على عكس الأعمال المنقولة من اللغات الأجنبية إلى العربية

الأدب العربي بعد ترجمته.. جهد ضائع في سوق القراءة الأجنبية

د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة  إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية
د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية
TT

على عكس الأعمال المنقولة من اللغات الأجنبية إلى العربية

د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة  إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية
د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية

طموح مشروع أن يرى الأديب أعماله وقد ترجمت إلى اللغات الأجنبية، بل إن قصور الترجمة في الوطن العربي إلى اللغات الأخرى، يدفع بكثير من الأدباء لأن يترجموا أعمالهم على حسابهم أملاً في أن تصل أفكارهم إلى العالم. ولكن الذي يحدث على أرض الواقع، أن هذه الجهود الفردية المكلفة والمضنية غالبًا ما تذهب عبثًا، فلا نجد صدى جماهيريًا للأعمال العربية المترجمة، بعكس الأعمال الأجنبية التي تترجم إلى العربية ونجد لها رواجًا كبيرًا في سوق الكتب. وأيضًا فإن الأدباء العرب الذين كتبوا أعمالهم بلغات أجنبية حققوا حظوة جيدة لدى الغرب وبعضهم حصل على جوائز عالمية.
هذه التساؤلات حملتها إلى عدد من الأكاديميين والنقاد والمتخصصين في الترجمة، لنقف على حقيقة الأسباب المؤدية إلى هذا الفشل.. إن صحت قسوة التعبير.
الدكتور مصطفى الضبع، ناقد وأكاديمي من مصر، يرى أن هذا السؤال يكتسب أهميته من وقوفه على واحدة من أهم القضايا التي لم تطرح من قبل: «تلك القضايا الكاشفة عن كثير من الأسئلة غير المطروحة التي من شأنها أن تفيد من الوعي النقدي». ويضيف: «تتسع مساحة الإجابة عن السؤال لتشمل عددا من الدوائر ذات التأثير، تلك التي لا يمكن حصرها في دائرة واحدة، ويكون من الصعوبة بمكان أن نقصرها على عامل واحد»، ويفصل الدكتور مصطفى الضبع الأمر بقوله: يمكن بلورة هذه الدوائر فيما يلي:
1- النقد، حيث تفتقد الساحة العربية لحركة نقدية منظمة تقوم عليها مؤسسة علمية (غابت الجامعات والأكاديميات المتخصصة)، وهي حركة من شأنها تفعيل الدائرة الثلاثية: إبداع (ينتج)، نقد (يصطفي من المنتج)، ترجمة (تختار من المصطفى).
2- الجوائز: الجوائز العربية والمسابقات الإبداعية في جانب كبير منها تفتقد مصداقيتها حين تختار أعمالا على أسس سياسية أحيانا وتقوم آلياتها على اختيار أعمال ضعيفة المستوى (يمكن التدليل على ذلك بأعمال متعددة فازت بجوائز لا تستحقها) لذا أرى أنه من الأنسب توسيع لجان التحكيم لتضم نموذجا للقارئ العادي الذي يغيب دون مبرر، فلجان التحكيم حتى الآن تقتصر على نوع واحد فقط (النقاد) دون غيرهم.
3- الإعلام (عامة) والصحافة الأدبية (خاصة): تتعدد دور النشر في كل بلد عربي وتصدر المطابع أعمالا يوميا تقريبا وفي المقابل يغيب دور الصحافة الأدبية في كثير من بلدان الوطن العربي، ولم تستطع الصحافة الأدبية (في الغالب) أن تقدم أو تسهم في تقديم مشروع نقدي يعمل على تقديم الخارطة الإبداعية ويقول: «شخصيا تقدمت بأربعة مشروعات نقدية لأربع دوريات، فقط - مشكورة - تبنت مجلة البيان الصادرة عن رابطة أدباء الكويت المشروع المقدم لها وتقاعست الدوريات الأخرى».
4- الترجمة: المترجم المستقل يعتمد على الترجمة للعربية وليس منها، إذن هو لا يوظف معرفته بثقافته في انتقاء أعمال يدرك قيمتها في بيئته، والترجمة في الغالب يغلب عليها طابع العلاقات الشخصية، لقد تركنا المترجم الغربي يترجم النص العربي وفق معاييره هو، وفق معايير شعبية النص وجودته في بيئته العربية، والمؤسسات المعنية بالترجمة تعمل في الغالب من ناحية واحدة.. نقل المترجم للعربية وليس منها.
5- المؤسسة الثقافية: وأعني بها اتحادات الكتاب أولا ثم اتحاد كتاب العرب ثانيا الذي لا يعمل على تقديم مشروع يستهدف خدمة الإبداع العربي، ثم الناشر ثالثا الذي ينحصر دوره في النشر دون العناية بما يسمى خدمة ما بعد النشر والتوزيع كما أن بعض دور النشر تسهم في تفشي ظاهرة مزيفة أعني ظاهرة البيست سيلر (best seller).
6- المؤسسة السياسية / الثقافية العربية خارج الحدود: السؤال الذي يطرح نفسه عن دور الملحقيات الثقافية ومراكز الثقافة العربية في الخارج والتي لم تتضافر جهودها أو تجتمع أفكارها في مشروع يعمل على تقديم الثقافة العربية بوصفها كيانًا واحدًا لا كيانات منفصلة.
7- المبدع: (أحيانا) يعمد بعض الكتاب إلى الكتابة وفق شروط الترجمة وهو ما يجعل أعمالهم مقيدة بشروط لا تخص الفن بقدر ما تخص الموضوع الذي يتماشى مع آيديولوجية المترجم.
ويختتم الدكتور مصطفى الضبع تحليله بالقول: «هذه العوامل جميعها تفضي إلى ظاهرة ضعف مستوى الأعمال المترجمة ومن ثم عدم رواجها جماهيريا في الغرب».

