مثقفو العرب على أبواب «نوبل».. الانتظار المر

هل اكتفت الجائزة عربيا بنجيب محفوظ؟

علاء الجابري، علياء الداية، ديانا رحيل، أحمد اللاوندي
علاء الجابري، علياء الداية، ديانا رحيل، أحمد اللاوندي
TT

مثقفو العرب على أبواب «نوبل».. الانتظار المر

علاء الجابري، علياء الداية، ديانا رحيل، أحمد اللاوندي
علاء الجابري، علياء الداية، ديانا رحيل، أحمد اللاوندي

يبدو اليوم أن عددًا من الأدباء العرب يترقبون كل عام جائزة «نوبل» ثم لا تأتي، وتدور أحاديث همسًا وعلنًا أن هذا الأديب أو ذاك يتصرف بما يرضي توجهات القائمين على «نوبل» مثل أن يكون مهادنًا يتملق ثقافة ضد أخرى، أو أن يهاجم ثقافته وتراثه ويمتدح غيرها على سبيل: «التفتوا إلي»، أو يكون متناقضًا ما بين كتاباته وما هو عليه في أرض الواقع. وهذا يفضي إلى تساؤل آخر: هل اكتفت جائزة «نوبل» من بين العرب بالأديب نجيب محفوظ منذ عام 1988 ثم غيرت مسارها بعيدًا عن الوطن العربي؟ هل يعقل أن أحدًا من الأدباء العرب البارزين لم يستطع أن يلفت أنظارهم مرة أخرى إلى العرب؟ لندع الأكاديميين والأدباء الذين التقينا بهم يقيّمون هذا الموقف ويجيبون عن هذه التساؤلات، ولكن قبل ذلك أذكر بمقولة أحد أبرز الذين رفضوا هذه الجائزة، الكاتب الآيرلندي الساخر برناردشو الذي قال عن الجائزة: «جائزة (نوبل) تشبه طوق النجاة الذي يتم إلقاؤه لأحد الأشخاص بعد أن يكون قد وصل إلى الشاطئ».
* بيع المبادئ القومية
الأكاديمي الناقد الدكتور علاء الجابري، من مصر، يرى أن هناك شغفًا من الأدباء العرب تجاه «نوبل»، ويقول: «بعضهم يريد (نوبل) بأي ثمن، وفي سبيل ذلك بذل بعضهم ماء وجه قوميته وعروبته تارة أو ثوابت مجتمعه تارة أخرى لينتظر كل عام مكافأته. وهؤلاء تجد بعضهم يبيع دم إخوانه منتظرا عطايا السلطان، حيث يتحكم فيهم سيف السلطان وذهب الجوائز، بمعنى أنه شخص غير سوي إنسانيا، وفي أي سياق لا يأتي بخير فليست (نوبل) وحدها التي سال لها لعابه. وبعضهم يظن أن مجرد الإغراق في المحلية، كما فعل محفوظ، سيجعله يستحق الجائزة». ويضيف الجابري: «والحق أن صدق محفوظ وصبره وتجدد إبداعه لا مثيل له. والغريب أن بعضهم تبرأ من الظن بكون أولاد حارتنا وإغارتها على بعض ثوابت الأديان طبقا لبعض وجهات النظر كانت سببا في منح (نوبل) لمحفوظ، ثم تراه يعمل بعكس ذلك في مغازلة للجائزة من جهة، وبيع لمبادئه من جهة أخرى».
