الديوبندية في بريطانيا: الفكر السائد في المساجد.. بين المحافظة والتطرف

رئيس جمعية علماء بريطانيا لـ«الشرق الأوسط»: هي مدرسة الإسلام المعتدل ومن التحق بـ«طالبان» منها جرى استغلاله

إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
TT

الديوبندية في بريطانيا: الفكر السائد في المساجد.. بين المحافظة والتطرف

إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)

بعدما عملت الصحافية البريطانية إينيس بوين مع فرانك غاردنر، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للشؤون الأمنية عام 2003 على برنامج يكشف عن أخطار التطرف التي تهدد بريطانيا، اكتشفت أن المعلومات المتوافرة عن تركيبة المجتمع الإسلامي في البلاد شحيحة. وبعدما ملّت من انتظار صدور كتاب يكشف لها خفايا المجتمع الإسلامي البريطاني، بادرت بوين إلى كتابته بنفسها واختارت له عنوان «المدينة في برمنغهام والنجف في برينت»، وهو يرصد مساجد بريطانيا ويصنفها راسما خريطة للمجتمع الإسلامي في البلاد وكاشفًا عن المدرسة الديوبندية التي تذكر أن لديها أكثر من 44 في المائة من المساجد في البلاد. إلى ذلك، نتعمق في تلك المدرسة «الغامضة والمثيرة للشكوك». وفي مقابلة مع بوين تروي لنا تجربتها في كشف خفايا الديوبندية وتنوّع مساجدها وعلمائها الذين يتراوحون بين «معتدلين» ينددون بالإرهاب ومتطرفين يجنِّدون لحركة «طالبان». ونعود لأصول ونشأة هذه المدرسة من الهند وظهورها في بريطانيا مستعينين بتصريحات من رئيس جمعية علماء بريطانيا الشيخ حافظ رباني. وأخيرا نحاول فهم أسباب انتشار التطرّف في بريطانيا.
الإحصاءات كثيرة عن المسلمين في المملكة المتحدة – أو مجازًا، بريطانيا – وهي تفيد بأنهم يشكلون نحو أربعة في المائة من تعداد سكان البلاد، ويحتلون خمسة ونصفا في المائة من المناصب الإدارية العليا في بريطانيا، ويحمل أكثر من أربعة وعشرين في المائة منهم شهادات جامعية، لكن، قلما تثير تلك الإنجازات فضول وسائل الإعلام والباحثين. ومع أن المجتمع الإسلامي في بريطانيا مركّب ومتنوّع، ما زال كثيرون ينظرون إليه على أنه وحدة متجانسة. وفي محاولة هي الأولى من نوعها لكشف تركيبة هذا المجتمع، رصدت الصحافية إينيس بوين المجموعات المسلمة المختلفة المقيمة في بريطانيا في كتابها «المدينة في برمنغهام والنجف في برينت».
بَنت بوين كتابها على أساس أكثر من ثمانين حوارًا وتحقيقًا أجرتها مع عناصر من مختلف الجماعات والبيئات المسلمة في بريطانيا، خلال سبع سنوات متواصلة وبمساعدة باحثين مسلمين بريطانيين من أصول باكستانية. وفي الكتاب الذي صدر خلال يونيو (حزيران) الماضي استعرضت جميع مساجد بريطانيا وصنفتها، راسمة خريطة تراها معبرة عن واقع المجتمع الإسلامي في البلاد إلى حد بعيد.
وفي مقابلة مع «الشرق الأوسط»، قالت بوين «مواطنو بريطانيا ليسوا ملمّين بخلفيات المجتمع الإسلامي في البلاد وواقعه ولا يستوعبون مدى تعقيد تركيبته. ويعود ذلك لنقص المعلومات المتوافرة عن هذا المجتمع». وتابعت: «من المهم أن يستوعب البريطانيون تركيبة المجتمع الإسلامي في البلاد لتفادي تكوين أحكام مسبقة أو أفكار معممة على جميع مكوّناته»، مشيرة إلى أن الجهات الحكومية البريطانية المعنيّة قرأت كتابها واعتبرته «مفيدًا».
الصحافية والباحثة البريطانية كشفت في كتابها أن أكثرية المساجد في بريطانيا تقع تحت إدارة مدرسة فكرية غامضة ومثيرة للشكوك هي الديوبندية. وتشير الإحصاءات التي توصل إليها الباحث محمود نقشبندي، والتي تعتمدها بوين في كتابها حول المساجد في بريطانيا، إلى أن «المساجد الديوبندية في بريطانيا تشكل أكثر من 44 في المائة من العدد الكلي لدور العبادة الإسلامية في البلاد إذ تتعدى السبعمائة مسجد».
ولقد تواصلت بوين مع كبار مفكّري المدارس الإسلامية والبعض رفض أن يقابلها، وعانت من ذلك الرفض مع أفراد المدرسة الديوبندية. إلا أنها – مع ذلك – استطاعت أن تكون الصحافية الوحيدة التي وافق الشيخ الديوبندي أبو يوسف رياض الحق على مقابلتها. وعن هذا الأمر قالت: «تراسلت معه بما كتب عنه، وطلبت توضيحًا مؤكدة له أنه في حال امتناعه عن التعليق، كنت سأذكره في كتابه بحسب المصادر التي اطلعت عليها، ولكنه استاء وقبل مقابلتي لتبرير موقفه».
وحول الجماعة الديوبندية في بريطانيا رأت بوين أنها «جماعة محافظة ومغلقة جدًا وتحمل الكثير من التنوع بداخلها فتتراوح ما بين الاعتدال والتطرف»، واستطردت «إليها تنتمي جماعات شديدة السلمية وكذلك لدى البعض من عناصرها علاقات مباشرة مع حركة طالبان الأفغانية المتطرفة». ويختلف كبار وجوه المدرسة الدربندية من حيث طريقة تعاملهم مع المجتمع البريطاني، فالشيخ إبراهيم موغرا يعتبر من أئمة الديوبنديين المعتدلين، فهو يتابع مباريات كأس العالم لكرة القدم ويحل بصورة شبه دائمة ضيفًا على برامج شبكة الإذاعة «بي بي سي». وفي المقابل، بخلاف موغرا، فإن المفتي محمد بن آدم الكوثري، وهو أيضًا من أئمة المدرسة، وفق كتاب بوين «يوصي في بريطانيا بالابتعاد عن غير المسلمين». هذا، مع أن الإمامين تخرجا من المدرسة ذاتها وهي «دار العلوم العربية الإسلامية» في مقاطعة لانكشاير بشمال غربي بريطانيا. وهنا تلح الحاجة لاستكشاف خفايا فكر المدرسة الديوبندية.

