ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

معركة رئاسة بلدية العاصمة البريطانية تعكس تعدديتها الثقافية الغنية

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن
TT

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

لا جدال في أن العاصمة البريطانية لندن تعد في طليعة مدن العالم «الكوزموبوليتانية»، حيث تتعدد الثقافات وفي كثير من الأحيان تتزاوج وتنصهر. وخلال العام المقبل، بعدما يودّع العمدة الحالي والسياسي والإعلامي المحافظ بوريس جونسون، الذي كان جدّه لأبيه تركيًا مسلمًا اسمه عثمان كمال، سيخلفه الفائز من انتخابات يخوضها الحزبان الكبيران، حزب المحافظين وحزب العمال، بمرشحين شابين يجسدّان مجددًا هوية لندن وتعدديتها الدينية والثقافية واهتماماتها الاقتصادية والبيئة والاجتماعية.
أصلاً، لندن اعتادت على انتخاب شخصيات تتمتع بالجاذبية الشخصية الكبيرة، ولئن كان العمدة الحالي جونسون يُعدّ من أكثر الساسة المحافظين شعبية، وينظر إليه كثيرون على أنه الشخصية الأنسب لخلافة ديفيد كاميرون في زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة، فإن العمال سبق لهم أن انتخبوا كين ليفنغستون. وكان ليفنغستون، ذلك السياسي اليساري المتشدد اللامع، الرجل الذي صادم مارغريت ثاتشر في عزّ سطوتها، وبلغ تخوّفها من شعبيته وجاذبيته الجماهيرية حد اتخاذها قرار إلغاء المجلس البلدي الموحّد للندن الكبرى بمناطقها الـ15 والاكتفاء بالمجالس المحلية لكل من هذه المناطق.
تنبع أهمية منصب عمدة لندن من المكانة الاستثنائية للعاصمة البريطانية ذاتها. فليست كل مدينة في بريطانيا بمستوى لندن، سواءً من حيث حجمها السكاني، أو مكانتها المالية والاقتصادية والخدماتية والسياحية والثقافية، أو صورتها المميزة كـ«عاصمة عالمية»... لا تنافسها في هذا سوى حواضر قليلة بالكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل نيويورك وباريس وطوكيو وبرلين.
وبالتالي، يوفر منصب عمدة لندن لشاغله إطلالتين: إطلالة وطنية كونه رئيس أكبر سلطة محلية منتخبة على مستوى بريطانيا، وإطلالة دولية كون لندن إحدى «العواصم العالمية» القليلة التي تستقطب الرساميل والاستثمارات والسياح، ناهيك من مجتمعات الأعمال، وتجتذب بخدماتها المتطورة كل فئات المجتمع. خلال الأسابيع القليلة الفائتة حسم الحزبان البريطانيان الكبيران معركتيهما الداخليتين، ففاز عضو مجلس العموم البريطاني زاك غولدسميث، بفارق كبير، بترشيح حزب المحافظين الحاكم لمنصب عمدة العاصمة. وكان قد سبقه عضو مجلس العموم والوزير العمالي السابق صديق خان بالفوز بترشيح حزب العمال لهذا المنصب المرموق.
المرشحان «أربعينيان» ينتمي كل منهما إلى التيار التجديدي المعتدل في حزبه، وهما يمثلان دائرتين انتخابيتين في جنوب لندن. ولكن عند هذه النقطة تتوقّف المقارنات، إذ إن خلفيتيهما الاجتماعيتين تختلفان اختلافًا جذريًا.
* البرامج مطلبية
من يعرف مناخات السياسة البريطانية يدرك أن الناخب البريطاني إنما يقترع بناء على البرامج السياسية التي تطرحها الأحزاب، وهو وإن تأثر بعوامل شخصية هنا أو دينية هناك تظل المعايير معايير مطلبية ومصلحية في المقام الأول. وهذا الواقع يتضح أكثر في صفوف التيارين اليميني في حزب المحافظين واليساري في حزب العمال حيث يلعب الولاء الطبقي والمستوى المعيشي – لجهة الدخل – الدور الأساسي في أولويات المحازبين والحركيين الملتزمين.