أعمال باهتة وسماسرة أجانب

أما الدكتور عبد السلام المساوي الأكاديمي والناقد من المغرب، فيعتقد بأن الأسباب التي تجعل الأعمال الأدبية العربية المترجمة هامشية لدى القارئ الأجنبي هي أن الموضوعات المطروقة في هذه الأعمال، وخصوصا الروائية منها، لا تثير فضول هذا القارئ الباحث دائما عن الطرافة والغرابة والشذوذ. وكثير من هذه الموضوعات لن تمررها الرقابة العربية ولن تسمح بذلك آلياتها الدينية والاجتماعية والسياسية. ومن ذلك أيضا، يتابع الدكتور عبد السلام المساوي، أن معظم الأعمال التي تحظى بالترجمة هي أعمال باهتة، وُجِدَ أصحابها في مؤسسات أو مواقع سلط ثقافية، أو لهم سماسرة في هذا البلد الأجنبي أو ذاك.ويرى بأن هذا سلوك مفضوح أصبحنا نعيشه في أقطارنا العربية، وله انعكاسات سلبية جدا على مكانة الأدب العربي المعاصر لدى القارئ الأجنبي التواق إلى الاطلاع على النماذج المشرقة منه، علاوة على تفويت الفرص وإقصاء أعمال كان حريًا أن تنقل إلى اللغات الأجنبية لقيمتها الفكرية والجمالية الرفيعة. وأستطيع أن أذكر لك أسماء كثيرة لنساء ورجال ما إن أصدروا عملهم الأول أو الثاني حتى طوَّقوه بالمترجمين من اليمين ومن اليسار ومن فوق ومن تحت!!
ويضيف الدكتور المساوي: «بالأمس القريب كنا نفرح ونحن نقرأ عن بعض الأعمال التي حققت مكانتها الأدبية عربيا وبعدها انتقلت إلى اللغات الأخرى دون أن يسعى أصحابها إلى ذلك، والأمثلة كثيرة: الطيب صالح، وطه حسين، ونجيب محفوظ، ومحمد شكري، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وأدونيس... واللائحة طويلة. إذن، فالأدب العربي المعاصر لا يفتقد إلى النماذج الباهرة التي تستحق أن تترجم وتنتقل إلى القارئ الأجنبي بعيدا عن مشوشات الفساد الثقافي.. واليوم صرنا نتوجس من وجود ميلشيات للترجمة ومحتكريها.