*ما هي الديوبندية؟

يشرح الشيخ حافظ إكرام الحق رباني، رئيس جمعية علماء بريطانيا، لـ«الشرق الأوسط»، تاريخ وتفاصيل الفكر الديوبندي فيقول إن «هذا الفكر يعود إلى مدرسة في بلدة الديوبند في الهند أسستها مجموعة من علماء البلاد الإسلاميين عام 1857. ونمت المدرسة حتى أصبحت أكبر المعاهد الدينية للمذهب الحنفي هناك. ومن ثم أصبحت كل المدارس الدينية بكل أحجامها في كل من الهند وبنغلاديش وباكستان تدرس ذلك الفكر لتصل آثاره حتى إلى أفغانستان وروسيا». وأضاف: «كان تأسيسها في البداية ردًا قويا ومباشرا على الهجمات التي كان يشنها البريطانيون في الهند آنذاك، وبالتالي، كان طريقًا للمقاومة ولوقف الزحف الغربي والمدنية والمادية على شبه القارة الهندية ولإنقاذ المسلمين من مخاطر هذه الظروف، خاصة أن العاصمة دلهي خربت بعد الثورة بعدما سيطر عليها البريطانيون وخاف العلماء المسلمون على دينهم من أن يتعرض للابتلاع».
وبحسب الشيخ رباني فإن أهم مبادئ المدرسة «المحافظة على التعاليم الإسلامية والإبقاء على شوكة الإسلام وشعائره ونشر الثقافة الإسلامية ومحاربة الثقافة الإنجليزية منذ ذلك الزمان وإلى الآن، وأيضًا الاهتمام بنشر اللغة العربية لأنها وسيلة الاستفادة من منابع الشريعة الإسلامية والجمع بين القلب والعقل وبين العلم والروحانية». ويؤكد ذلك أن الديوبنديين «مجموعة محافظين يتمسكون بالتعاليم الإسلامية ويعتبرون الانغماس بالمجتمعات غير الإسلامية ابتلاعًا للدين واستسلاما للزحف الغربي». ويركّز الشيخ رباني أن «الديوبندية حنفية الفقه وماتريدية العقيدة».