لا تخلو فكرة الدكتور الجابري من الميل لنظرية المؤامرة التقليدية فيقول: «لنتفق بداية على أن الجائزة، أي جائزة، ليست دليلا على اتفاق على المبدع أو العمل الفني، فما يحكمها هو توجهات لجنة التحكيم التي يتغير حكمها بين فترة وأخرى وتشكيل وآخر، وليس أدل على ذلك من فوز البلاروسية بجائزة (نوبل) وهي المغمورة عند كثيرين، والتي ينظر لها أغلب النقاد بكون أعمالها أشبه بعمل محررة صحافية». ويكمل: «وربما لم تكن (نوبل) حاضرة في أذهان أغلبية المبدعين العرب قبل نجيب محفوظ، ولعل سعيهم لها وحلمهم بها ليثبتوا لأنفسهم أنهم ليسوا أقل من محفوظ بدرجة أكبر من استحقاقهم لها، وفي سبيل ذلك بذل بعضهم ماء وجه قوميته وعروبته تارة، أو ثوابت مجتمعه تارة أخرى لينتظر كل عام مكافأته. بالطبع يوجد مستحقون لـ(نوبل) على الأقل قياسا لبعض الفائزين من غير العرب، وهو ما يحدث مع جنسيات أخرى غير أن الأمور لا تسير بهذه الآلية. ونحن ننسى أن ترجمة أعمال محفوظ منذ زمن قد طرحته بقوة، ونحن قوم لا نجيد تسويق أعمالنا بالشكل المناسب».
* حالة احتفالية طقسية
الأكاديمية والقاصة الدكتورة علياء الداية من سوريا تستبعد أن تكون جائزة «نوبل» للأدب اكتفت بنجيب محفوظ بوصفه. وتستدرك بقولها: «لكن من الملحوظ تحول هذه الجائزة مع الزمن وفي عصرنا هذا إلى حالة احتفالية طقسية، تثير تنبه القراء إلى الحضور الإعلامي للأدب والكتابة واستمرار أهميتهما في حياة الناس. مع أن الفروع العلمية لجائزة (نوبل) صارت تنافس الجائزة الأدبية في استقطاب الاهتمام حتى لدى المشتغلين بالأدب». وتضيف علياء الداية: «من الطبيعي أن لكل كاتب معجبين يقدّرون إبداعه الذي يترك أثرًا في حياتهم ونفوسهم، وهذه هي الجائزة الحقيقية، (نوبل) ليست نهاية المطاف. وكل ما يحتويه أدب الكاتب من نزعات منفتحة أو انتقاد أو أفكار للتصالح أو دهشة تجاه العرب أو الغرب، هو سمة من سمات العمل الأدبي، وبقدر ما تكون أصيلة وصادقة فهي تعبير عن المعاناة وآفاق الحياة أو الموت، أما إن كانت مخصصة لاستمالة الجائزة فهي تطفو على السطح ولا أثر لها».
* ليحلموا ولكن لا يتنازلون
أما الأكاديمية الناقدة الدكتورة ديانا رحيّل من الأردن فتقول إنّ «حلم الفوز بجائزة (نوبل) للآداب يراود كثيرا من الأدباء والشعراء العرب، وهذا حقهم، ولا أنكر أنها تتويج لمسيرة كاتب أو شاعر واعتراف بكفاءة إبداعه، لكن لا يحق لهم أن يَقصُروا إبداعهم على ما يحاكي الغرب ويجد أصداء عندهم للفت الانتباه.. شخصيًا لا أؤمن بأن الجائزة اكتفت بالأديب نجيب محفوظ، ربما لا يوجد كاتب عربي أقنع القائمين على الجائزة به، رغم إبداعه، لكن لا بد من أسباب حالت دون فوز كاتب عربي غير نجيب محفوظ بالجائزة». وتفسر الحالة بقولها: «صحيح أن المبدعين كثر في وطننا العربي، لكن الكاتب الذي يكتب لنيل جائزة ما سيبتعد عن وطنه وأمته وهمومه، فنجيب محفوظ الفائز بالجائزة سنة 1988 لم يكتب لأي جائزة، وعبّرت كتاباته عنه وعن بيئته وحارته، فكانت (نوبل) تقديرا لإبداعه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عبر آندريتش الفائز سنة 1961 عن مدينته وقريته والنهر. جائزة (نوبل) تريد مَن يعبر عن أمته وليس مَن يغازلها ويكتب استجداءً، فالاهتمام يكون بالكاتب الذي يشكل قيمة في مجتمعه وليس ذلك المنسلخ عنه».