ترجمة المحسوبيات لا الكفاءات

الأكاديمي الناقد الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان من الكويت يحلل الظاهرة بقوله:
لعل هناك عدة عوامل مجتمعة تسهم في عدم رواج الإبداعات العربية المترجمة إلى لغات أخرى، أولها خصوصية اللغة العربية وجمالها، فإذا ترجمت فقدت الكثير من رونقها وجمالها، فالنص الذي يعجبنا باللغة العربية قد لا يعجبنا إذا نقل إلى لغة أخرى، يضاف إلى ذلك حداثة عهدنا قياسا إلى الأمم الأخرى في الفنون السردية، ويضيف الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان: «نحن نتلقف الإبداعات العالمية المتميزة ونترجمها إلى لغتنا وإعجابنا بها نابع من تميزها بتكنيك السرد لا بجمال لغتها، وكثير من الإبداعات العربية التي ترجمت إلى لغات أخرى لم تترجم لتفردها وتفوقها وإنما المجاملات والمحسوبية لهما تأثيرهما في مجتمعاتنا العربية مما يدفع بأعمال دون المستوى للترجمة إلى لغات أجنبية أخرى وإعطاء صورة سلبية للإبداعات العربية. أما إذا كتب مبدع عربي بلغة أخرى فإنه من المؤكد متمكن من هذه اللغة، ولم يكتب إلا لكونه متميزا في مجاله لذلك تلقى كتبه الرواج والاهتمام. أما الشعر العربي فسحره في تراكيبه اللغوية وإذا ما ترجم فقد معظم ما يميزه وانتفت عبقريته.

التمييز بين ثلاثة أنواع

الدكتور جمال الجزيري متخصص في الترجمة وله كثير من الأعمال الصادرة بهذا الشأن يميز بين ثلاثة أنواع من الأعمال الأدبية العربية التي تتم ترجمتها إلى اللغات الأجنبية: الأعمال التي تترجم بسبب موضوعاتها، والأعمال التي تترجم بسبب جودتها الفنية، والأعمال التي تترجم بسبب المجاملة أو الشللية.
ويقول: بالنسبة للأعمال التي تترجم بسبب موضوعاتها، فهي تلقى رواجا لدى فئة معينة من القراء الغربيين، مثل أعمال علاء الأسواني وأعمال نوال السعداوي. وأظن أن سبب رواجها هو كسرها للتابوهات العربية وتمثُّلها لرؤية العالَم لدى الجمهور الغربي. وهذا هو الاتجاه السائد في الترجمة إلى اللغات الأجنبية، فتتم ترجمة الأعمال التي تتمثّل النموذجَ الغربي في النظر للحياة، وهذا يندرج من وجهة نظري تحت العولمة الثقافية بمنظورها الغربي.
أما الأعمال التي تترجم بسبب جودتها، حسبما يقول الدكتور جمال الجزيري، فلها جمهورها، ولكنه جمهور قليل بالمقارنة بالفئة الأولى. ويحتاج انتشارها لدى القارئ الغربي إلى وقت طويل. أما الأعمال التي تترجم بسبب الشللية أو المجاملة، فانتشارها محدود بالطبع في نطاق المكتبات المشتركة في إصدارات دار النشر.
ويعود الدكتور الجزيري إلى الأسئلة الرئيسية، فيقول: تروج لدينا الأعمال الغربية المترجمة للعربية لسبب رئيسي، وهو أنها تقدم شيئا ليس موجودا بكثرة في أدبنا العربي: وهذا الغياب النسبي يرجع لسببين: أولا، بعض الأعمال الغربية بها عمق إنساني كبير مفتقد لدينا، فليست مجرد شعر أو حكي، وإنما تقدم تجربة إنسانية عميقة لكتّاب يعيشون في عمق الحياة ويستطيعون أن يجسدوا عمق الصراعات والتطلعات الإنسانية. وثانيا، عنصر التشويق غالب على كثير من الأعمال الغربية المترجمة حتى لو لم يكن بها عمق إنساني.
ويعتقد أن عدم انتشار الأدب العربي في العالم الغربي، فالأمر يرجع في الأساس إلى عدم وجود مؤسسات ترجمة عربية أو أجنبية تهتم بتقديم الأدب العربي بصورة شاملة للقارئ الغربي. فمعظم جهود الترجمة جهود فردية يقوم بها مترجمون أجانب أو عرب لهم علاقة بدور نشر أجنبية ويستطيعون أن يقنعوها بنشر ترجمة هذا العمل أو ذاك، أو مؤسسات قليلة مثل الجامعة الأميركية في القاهرة، وترجماتها تكون انتقائية في الغالب ووفقًا لمعايير خاصة لا تبتغي تقديم صورة حقيقة للأدب العربي، وإنما تنتقي بعض الأعمال التي تخدم أهدافها. «وأنا شخصيا أنظر إلى مثل هذه المؤسسات - على الرغم من الخدمات العلمية الجيدة التي تقدمها - على أنها ذراع للاستعمار بشكل غير مباشر». ويرى أن هناك سببا أساسيا آخر يتعلق بالأدب العربي ذاته، وهو عدم وجود مشروع أدبي عربي إنساني، بمعنى أن الكثيرين من الكتاب العرب - مثلهم مثل المواطنين العرب - لا يعرفون معنى الحياة، ويعيشون على حافتها أو سطحها ويتهيبون الولوج أو الغوص فيها، وبالتالي تأتي كتاباتهم عبارة عن قشور لا تهم أحدا إنسانيا في كثير من الأحيان.