وهكذا، بصفة عامة، تصوّت المناطق حيث تشكل الملكية العقارية الفردية نسبة غالبة من مجموع التوزع العقاري لحزب المحافظين. كذلك يتمتع هذا الحزب بتأييد سكان الضواحي الراقية خارج المدن الصناعية. أما حزب العمال فيحصل على النسبة أعلى من التأييد في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث يكثر الإسكان الشعبي، وكذلك في البيئات الصناعية التقليدية، وحتى الأمس القريب في مناطق المناجم. وفي ضوء هذا الواقع يلاحظ أن في صميم برامج المحافظين السياسية والانتخابية تحفيز المبادرة الفردية ومكافأة الطبقة الميسورة والطبقة ما دون الوسطى بخفض الضرائب وخفض الإنفاق على الخدمات العامة وتحرير الرساميل في أيدي أصحابها. وفي المقابل، تحرص البرامج السياسية والانتخابية للعمال على تعزيز والإنفاق على الخدمات العامة التي تشكل شبكة أمان للفقراء والعاطلين عن العمل والعائلات الكبيرة من الطبقات الفقيرة ما دون الوسطى.
ولكن خلال الفترة منذ عام 1978 جرّب الحزبان الكبيران التطرّف والاعتدال. وأيضًا اقترب الحزبان في عدة مراحل زمنية من مواقع وسط الساحة، إذ لم يكن هناك فوارق آيديولوجية تذكر بين المعتدلين من الحزبين، مثل توني بلير العمالي المعتدل وديفيد كاميرون المحافظ المعتدل، بينما توجد فوارق هائلة بين الجناحين الراديكاليين فيهما.
* أهمية كسب غير الملتزمين
اليوم الحزبان يعدان العدة لخوض انتخابات المجلس البلدي للندن بشخصيتين تتمتعان بشعبية لا تنكر كل داخل حزبه. ويكاد يكون هناك شبه إجماع على أن أيًا منهما لا يعبّر عن الجماعات الراديكالية المتزمتة داخل الحزبين، وذلك لأن من مصلحة الحزبين كسب أوسع حيّز ممكن من جمهور الناخبين غير الملتزمين، وأولئك الذين يقترعون على أساس قضية مطلبية بعينها بمعزل عن الهوى الآيديولوجي.
وبالتالي، اختار المحافظون مرشحًا مهتمًا جدًا بالبيئة – بل هدّد بالوقوف ضد حزبه إذا تبنى الحزب خطط توسيع مطار هيثرو – لكي يسحب أصوات ناخبين يمكن أن يصوّتوا لمرشح حزب «الخضر». ومن جهتهم، اختار العمال مرشحًا ذا خبرة كبرى في الحكم المحلي (البلديات) والنقل، وهما قطاعات يمسان حياة الناس مباشرة، لأنهم يأملون أن يكسب نسبة عالية من الأصوات التي قد تذهب للديمقراطيين الأحرار، وكذلك «الخضر» وبعض القوى المطلبية الصغيرة.
* زاك غولدسميث.. الأرستقراطي الثري
زاك غولدسميث (40 سنة)، واسمه الكامل فرانك زكارياس روبن غولدسميث، ولد يوم 20 يناير (كانون الثاني) 1975 في العاصمة البريطانية لندن. وهو ابن رجل الأعمال الملياردير السير جيمس غولدسميث، المتحدّر من أسرة يهودية ألمانية ثرية، وزوجته الثالثة الليدي آنابيل فاين - تمبست ستيوارت، وهي سيدة أرستقراطية من أصول إنجليزية – آيرلندية.
تربّى زاك مع شقيقيه جيما وبن في قصر العائلة في الضواحي الجنوبية الخضراء للندن على ضفاف التيمس، ودرس ثم تخرج في كلية إيتون، إحدى أعرق وأرقى مدارس العالم الخاصة، غير أنه لم يتابع دراسته الجامعية، بل جال في مختلف أنحاء العالم ونمت عنده اهتمامات كبير بمسائل حماية البيئة. وبناءً عليه أسند إليه عمه إدوارد غولدسميث عام 1997 منصبًا تحريريًا في مجلة «ذي إيكولوجيست» البيئية التي كان العم قد أسسها وتولى نشرها. وفي العام التالي أسندت إليه رئاسة تحريرها وإدارتها، غير أنه عندما قرر خوض غمار السياسة عام 2006 تخلى عن منصبيه في المجلة، وإن ظل يكتب عن البيئة في عدد من الصحف والمجلات البريطانية الكبرى.
عام 2005 عينه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نائبًا لرئيس مجموعة «فريق سياسة نوعية الحياة» معاونًا لرئيسها الوزير السابق اللورد ديبين (جون سلوين – غامر). وعام 2010 رشحه حزب المحافظين لخوض الانتخابات عن دائرة ريتشموند بارك وفاز بالمعقد البرلماني، منتزعًا إياه من حزب الديمقراطيين الأحرار. وكرر فوزه بالمقعد في الانتخابات العامة الأخيرة في الربيع الفائت بغالبية كبيرة من الأصوات بلغت أكثر من 23 ألف صوت عن أقرب منافسيه. ولدى تحضير الحزب لانتخابات منصب عمدة لندن دخل غولدسميث حلبة المنافسة داخل الحزب وفاز بغالبية ضخمة أيضًا، إذ حصل على 6514 صوتًا مقابل 1488 صوتًا فقط لأقرب منافسه عضو البرلمان الأوروبي سعيد كمال. وهكذا تأهل لخوض المعركة في وجه مرشحي عدة قوى، في مقدمتها حزب العمال.