وتتابع: «عندما نجد أن كاتبا عربيا واحدا فقط حاز على هذه الجائزة يجعلنا نرى بوجود أسباب أخرى تتحكم بالجائزة، ولو جزئيا، مثل الموقف السياسي للكاتب، فلا يعقل أن البلاد العربية لم تنجب مبدعا سوى نجيب محفوظ، مع اعترافي المطلق بإبداعه. وأيضا لا يجب أن نغفل أهمية الترجمة، فهي تلعب دورا مهما في الموضوع، لأن انتشار العمل الأدبي باللغات الأجنبية يلفت إليه الأنظار، ويضع كاتبه في دائرة الضوء.
وتختتم ديانا رحيّل رؤيتها للموضوع بقولها: «قد يتأثر بعض الكتاب بالحضارات الغربية فيلجأ أحدهم لفضح المجتمع العربي، والتركيز على قضايا تخدم الغرب، وقد يتجرأ آخر ويخوض بالمعتقدات الإسلامية مستغلا موقف الغرب من الإسلام والمسلمين، ومستغلا أيضا إلصاق تهمة الإرهاب به، ساعيا في قرارة نفسه للشهرة في المجتمعات الغربية وبالتالي التركيز على أعماله، وهؤلاء يشكلون خطرا حقيقيا على الوعي الثقافي، لأنهم على أتم الاستعداد لتبني أي موقف يعادي العرب، ويتصدى للهجوم على الدين والثقافة العربية بالمجمل، مغازلا بموقفه هذا الجوائز العالمية وعلى رأسها جائزة (نوبل)».
* مجرد مرشحين حتى الآن
الشاعر أحمد اللاوندي، من مصر، ينظر إلى الموضوع من زاويته التاريخية وصولاً إلى الحاضر فيقول: «في عام 1988 حصل الكاتب المصري نجيب محفوظ على جائزة (نوبل) في الآداب، ومنذ ذلك العام فإن المحافل الثقافية الدولية تغفل الإبداع والمبدعين العرب، فلم يحصل أي كاتب أو مبدع عربي على هذه الجائزة بعد محفوظ، وكثيرا ما رشح الشاعر السوري أدونيس، والكاتبة الجزائرية آسيا جبار، والكاتب الصومالي نور الدين فرح وغيرهم للجائزة، لكن كل هؤلاء ما زالوا مجرد مرشحين فقط».
وأضاف: «وأنا هنا أريد أن آخذ أدونيس مثالا، فرغم أنه من الشعراء العرب الكبار، وأنه قد ساهم بشكل كبير في إيصال الحداثة الغربية إلى الشرق، وأنه نقل كثيرا من المفاهيم النقدية الغربية إلينا، فإنه لم يستطع إدخال ثقافتنا اليومية كوننا شرقيين إلى كتاباته، على عكس نجيب محفوظ الذي قدم الحياة اليومية المصرية بكل تفاصيلها في كتاباته، فأخرجها من المحلية للعالمية.. فاستحق (نوبل) عن جدارة».
ويضيف: «أشعر أن أدونيس قد شغل بـ(نوبل) كثيرا فصار شاعرا غربيا وكاتبا غربيا ومثقفا غربيا، ومن وجهة نظري كنت أتمنى أن يحصل الشاعر الفلسطيني محمود درويش على الجائزة قبل وفاته، فهو أحق من أدونيس الذي ما زال مرشحا وسيظل».
