يبقى التسويق حاجة للفنانين التشكيليين كي يكملوا مشوارهم، ولذلك يحاول كل منهم أن يقدم لجمهور الناس ما يلفت نظرهم ويشد انتباههم. ومع دخول التقنيات الحديثة والتكنولوجيا عالم التشكيل الذي صار يمتد إلى التجهيز والتصميم ويختلط بالتصوير، فإن المنافسة تزداد شراسة والانتقال من فن إلى آخر أو الخلط بين الفنون، أصبح قدرًا لا بد منه لكثيرين.
وفي «بيروت آرت فير» الذي أنهى دورته السادسة الأسبوع الماضي، لم يكن عصيًا على المراقب ملاحظة هذه التحولات التي تزداد حدة وفتنة في وقت واحد.
المصمم اللبناني جوزف كفوري، على سبيل المثال، الآتي من تصميم السيارات، لا يخفي أنه بسبب الأزمة الاقتصادية عاد إلى لبنان من باريس ليجد لنفسه مكانًا في مجال الهندسة الداخلية، ومنها انتقل إلى تصميم قطع فنية تصلح لتكون جزءًا من صالونات وفترينات عرض أنيقة. تركيز جوزف على عالم الإضاءة لم يمنعه من استعمال أدوات قديمة، منها خزان مياه صغير، مثلاً، ركب عليه مصابيح عتيقة، ليبدو تحفة مبتكرة وجذابة. ومن معدن جديد، وبخطوط شديدة الحداثة، صنع جوزف كفوري ريشة عملاقة مغمسة بالحبر ليركز في خلفيتها ضوءًا متطاولا يمكن إنارته باللمس والتحكم بقوة إشعاعه. وكذلك استوحى من الكاميرا الأولى بأرجلها الثلاث، ليصنع نوعًا آخر من المصابيح اللافتة التي لا تشبه تلك التجارية الموجودة في الأسواق. جوزف لا يرى حدودًا فاصلة بين تصميم السيارات أو أدوات الإضاءة، والتحف التي تستحق أن تعرض في صالون أنيق، أو حتى العمل اليدوي الذي يحتاج مهارات أصحابه لإنجاز تصاميمه.
الفنانون باتوا، يحاولون باستمرار التوفيق بين مزاجهم الشخصي ومتطلبات السوق، وهناك من يبذل جهدًا فنيًا كبيرًا ليجعل ابتكاراته جزءًا من حياة الناس، واحتياجاتهم اليومية.
كل فنان، يحاول أن يريك أن مبتكراته تجعلك تعيش أجواء مختلفة لا تشبه غيرها، وبالتالي يصير قادرًا على البيع والتسويق والمنافسة. الفنانة اللبنانية هانية فاريل انتقلت بتجهيزاتها في الفترة الأخيرة، بين شنغهاي ولندن وبيروت، ولها تجهيز هو عبارة عن حوض سباحة، وقد ترافقت صور أجساد الأطفال الذين يسبحون فيه، والمياه النقية مع صوت صيحاتهم وضحكاتهم التي ترن في المكان. فيديو ظريف جدًا لأطفال يقفزون في الماء، هو نتيجة عمل دؤوب، دام أربع ساعات، للحصول على أفضل اللقطات وعرضها مركبة وبوتيرة بطيئة تظهر مغناطيسية قفز هؤلاء الأطفال. مناخات طفولية بريئة مائلة دائمًا إلى الزرقة، عملت عليها مؤخرًا هانية المقيمة في لندن، وهي برسم البيع بالتأكيد. لكن هذا الصنف من الأعمال يمكن أن يسوق لصاحبه في مجالات كثيرة، قد لا تخطر على بال. فهانية من الفنانين الذين اختيروا لوضع بصماتهم، الفنية على الهاتف الجوال المصنوع يدويًا «فيرتو استر» الذي يتراوح سعره بين 10 آلاف و100 ألف دولار. هذه الشركة الإنجليزية سعت إلى جعل التصميم الفريد والعمل اليدوي، ميزتها. أحد الموظفين في معمل الشركة يشرح لنا أن كل شيء يركب يدويًا، وأن له نحو 29 زميلاً، يعمل كل منهم خلال ساعات لإنتاج جهاز واحد، له ميزته الجمالية الخاصة، بسبب مواده المعدنية ذات القيمة، وتصميمه الفني الذي لا يشبه غيره. وبالتالي صار الجوال حين يجمع بين ابتكار فني تشكيلي كالذي تقدمه هانية، وعمل يدوي حرفي، إضافة إلى القطع الإلكترونية التي يمكن شراؤها من أي مصنع، تجعل الهاتف المنتج يرتفع سعره أضعافًا مضاعفة.