زاك غولدسميث، تزوّج مرتين، وهو أب لأربعة أولاد. وحاليًا يسكن في حي بارنز الراقي جنوب نهر التيمس بجنوب غربي لندن، وتقدّر المصادر أنه ورث عن أبيه بعد وفاته ثروة تقدّر بما بين 200 و300 مليون جنيه إسترليني. وتجدر الإشارة إلى أن شقيقته جيما غولدسميث - خان، التي اعتنقت الإسلام، كانت متزوجة بلاعب الكريكيت الباكستاني العالمي عمران خان، الذي اقتحم مثل شقيقها غمار السياسة في باكستان. وحصلت على شهادة الماجستير في الفكر الإسلامي المعاصر من معهد الدراسات الشرقية الأفريقية بجامعة لندن.
* صديق خان.. العصامي الطموح
بعكس التربية الأرستقراطية لآل غولدسميث، فإن المرشح العمالي صديق خان (45 سنة) رجل عصامي، كان أبوه المهاجر الباكستاني المسلم سائق حافلة وتعمل أمه في الخياطة، لكنه نجح في حياته المهنية والسياسية ليغدو عام 2008 ثاني مسلم في تاريخ بريطاني يصبح وزيرًا.
ولد صديق عمران خان يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1970 في لندن ونشأ في مجمع إسكان شعبي بحي إيرلزفيلد بجنوب المدينة. وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرستين حكوميتين قبل أن يلتحق بجامعة شمال لندن لدراسة الحقوق. ومن ثم مارس صديق تدريس الحقوق، وكذلك زاول مهنة المحاماة بنجاح، بل وانتخب في عدة مواقع قيادية في الجمعيات الخاصة المهتمة بالحقوق المدنية.
من جانب آخر، انجذب صديق للسياسة، وخاض غمار العمل البلدي في صفوف حزب العمال، فانتخب عضوًا في المجلس البلدي لمنطقة وانزوورث بجنوب لندن عام 1994 ممثلاً حي توتينغ، واحتفظ بمقعده في المجلس حتى عام 2006. وعام 2005 دخل مجلس العموم لأول مرة بعد فوزه في الانتخابات عن دائرة توتينغ، واحتفظ بمقعده البرلماني عام 2010، ثم في الانتخابات الأخيرة خلال العام الحالي.
في أكتوبر 2008، بعد تعديل حكومي أجراه رئيس الوزراء حينذاك غوردن براون، عين صديق خان وزير دولة للجاليات والتجمعات المحلية، فبات ثاني مسلم يتولى الوزارة في بريطانيا.
وعام 2009 عين وزيرا للنقل ودخل مجلس الوزراء المصغّر. وهو اليوم، «وزير في حكومة الظل» العمالية لشؤون لندن. تمكن يوم 15 سبتمبر (أيلول) الماضي من حسم معركة ترشيح حزبه لمنصب العمدة حاصلاً على 48152 صوتًا، أي ما نسبته نحو 59 في المائة من الأصوات، متغلبًا على منافسته الأقوى الوزيرة السابقة تيسا جاويل التي حصلت على أكثر بقليل من 41 في المائة من الأصوات.
المرشح العمالي متزوج منذ عام 1994 وزوجته مسلمة اسمها سعدية، وهو أب لثلاثة أولاد.
* الأحزاب الأخرى
المعركة في لندن مفتوحة أمام عدة أحزاب ولا تقتصر بحال من الأحوال على المحافظين والعمال، ففي وسط الساحة الآيديولوجية هناك حزب الديمقراطيين الأحرار، الوسطي الليبرالي الذي ورث المبادئ الليبرالية من حزب الأحرار العريق. وفي يمينها هناك حزب «استقلال المملكة المتحدة» النازع للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والمناوئ بشدة للهجرة، وعلى يسارها يعد حزب «الخضر» البيئي إحدى أبرز قوى اليسار والقوى البيئية التي تتصادم أولوياتها مع التنمية السريعة وتخويل القطاع الخاص بكل شيء. أيضًا هناك جماعات هامشية متطرفة في اليمين واليسار، تجمعات مصلحية تدافع عن مطالب محلية أو آنية محددة، ولا ترضى بتذويبها أو تخفيفها في جدل سياسي عام يضيع بوصلتها ويضعف زخم الدفاع عنها.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.