ويرى الشاعر أحمد اللاوندي أن كل من فاز بـ(نوبل) يستحقها؛ لأنه قد تفوق علينا إبداعيا، نحن العرب، وعلينا أن نعترف بذلك، لكن كل عام يخرج علينا من يقول إن «كتابات من فاز بـ(نوبل) تافهة، ولا ترقى لنيل الجائزة»، وهذا هراء بالطبع، والحقيقة أن كتابات من فاز بالجائزة لم تترجم إلى العربية، ولو كانت مترجمة من قبل لتغيرت أقوالنا بالتأكيد.
ويؤيد أحمد اللاوندي فكرة أن بعض الأدباء والكتاب العرب ما زالوا يغازلون «نوبل» بكتابات وسلوكيات معينة، مثل الحديث عن الغرب بدهشة، والتصالح مع الآخر، وانتقاد الشخصية العربية بأطروحات منفتحة جدا على كل المستويات كي يستميلوا القائمين على «نوبل»، ومع ذلك لم يفلحوا.. لماذا؟ لأن الوصول للعالمية يحتاج من الكاتب ومن المبدع أن ينقل واقع بلاده بكل إشكالياته وتفاصيله، مهما كانت دقيقة وصغيرة، وهذا ما فعله نجيب محفوظ، ولم يفعله أحد من المبدعين والكتاب العرب حتى الآن.
* أين تلعب السياسة؟
قال الدكتور مصلح النجار، أستاذ الأدب الحديث في الجامعة الهاشمية في الأردن: «من الصعب أن نحكم بأنّ جائزة (نوبل) قد اكتفت من الوطن العربي بنجيب محفوظ، فلا يغلق حصول أديب على الجائزة الباب أمام ثقافة حاضرة في الحضارة الإنسانيّة مثل الثقافة العربية. وقد يشعر كثير من المثقّفين العرب أنّ هذه الجائزة تتأثّر بعوامل سياسيّة، كما تتأثر بالمركزيّات، وموقف الأدباء منها. وقد تردّدت مجموعة من الأسماء أشيع أنّها تمّ ترشيحها لـ(نوبل) في الآداب، ورأيت بعض الاحتجاجات، ومراسلات بين إدارة الجائزة وبعض المثقفين العرب حول بعض هذه الترشيحات. لكن ما أؤمن به أن أدونيس الذي أشيع ترشيحه مثلا، رغم سرّيّة الترشيحات، يستحقّ (نوبل) للآداب، لما يتّسم به من حضور، وتأثير في الأدب العربي والثقافة العربية، زيادة على اتّسام أدبه بالعالمية، عن جدارة، رغم كل ما ثار حوله من لغط. وقائمة الأسماء ليست قصيرة بين أدباء العربية، مثل صنع الله إبراهيم، وإبراهيم عبد المجيد، وبهاء طاهر. أو مثل محمود درويش حين كان حيّا، ومثله عبد السلام العجيلي، ورضوى عاشور، وتوفيق الحكيم. وربّما كان المراقبون في سياق الثقافة العربية يفسّرون بعض سلوكيات ومواقف أدباء معيّنين على أنها من باب الرياء سعيا إلى (نوبل)، ومحاولة لإظهار حسن النيات، وهي الملاحظة التي أسرف بعض النقاد في شرحها حول نجيب محفوظ، وأدبه، ومواقفه، وهو الكلام الذي قيل مثله عن توفيق الحكيم. وأنا أؤمن أن كثيرا من المواقف والمضمونات التي تنطوي عليها أعمال الأدباء ليست بريئة، لكنّ الملاحظة تصبح جديرة بالتوقف عندها حين ندرك أنّ عددا غير قليل من الأدباء كانوا يضعون المطامع بالجوائز العالمية نصب أعينهم وهم يصوغون إبداعاتهم، وبذلك نتج من هذا الطمع أو الطموح تأثير طال عددا غير قليل من الأدباء والأعمال الأدبية، مما قد يكون مؤثرا في الفكر الأدبي للمرحلة التي امتدت لعقود حتى يومنا هذا».



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.