*من الهند إلى بريطانيا

يؤكد الشيخ رباني على ما وجد بكتاب بوين حول كثرة انتشار المساجد الديوبندية في بريطانيا، إذ يقول إن: «معظم المسلمين في بريطانيا يتبعون الفكر الديوبندي» ويضيف: «أغلبية المساجد والمراكز الإسلامية في بريطانيا أسسها الباكستانيون والهنود والبنغلاديشيون ومن هنا جاء هذا الفكر». ويستطرد: «مؤخرا بدأ الصوماليون بإنشاء المراكز والمساجد في بريطانيا».
وبحسب كتاب بوين، فإن أهم مجموعتين من الفكر الديوبندي في بريطانيا هما دار العلوم وجماعة التبليغ والدعوة ومعظم قيادات كلا المجموعتين من أصول هندية أو باكستانية. دار العلوم العربية الإسلامية هي أهم وأكبر مدرسة إسلامية في بريطانيا توفر المنهاج المدرسي البريطاني إلى جانب التعليم الإسلامي أيضا للذكور والإناث. وتقع نحو 22 مدرسة تحت مظلة دار العلوم حول المملكة. ومع أن التعليم في تلك المدارس محافظ، إلا أن المناهج معتدلة وبعيدة عن التطرف.
وعلى خلاف ذلك، وثقت صحيفة «التايمز» البريطانية الشهر الماضي في حادثة أخرى أمثلة عن استضافة دعاة اعتبرتهم متطرفين من باكستان كحافظ سعيد ومسعود عازار وغيرهما في المساجد الديوبندية لإلقاء خطب. وحول ذلك تعقب بوين بقولها: «هناك أمثلة استضافت فيها بعض المساجد الديوبندية شخصيات من جنوب آسيا مرتبطة بالجماعات المتطرفة هناك»، وتستطرد بحسب معلومات جمعتها: «وبعد الندوات تم تسهيل تجنيد بعض المسلمين البريطانيين وإرسالهم لمعاقل تدريب المتطرفين في باكستان وتدرب في تلك المعسكرات العناصر التي قامت بتنفيذ هجمات إرهابية في بريطانيا بعد ذلك». وبهذا نتساءل إن كانت أكبر مجموعة إسلامية في بريطانيا على علاقة بالتطرف داخل وخارج البلاد.

