أسبوع ميلانو لربيع وصيف 2016.. ثقة في المستقبل وتبجيل للماضي

إذا كان هناك شيء يجب أن نفهمه من رسالة ميلانو لربيع وصيف 2016، فهو أن موجة «المينماليزم»، أي القليل كثير، التي سادت ساحة الموضة منذ التسعينات، قد بدأت تأفل وتتراجع لصالح «الماكسيماليزم»: الكثير قليل. وهو ما يمكن ترجمته في أزياء بألوان متوهجة ونقشات متضاربة وتطريزات غنية متعمدة لكي تثير العين وتجذبها، خصوصا في عصر الإنترنت والـ«إنستغرام»، الذي يتطلب ألوانا متوهجة، وفي الوقت نفسه تبرر أسعارها.
وميلانو ليست وحدها التي حققت السبق وسجلت أهدافا مهمة لهذا الموسم في مجالات الابتكار والحرفية، الأمر الذي سيضع باريس أمام تحد كبير هذا الأسبوع. فبعد اختتام ميلانو أسبوعها يوم الاثنين الماضي توجه متابعو الموضة إلى عاصمة الأناقة والنور، باعتبارها آخر محطة لهم، قبل العودة إلى ديارهم وإلى حياتهم الطبيعية محملين بذكريات وصور رائعة لن تمحى بسهولة. فعروض أزياء ربيع وصيف 2016 في كل العواصم لحد الآن أكدت أنها اكتسبت إيقاعات جديدة، بعد أن شهدت ركودا في المواسم الأخيرة. هذا الركود كلف أسبوع نيويورك أكبر ممول له، وهو «مرسيدس بنز»، بعد نحو عشر سنوات من الدعم، بينما ظهر في أسبوع لندن من خلال تغير في الأولويات، حيث شهد تراجعا ملموسا في نسبة الابتكار لصالح التسويق التجاري. أما ميلانو فكانت تهمتها هي إصابتها بالهرم، بسبب أن أغلب مصمميها من كبار السن ممن لا ينوون التقاعد وتسليم المشعل لصغار السن، فجيورجيو أرماني يبلغ من العمر 81 عاما، ودوناتيلا فيرساتشي 60 عاما، وميوتشا برادا 66 عاما، وروبرتو كافالي 74 عاما، علما بأن هذا الأخير سلم هذا العام مقاليد داره لبيتر دانداس.
بيد أن الملاحظ طوال الأسابيع الأخيرة أن ديناميكية هذه العواصم تغيرت، وكأن دما جديدا بدأ يسري في شرايينها. فنيويورك شهدت مشاركة عالية من المصممين الشباب المتحمسين لكل ما هو فني، ولندن استعادت روحها القديمة وساعدتها فورة الشباب على التركيز على الابتكار أكثر، كذلك ميلانو، التي يبدو أن كبارها تعلموا من باريس أسرار اللعبة. فباريس ظلت العاصمة التي لم تتأثر بأي تغيرات سلبية، ونجحت في اجتياز كل المطبات على بساط من حرير، ساعدتها عليه سمعتها الطويلة من جهة وتوفرها على إمكانيات هائلة، فنية ومادية، من جهة ثانية.
ما تعلمته ميلانو هو أن الدراما لا يجب أن تقتصر على الأزياء وحدها مهما كانت حرفيتها وجمالياتها، بل يجب أن تشمل العرض ككل، من طريقة إخراجه إلى موسيقاه وديكوراته وهلم جرا، أو هكذا بدا في عرض «دولتشي آند غابانا» مثلا. فالثنائي دومينيكو وستيفانو لم يعتمدا على الأزياء فحسب لخلق ردود فعل إيجابية وتأثير قوي يترك صدى لمدى طويل، بل أيضا على الديكور والإخراج في صورة تذكرنا بـ«سوبر ماركت» كارل لاغرفيلد لدار «شانيل» أو ثورته النسائية في شارع «غامبون». فقد صمما مسرح عرضهما على شكل قرية سياحية إيطالية، تتوفر على كل ما يخطر على البال وتهفو له نفس السائح، من قوارب إلى بائعي بوظة وأكشاك ورود، وأشجار باسقة يتدلى منها الليمون والبرتقال. بينما رسما على الفساتين كل ما هو إيطالي، مثل برج بيزا المائل، وكاتدرائية فلورنسا، لتأخذ أشكال بطاقات حب بريدية من إيطاليا إلى كل العالم. فقد كُتب على بعضها، مثلا «تحيات من نابولي» وعلى أخرى «قبلات من روما» وهكذا.
ليس هذا فقط، بل حتى العارضات أنيطت بهن أدوار مسرحية قمن بها على أحسن وجه، حيث ظهرن فيها وكأنهن سائحات مبهورات بما حولهن، لا يُفوتن فرصة التقاط صور «سيلفي» بهواتفهن لتسجيل المناسبة وجمال المكان. كان كل ما في العرض متوهجا بالألوان الغنية والتطريزات السخية والموسيقى، فيما أصبح أسلوبا لصيقا بـ«دولتشي آند غابانا» في الآونة الأخيرة، إلى حد القول إنهما لعبا دورا مهما في إنعاش موجة «الماكسيماليزم» الجديدة. فقد اختلطت باقات الورود المطرزة في الفستان الواحد وأخذت أشكال بابونغ أو خشب خشخاش أو أقحوان، فضلا عن الليمون أو سيراميك صقلية وغيرها. اللافت أن التطريزات لم تقتصر على الفساتين الطويلة بل حتى على تايورات مفصلة من المفترض أن تكون للنهار، فضلا عن الإكسسوارات من النظارات الشمسية إلى الأحذية وحقائب اليد والأوشحة والمجوهرات.
