الكبرى للأحرار استقال إيغناتييف من زعامة الحزب (كان قد خلف ستيفان ديون عام 2008). ومع توقع كثيرين ترشيح ترودو لزعامة الحزب فضل السياسي الشاب التريث وتولى الزعامة بصفة مؤقتًا رئيس وزراء ولاية أونتاريو السابق بوب راي حتى 2013. هنا تجدر الإشارة إلى أن اسم ترودو كان قد طرح كمرشح لزعامة الحزب عام 2008 عندما استقال ديون بعد إخفاقه في التغلب عن رئيس الوزراء المحافظ هاربر، وكانت استطلاعات الرأي كلها مشجعة، وتشير إلى أن فرصه بالفوز طيبة جدًا، كيف لا وهو الشاب الجذاب وابن أحد أكثر زعماء كندا شعبية وجماهيرية. غير أن ترودو شعر أن الفرصة غير مواتية حينذاك، مفضلاً الانتظار، وبالفعل خلت الساحة لإيغناتييف فانتخب للمنصب.
غير أن الهزيمة المزلزلة التي مني بها الحزب تحت قيادة إيغناتييف، ونجاح هاربر مرة أخرى بالاحتفاظ بالحكم، دفع الحزب للبحث عن منقذ بقدر بحثه عن زعيم. ومجددًا أجل ترودو دخوله الحلبة متذرعًا بظروفه العائلية الخاصة، واستقر الرأي في الحزب على رئيس انتقالي، فاختير بوب راي.
ولكن مع تأكيد استطلاعات الرأي أنه سيكون بمقدور ترودو قيادة الحزب إلى الفوز إذا وافق على تولي دفة القيادة، أعلن ترودو في صيف 2012 أنه «مستعد للتفكير بالأمر». وفي خريف 2012 أخذ الإعلام الكندي يتحدث عن أنه سيطلق حملته قريبًا.
ومن ثم، في أبريل (نيسان) 2013 فاز ترودو بزعامة الحزب متغلبًا بفارق كبير حاصلاً على أكثر من 80 في المائة من الأصوات. ومنذ ذلك اليوم بدأ مشوار المعركة الانتخابية التي أجريت يوم أول من أمس ضد هاربر، وانتهت بانتصار كبير ومهم على أحد أكثر ساسة كندا تشددًا يمينيًا.

* عائلته الصغيرة

عام 2005 تزوج جاستن ترودو من صوفي غريغوار، وهي صديقته منذ أيام الطفولة وزاملت شقيقه الأصغر ميشال في المدرسة.
ثم التقى جاستن وصوفي عام 2003 عندما كانت صوفي شخصية تلفزيونية في كيبيك وهو ناشط وباحث. وتوثقت العلاقات من جديد، وتزوجا في مراسم كاثوليكية عام 2005. واليوم تضم عائلتهما ولدين هما غزافييه وهدريان، وبنتًا اسمها إيللا غريس.

* رؤساء وزراء كندا منذ الحرب العالمية الثانية

* ويليام ليون ماكنزي كينغ (حر): 1935 – 1948
* لوي سان لوران (حر): 1948 – 1957
* جون ديفنبيكر (محافظ): 1957 – 1963
* ليستر بيرسون (حر): 1963 – 1968
* بيار إيليوت ترودو (حر): 1968 – 1979
* جو كلارك (محافظ): 1979 – 1980
* بيار إيليوت ترودو (حر): 1980 - 1984
* جون تيرنر (حر): 1984 - 1984
* بريان ملروني (محافظ): 1984 - 1993
* كيم كامبل (محافظة): 1993 - 1993
* جان كريتيان (حر): 1993 - 2003
* بول مارتن (حر): 2003 - 2006
* ستيفن هاربر (محافظ): 2006 - 2015
* جاستن ترودو (حر): 2015 - ....



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.