* «طالبان» في مساجد البريطانيين

يشير كتاب بوين إلى أنه خلال تسعينات القرن الماضي كانت هناك علاقات مباشرة بين بعض ديوبنديي بريطانيا وحركة طالبان المتطرفة في أفغانستان ويكشف عن زيارة عناصر من الحركة إلى بريطانيا. كما يوثق أن ممثلي الحركة في بريطانيا قاموا بجمع التبرعات لبناء المدارس والمشافي في أفغانستان. وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية، كانت توزع مجلة طالبان في بعض المساجد الديوبندية، لكن المطبوعة اختفت بعدها. ويسرد الكتاب علاقات بعض ديوبنديي بريطانيا مع حركات متطرفة أخرى مرتبطة بتنظيم القاعدة وهما حركتان كشميريتان: جيش محمد وحركة المجاهدين استضافوا دعاة من هناك حضرها أكثر من عشرة آلاف مسلم هندي وبنغلاديشي.
وحول ذلك، تقول بوين: «لم أزر مساجد كافية لأعمم مدى درجة التطرف خلال الخطب ولكن في مسجد في جنوب شرقي لندن زرته مع (بي بي سي) أثناء تصويرنا لتقرير عن التطرف، كانت الخطبة مؤيدة وبشدة لتنظيم القاعدة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر».
وفي سياق متصل، تكشف بوين في كتابها عن جماعة دعوية ديوبندية تحت اسم «جماعة التبليغ والدعوة» ظهرت في بريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعلى علاقة تلك الجماعة بالتطرف. فبحسب معلومات رصدتها بوين، كشفت تحقيقات ما بعد تفجيرات لندن الانتحارية التي استهدفت المواصلات العامة في يوليو (تموز) عام 2005 أن بعض المتورطين في هذه الهجمات إلى جانب هجمات إرهابية أخرى كانوا على علاقة بجماعة التبليغ، وهم: زكريا موساوي الانتحاري رقم عشرين الذي جند لتنفيذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ولكن اعتقلته السلطات قبلها وريتشارد ريد مفجر الحذاء الذي حاول وفشل في تفجير نفسه على متن طائرة من ميامي إلى باريس بعد أسابيع قليلة من تفجيرات نيويورك. إلى جانب ثلاثة من أربعة انتحاريي تفجيرات لندن كانوا يحضرون حلقات نقاش جماعة التبليغ والدعوة. وتنوه بوين أن تلك الحلقات التحريضية على التطرف كان تنظيمها «أسهل قبل هجمات يوليو الإرهابية ولكن بات الأمر أكثر صعوبة الآن». وإلى جانب ذلك، ندد مجموعة من العلماء الديوبنديين في بريطانيا بهجمات لندن الإرهابية وأصدروا فتوى تحرم شن هجمات ضد مواطنين بريئين.

*التطرف في المدارس أو خارجها؟

يشدد رئيس جمعية علماء المسلمين في بريطانيا الشيخ رباني على أن «الديوبندية هي المنهج المعتدل للإسلام والبعيد عن التطرف كل البعد». وعن تفسيره حول السبب أن معظم قياديي حركة طالبان تخرجوا من المدارسة الديوبندية، يقول رباني: «غالبية المدارس الموجودة في الإقليم الشمالي الحدودي مع أفغانستان هي ديوبندية وتخرج من التحقوا فيها هناك»، ويضيف: «لكن هذا لا يعني أن المدارس الديوبندية تنشئهم على التطرف أو على الإرهاب فليس في تلك المدارس مرافق ميدانية أو تدريبات لاستخدام الأسلحة وهي مدارس بسيطة جدا». ويستطرد بقوله إنه: «هناك تيارات أخرى خارج الديوبندية هي التي أخذتهم واستغلتهم وحولتهم إلى درب التطرف». ويختتم قوله: «الجامعات ودور العلم تعطي العلم لكن الشخص نفسه يتجه لجهة معينة بعد ذلك وهذا الأمر يعود له».
وبعد أن أمضت إينيس بوين سبع سنين وهي تكشف خفايا المجتمع الإسلامي في بريطانيا تستنج أنه ذات تركيبة معقدة ومتعددة من الاعتدال إلى بوادر التطرف. وحول أسباب زيادة التطرف بين بعض المسلمين في البلاد تقول الباحثة البريطانية: «مجموعة من العوامل تساهم في نشر التطرف، منها تأثير الدعوة في بعض المساجد على المصلين، والمجتمعات المغلقة التي يعيشون بها بعيدا عن باقي المجتمع، ومشاعرهم بعدم الانتماء جراء عدم تقبل المجتمع الأوسع لهم، والتغيرات العالمية والسياسية أيضا، ويعتمد ذلك على الفرد وتجاربه الشخصية».
وتشير إينيس أخيرا إلى أن التاريخ الحديث أثبت لنا أن «معظم المسلمين البريطانيين الذين تورطوا في هجمات إرهابية أو أعمال متطرفة من نشآت متنوعة فمنهم من ولد في عائلة مسلمة ومنهم من اعتنق الإسلام بعد نشوئه وتتباين حالاتهم الاجتماعية والثقافية أيضا».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».