يدرك الفنانون أن هذا التمفصل بين التكنولوجيا والفن صار بابًا جديدًا للرزق يمكن طرقه والإفادة منه، وهذا ما يعمل عليه كثيرون، منهم المصورة الموهوبة سيسيل بليزانس، صاحبة العدسة السحرية، التي تخصصت بتصوير عروض الأزياء. وقد صورت لكارل لاغرفيلد، ايف سان لوران، كريستيان لاكروا، كريستيان لوبوتان، وغيرهم آخرين كبار وأغرمت بتصوير لعبة باربي وأرادت أن تضخ فيها الحياة. وتركب سيسيل مستفيدة من تقنية تكنولوجية، الصورة فوق الأخرى، فتجعلك ترى سيدة منتقبة حين تنظر إلى عملها من جهة، لتعود وتراها وقد صارت باربي خلعت عنها نقابها وكشفت عن جزء من جسدها حين تراها من جهة أخرى. لا بد أن الموجة الإسلامية دفعت هذه الفنانة التي عرضت أعمالها في «بيروت آرت فير»، لتركب عملاً آخر، بحيث ترى امرأة محجبة بعباءة سوداء حين تقف يمين اللوحة لتعود وتراها مكشوفة الشعر بفستان ديكولتيه، حين تنظر إليها من يسار الإطار.
باتت الأبواب مشرعة بين الفنون، بحيث يختلط الرسم بالتصوير مع التجهيز، ولا بأس من الاستفادة من التقنيات الحديثة، لدمج عالم النسيج أيضًا. فقد استفادت راهيل غيراغوسيان، وهي حفيدة الرسام اللبناني الشهير بول غيراغوسيان، من لوحات جدها، وكذلك والدها الرسام المعروف إيمانويل غيراغوسيان، لتصنع نسيجًا صديقًا للبيئة، عليه رسوم للوحات الجد والأب معًا، وصنعت منها فساتين للمساء، تليق بسيدة، تنزع لارتداء ثوب لا يشبه غيره، إن لرمزيته البيئية أو مكانته الإبداعية التي تجمع ثلاثة فنانين في رداء واحد. وكان من اللطيف أن ترى مصمم الأزياء اللبناني العالمي، إيلي صعب يلتقط الصور إلى جانب أحد هذه الفساتين، معترفًا أنه هو الآخر في تصاميمه وألوانه تأثر بلوحات بول غيراغوسيان، كما حفيدته الشابة الصغيرة راهيل.
نحن إذن، أمام ظواهر عدة، يجمعها سقوط الحواجز بين المجالات الإبداعية، فنانة تشكيلة مثل هانية فاريل تعمل مع شركة هواتف جوالة، ومصورة فوتوغرافية لامعه في مجال الموضة والجمال، كما سيسيل بليزانس، ترى باربي، على طريتها الخاصة، وتنتج أعمالاً فريدة، بعد أن تركب الصور فوق بعضها ليصل سعر العمل، إلى آلاف الدولارات، ومصمم سيارات يصبح مصمم ديكورات داخلية. وإلى كل هؤلاء يمكنك أن تضيف تصاميم ورسومات هادي مكتبي التي نقشت على سجاد عجمي منسوج يدويًا من أفخر وأجود المواد الأولية كالحرير، لتعرض كما أي لوحة فنية باهرة، وقد سلطت عليها الأضواء، فبدت متعة للناظر.
الفن التشكيلي لم يعد مجرد رسم بالألوان على القماش، لقد صار شيئا آخر بعد أن تداخلت الابتكارات، وهو ما يزيد من بلبلة وفوضى السوق الفنية، وخاصة في المنطقة العربية التي صارت عواصف التجاريب، تأتيها من كل حدب وصوب، حتى قبل أن يرسّخ فنانوها هويتهم الخاصة والمحلية، كي يتمكنوا من تلقي الوافد بصلابة وشهية وقدرة على الهضم.
أعاصير التجاريب الفنية تعصف بالمنطقة العربية
أعاصير التجاريب الفنية تعصف بالمنطقة العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة