ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

معركة رئاسة بلدية العاصمة البريطانية تعكس تعدديتها الثقافية الغنية

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن
TT

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

لا جدال في أن العاصمة البريطانية لندن تعد في طليعة مدن العالم «الكوزموبوليتانية»، حيث تتعدد الثقافات وفي كثير من الأحيان تتزاوج وتنصهر. وخلال العام المقبل، بعدما يودّع العمدة الحالي والسياسي والإعلامي المحافظ بوريس جونسون، الذي كان جدّه لأبيه تركيًا مسلمًا اسمه عثمان كمال، سيخلفه الفائز من انتخابات يخوضها الحزبان الكبيران، حزب المحافظين وحزب العمال، بمرشحين شابين يجسدّان مجددًا هوية لندن وتعدديتها الدينية والثقافية واهتماماتها الاقتصادية والبيئة والاجتماعية.
أصلاً، لندن اعتادت على انتخاب شخصيات تتمتع بالجاذبية الشخصية الكبيرة، ولئن كان العمدة الحالي جونسون يُعدّ من أكثر الساسة المحافظين شعبية، وينظر إليه كثيرون على أنه الشخصية الأنسب لخلافة ديفيد كاميرون في زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة، فإن العمال سبق لهم أن انتخبوا كين ليفنغستون. وكان ليفنغستون، ذلك السياسي اليساري المتشدد اللامع، الرجل الذي صادم مارغريت ثاتشر في عزّ سطوتها، وبلغ تخوّفها من شعبيته وجاذبيته الجماهيرية حد اتخاذها قرار إلغاء المجلس البلدي الموحّد للندن الكبرى بمناطقها الـ15 والاكتفاء بالمجالس المحلية لكل من هذه المناطق.
تنبع أهمية منصب عمدة لندن من المكانة الاستثنائية للعاصمة البريطانية ذاتها. فليست كل مدينة في بريطانيا بمستوى لندن، سواءً من حيث حجمها السكاني، أو مكانتها المالية والاقتصادية والخدماتية والسياحية والثقافية، أو صورتها المميزة كـ«عاصمة عالمية»... لا تنافسها في هذا سوى حواضر قليلة بالكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل نيويورك وباريس وطوكيو وبرلين.
وبالتالي، يوفر منصب عمدة لندن لشاغله إطلالتين: إطلالة وطنية كونه رئيس أكبر سلطة محلية منتخبة على مستوى بريطانيا، وإطلالة دولية كون لندن إحدى «العواصم العالمية» القليلة التي تستقطب الرساميل والاستثمارات والسياح، ناهيك من مجتمعات الأعمال، وتجتذب بخدماتها المتطورة كل فئات المجتمع. خلال الأسابيع القليلة الفائتة حسم الحزبان البريطانيان الكبيران معركتيهما الداخليتين، ففاز عضو مجلس العموم البريطاني زاك غولدسميث، بفارق كبير، بترشيح حزب المحافظين الحاكم لمنصب عمدة العاصمة. وكان قد سبقه عضو مجلس العموم والوزير العمالي السابق صديق خان بالفوز بترشيح حزب العمال لهذا المنصب المرموق.
المرشحان «أربعينيان» ينتمي كل منهما إلى التيار التجديدي المعتدل في حزبه، وهما يمثلان دائرتين انتخابيتين في جنوب لندن. ولكن عند هذه النقطة تتوقّف المقارنات، إذ إن خلفيتيهما الاجتماعيتين تختلفان اختلافًا جذريًا.
* البرامج مطلبية
من يعرف مناخات السياسة البريطانية يدرك أن الناخب البريطاني إنما يقترع بناء على البرامج السياسية التي تطرحها الأحزاب، وهو وإن تأثر بعوامل شخصية هنا أو دينية هناك تظل المعايير معايير مطلبية ومصلحية في المقام الأول. وهذا الواقع يتضح أكثر في صفوف التيارين اليميني في حزب المحافظين واليساري في حزب العمال حيث يلعب الولاء الطبقي والمستوى المعيشي – لجهة الدخل – الدور الأساسي في أولويات المحازبين والحركيين الملتزمين.