ويلاحظ أنه منذ أن أغلق الثنائي خطهما الأصغر «دي باي دولتشي آند غابانا» واستبدلا به ما أصبح يُعرف بـ«ألتا موضة»، الذي يحاكي الـ«هوت كوتير»، وهما يتحفاننا بتقاليد إيطالية قديمة في صنع الأزياء، يضخان فيها الحياة لكي يجعلاها ترقص على نغمات عصرية بإيقاعات إيطالية. واللافت هذه المرة أنهما خرجا من أجواء صقلية التي كانا يعودان إليها دائما في السابق، وتوسعا إلى مناطق جذب أخرى لا تقل جمالا مثل بورتوفينو وسريدينا وروما وغيرها. ورغم أن أسلوبهما هذا أصبح متوقعا ورأيناه يتكرر أمام أعيننا بشكل أو بآخر في المواسم الأخيرة، فإنه في كل مرة ينجح في إثارة الإعجاب بجرأته.
تشكيلة جيورجيو أرماني أيضا جسدت بعض الورود، ظهرت على شكل زنابق مائية تبدو طافية على ما يشبه بحيرة توسطت منصة العرض. ومع ذلك، لم تكن هذه الزنابق هي اللافتة، بقدر ما كان اللون الأحمر، الذي ظهر في العديد من الفساتين والقبعات المصنوعة من القش. المصمم هنا يحتفل بأنوثة من نوع جديد مفعمة بالقوة والسلطة في الوقت ذاته. هذه القوة الأنثوية ظهرت في بنطلونات خفيفة من الأورغانزا كما في قفاطين منسدلة من الموسلين تستحضر أجواء مدينة مراكش بالمغرب، وجاكيتات قصيرة بلمسة «سبور» عوض تلك التي عودنا عليها بكتافيات صارمة. ظهرت أيضا في معاطف مفصلة نسقها مع فساتين أو «شورتات» أغلبها مرشوشة بالأحمر في جزئية أو جانب من جوانبها. الغرابة في استعمال الأحمر أنه ليس لونا ارتبط بأرماني، إذ لم يلعب دورا رئيسيا في تشكيلاته سابقا، مما يجعلنا نفكر بأنه استعمله لرسالة يريدنا أن نقرأ من خلالها أنه رغم بلوغه 81 عاما من العمر فإنه لا يزال في جعبته الكثير، وأن شعلة الحياة والعطاء بداخله لا تزال متأججة، لا سيما أنه يحتفل هذا العام بمرور 40 عاما على إطلاق داره، وبينما أخذت الاحتفالات أشكالا متنوعة منذ بداية العام إلى الآن، فإنه اختار هذا الموسم أن يرتقي بأسلوبه تزامنا مع إطلاقه كتابا يتناول مسيرته وإنجازاته.
لا يمكن الحديث عن أسبوع ميلانو من دون الحديث عن عرض «غوتشي» ومصممها الجديد أليساندرو ميشال. للوهلة الأولى تظهر الأزياء «دقة قديمة» بألوان غير متناغمة وأطوال غريبة وقصات لا تناسب الكل، لكن سرعان ما تزول هذه الصورة ليحل محلها الإعجاب بقدرته على التحايل على القديم وجعله حداثيا، بل وجريئا في عصريته. فالعين تتعود عليه بسرعة لترى جمالياته بتنسيقها بشكل خاص ومختلف. عام واحد هو الوقت الذي تطلبته عملية التغيير والإنعاش من أليساندرو ميشال، إلى حد أنه جعل عرض «غوتشي» الآن من أهم العروض، خصوصا أن منه تولد موجات موضة وتوجهات جديدة تلتقطها محلات الموضة العالمية وتبيعها لنا بأسعار معقولة، وليس أدل على هذا من موضة السبعينات التي عمت هذا الموسم، من النقشات المتضاربة إلى القمصان المعقودة بفيونكات، وتابعنا ولادتها في عرضه في الموسم الماضي. ما قام به المصمم الشاب أنه محا صورة امرأة «غوتشي» الثرية المفعمة بالإثارة ورسم بدلها صورة امرأة عاملة لا تحاول أن تبدو أنثوية على الإطلاق بل تتعمد العكس بالتمويه عن الجمال كما هو متعارف عليه، والمثير في الأمر أنها برفضها هذا وعدم مبالاتها، تكتسب الكثير من الأنوثة والجمال.
النتيجة التي تستخلصها من كل الصور المتوالية على الإنترنت وشبكات الأخبار أيضا، أن معظم عروض ميلانو، من «دولتشي آند غابانا» إلى «برادا» مرورا بـ«جيورجيو أرماني» و«سالفاتوري فيرغامو» و«مارني» وغيرها، حملت هذه المرة بين ثناياها لفتة لفترة الأربعينات من القرن الماضي سواء في المعاطف أو التايورات أو الفساتين. تظهر هذه اللفتة تحديدا في لمسات رومانسية معززة بثقة عالية وروح متفائلة. فميلانو تريد أن تقول للعالم إن الماضي بحرفيته ركيزتها لبناء المستقبل، وإن هذه الحقبة جزء لا يتجزأ من عملية الإبداعية التي تشهدها بيوت أزياء إيطاليا حاليا. ففي الأربعينات ولدت بذرة عدة صناعات جعلت إيطاليا رائدة مثل صناعة السيارات والموضة وكل المجالات الفنية المتعلقة بالتصميم، وهذا في حد ذاته يستحق الاحتفال بالورود والألوان المتفتحة.