وهكذا، بصفة عامة، تصوّت المناطق حيث تشكل الملكية العقارية الفردية نسبة غالبة من مجموع التوزع العقاري لحزب المحافظين. كذلك يتمتع هذا الحزب بتأييد سكان الضواحي الراقية خارج المدن الصناعية. أما حزب العمال فيحصل على النسبة أعلى من التأييد في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث يكثر الإسكان الشعبي، وكذلك في البيئات الصناعية التقليدية، وحتى الأمس القريب في مناطق المناجم. وفي ضوء هذا الواقع يلاحظ أن في صميم برامج المحافظين السياسية والانتخابية تحفيز المبادرة الفردية ومكافأة الطبقة الميسورة والطبقة ما دون الوسطى بخفض الضرائب وخفض الإنفاق على الخدمات العامة وتحرير الرساميل في أيدي أصحابها. وفي المقابل، تحرص البرامج السياسية والانتخابية للعمال على تعزيز والإنفاق على الخدمات العامة التي تشكل شبكة أمان للفقراء والعاطلين عن العمل والعائلات الكبيرة من الطبقات الفقيرة ما دون الوسطى.
ولكن خلال الفترة منذ عام 1978 جرّب الحزبان الكبيران التطرّف والاعتدال. وأيضًا اقترب الحزبان في عدة مراحل زمنية من مواقع وسط الساحة، إذ لم يكن هناك فوارق آيديولوجية تذكر بين المعتدلين من الحزبين، مثل توني بلير العمالي المعتدل وديفيد كاميرون المحافظ المعتدل، بينما توجد فوارق هائلة بين الجناحين الراديكاليين فيهما.
* أهمية كسب غير الملتزمين
اليوم الحزبان يعدان العدة لخوض انتخابات المجلس البلدي للندن بشخصيتين تتمتعان بشعبية لا تنكر كل داخل حزبه. ويكاد يكون هناك شبه إجماع على أن أيًا منهما لا يعبّر عن الجماعات الراديكالية المتزمتة داخل الحزبين، وذلك لأن من مصلحة الحزبين كسب أوسع حيّز ممكن من جمهور الناخبين غير الملتزمين، وأولئك الذين يقترعون على أساس قضية مطلبية بعينها بمعزل عن الهوى الآيديولوجي.
وبالتالي، اختار المحافظون مرشحًا مهتمًا جدًا بالبيئة – بل هدّد بالوقوف ضد حزبه إذا تبنى الحزب خطط توسيع مطار هيثرو – لكي يسحب أصوات ناخبين يمكن أن يصوّتوا لمرشح حزب «الخضر». ومن جهتهم، اختار العمال مرشحًا ذا خبرة كبرى في الحكم المحلي (البلديات) والنقل، وهما قطاعات يمسان حياة الناس مباشرة، لأنهم يأملون أن يكسب نسبة عالية من الأصوات التي قد تذهب للديمقراطيين الأحرار، وكذلك «الخضر» وبعض القوى المطلبية الصغيرة.
* زاك غولدسميث.. الأرستقراطي الثري
زاك غولدسميث (40 سنة)، واسمه الكامل فرانك زكارياس روبن غولدسميث، ولد يوم 20 يناير (كانون الثاني) 1975 في العاصمة البريطانية لندن. وهو ابن رجل الأعمال الملياردير السير جيمس غولدسميث، المتحدّر من أسرة يهودية ألمانية ثرية، وزوجته الثالثة الليدي آنابيل فاين - تمبست ستيوارت، وهي سيدة أرستقراطية من أصول إنجليزية – آيرلندية.
تربّى زاك مع شقيقيه جيما وبن في قصر العائلة في الضواحي الجنوبية الخضراء للندن على ضفاف التيمس، ودرس ثم تخرج في كلية إيتون، إحدى أعرق وأرقى مدارس العالم الخاصة، غير أنه لم يتابع دراسته الجامعية، بل جال في مختلف أنحاء العالم ونمت عنده اهتمامات كبير بمسائل حماية البيئة. وبناءً عليه أسند إليه عمه إدوارد غولدسميث عام 1997 منصبًا تحريريًا في مجلة «ذي إيكولوجيست» البيئية التي كان العم قد أسسها وتولى نشرها. وفي العام التالي أسندت إليه رئاسة تحريرها وإدارتها، غير أنه عندما قرر خوض غمار السياسة عام 2006 تخلى عن منصبيه في المجلة، وإن ظل يكتب عن البيئة في عدد من الصحف والمجلات البريطانية الكبرى.
عام 2005 عينه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نائبًا لرئيس مجموعة «فريق سياسة نوعية الحياة» معاونًا لرئيسها الوزير السابق اللورد ديبين (جون سلوين – غامر). وعام 2010 رشحه حزب المحافظين لخوض الانتخابات عن دائرة ريتشموند بارك وفاز بالمعقد البرلماني، منتزعًا إياه من حزب الديمقراطيين الأحرار. وكرر فوزه بالمقعد في الانتخابات العامة الأخيرة في الربيع الفائت بغالبية كبيرة من الأصوات بلغت أكثر من 23 ألف صوت عن أقرب منافسيه. ولدى تحضير الحزب لانتخابات منصب عمدة لندن دخل غولدسميث حلبة المنافسة داخل الحزب وفاز بغالبية ضخمة أيضًا، إذ حصل على 6514 صوتًا مقابل 1488 صوتًا فقط لأقرب منافسه عضو البرلمان الأوروبي سعيد كمال. وهكذا تأهل لخوض المعركة في وجه مرشحي عدة قوى، في مقدمتها حزب العمال.
زاك غولدسميث، تزوّج مرتين، وهو أب لأربعة أولاد. وحاليًا يسكن في حي بارنز الراقي جنوب نهر التيمس بجنوب غربي لندن، وتقدّر المصادر أنه ورث عن أبيه بعد وفاته ثروة تقدّر بما بين 200 و300 مليون جنيه إسترليني. وتجدر الإشارة إلى أن شقيقته جيما غولدسميث - خان، التي اعتنقت الإسلام، كانت متزوجة بلاعب الكريكيت الباكستاني العالمي عمران خان، الذي اقتحم مثل شقيقها غمار السياسة في باكستان. وحصلت على شهادة الماجستير في الفكر الإسلامي المعاصر من معهد الدراسات الشرقية الأفريقية بجامعة لندن.
* صديق خان.. العصامي الطموح
بعكس التربية الأرستقراطية لآل غولدسميث، فإن المرشح العمالي صديق خان (45 سنة) رجل عصامي، كان أبوه المهاجر الباكستاني المسلم سائق حافلة وتعمل أمه في الخياطة، لكنه نجح في حياته المهنية والسياسية ليغدو عام 2008 ثاني مسلم في تاريخ بريطاني يصبح وزيرًا.
ولد صديق عمران خان يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1970 في لندن ونشأ في مجمع إسكان شعبي بحي إيرلزفيلد بجنوب المدينة. وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرستين حكوميتين قبل أن يلتحق بجامعة شمال لندن لدراسة الحقوق. ومن ثم مارس صديق تدريس الحقوق، وكذلك زاول مهنة المحاماة بنجاح، بل وانتخب في عدة مواقع قيادية في الجمعيات الخاصة المهتمة بالحقوق المدنية.
من جانب آخر، انجذب صديق للسياسة، وخاض غمار العمل البلدي في صفوف حزب العمال، فانتخب عضوًا في المجلس البلدي لمنطقة وانزوورث بجنوب لندن عام 1994 ممثلاً حي توتينغ، واحتفظ بمقعده في المجلس حتى عام 2006. وعام 2005 دخل مجلس العموم لأول مرة بعد فوزه في الانتخابات عن دائرة توتينغ، واحتفظ بمقعده البرلماني عام 2010، ثم في الانتخابات الأخيرة خلال العام الحالي.
في أكتوبر 2008، بعد تعديل حكومي أجراه رئيس الوزراء حينذاك غوردن براون، عين صديق خان وزير دولة للجاليات والتجمعات المحلية، فبات ثاني مسلم يتولى الوزارة في بريطانيا.
وعام 2009 عين وزيرا للنقل ودخل مجلس الوزراء المصغّر. وهو اليوم، «وزير في حكومة الظل» العمالية لشؤون لندن. تمكن يوم 15 سبتمبر (أيلول) الماضي من حسم معركة ترشيح حزبه لمنصب العمدة حاصلاً على 48152 صوتًا، أي ما نسبته نحو 59 في المائة من الأصوات، متغلبًا على منافسته الأقوى الوزيرة السابقة تيسا جاويل التي حصلت على أكثر بقليل من 41 في المائة من الأصوات.
المرشح العمالي متزوج منذ عام 1994 وزوجته مسلمة اسمها سعدية، وهو أب لثلاثة أولاد.
* الأحزاب الأخرى
المعركة في لندن مفتوحة أمام عدة أحزاب ولا تقتصر بحال من الأحوال على المحافظين والعمال، ففي وسط الساحة الآيديولوجية هناك حزب الديمقراطيين الأحرار، الوسطي الليبرالي الذي ورث المبادئ الليبرالية من حزب الأحرار العريق. وفي يمينها هناك حزب «استقلال المملكة المتحدة» النازع للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والمناوئ بشدة للهجرة، وعلى يسارها يعد حزب «الخضر» البيئي إحدى أبرز قوى اليسار والقوى البيئية التي تتصادم أولوياتها مع التنمية السريعة وتخويل القطاع الخاص بكل شيء. أيضًا هناك جماعات هامشية متطرفة في اليمين واليسار، تجمعات مصلحية تدافع عن مطالب محلية أو آنية محددة، ولا ترضى بتذويبها أو تخفيفها في جدل سياسي عام يضيع بوصلتها ويضعف زخم الدفاع عنها.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.