نقد وتقييم وجوائز

الدكتور فيصل الحولي أكاديمي وناقد من الأردن يقول:
إن جلّ ما حركته أسئلتك يدخل ضمن ما يطلق عليه (عالمية الأدب) وهو مصطلح ينص على ارتقاء نص أدبي ما إلى مستوى الاعتراف العالمي لعظمته وفائدته خارج حدود لغته ومنطقته والإقبال على ترجمته ودراسته. ويقول الدكتور فيصل الحولي: «إن العمل الأدبي لا يدخل دائرة العالمية بمجرد توافر مواصفات إبداعية فيه وإنما لا بد له من توافر مجموعة من العوامل منها وسائل الاتصال الثقافي من ترجمة ونقد وتقييم وجوائز وطنية وعالمية. وعليه فإنه من الضروري أن تتوافر شروط في العمل الأدبي ليصل إلى مستوى العالمية منها: عامل فني يتمثل في جودة العمل الأدبي من الناحية الفنية والمضمونية ويترتب على ذلك أن يكون النص إبداعيًا وراقيًا» ومنها، كما يقول الدكتور الحولي، «عامل توسيطي ويتمثل في كيفية توصيل تلك الأعمال إلى العالم عبر قنوات التواصل ترجمة ونشر»، وهنا يتساءل الدكتور الحولي: هل الترجمة التي نقل بها الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية هي ترجمة ذات نوعية متطورة، وهل حظي الأدب العربي باهتمام دور النشر الكبيرة في العالم؟ أما العامل الثالث باعتقاد الدكتور الحولي فهو التلقي النقدي المتمثل في النشاطات النقدية والتفسيرية التي تدور حول العمل الأدبي في الثقافة الأجنبية.

تجربة حقيقية

الدكتورة رشا غانم مُدرسة النقد الأدبي بالجامعة الأميركية في مصر، فتخبرني بأحداث واقعية جرت معها فتقول: «أتحدث إليك عن تجربة حقيقة لي أثناء تدريسي لكورس النقد لمجموعة من الباحثين الأجانب في الجامعة الأميركية بالقاهرة 2009م لاحظت أن أغلبهم قد حصل على الماستر في التراث العربي فقال لي أحدهم وهو الآن بروفسور في جامعة أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأميركية واسمه توماس هافتر إنه حصل على الماستر في الجاحظ، وهو من الأدباء العرب القدامى المشهورين من أشهر كتبه (البخلاء) و(البيان والتبيين) ت:255هـ 868م وأخذ يسرد لي كيف التعامل مع كتب التراث في البداية كان يمثل له صعوبة كبيرة فقلت له لماذا اختارت التعامل مع كتب التراث في فترة مبكرة من حياتك قال لي: (لأن الكتب التي تم تأليفها قديما أطمئن إليها ففيها ثقافة عربية خالصة ونحن عندما ندرس هنا نذهب إلى جامعتنا لنلتحق بكرسي الشرق الأوسط، وهو المكان المخصص لكل الدراسات الشرق أوسطية)، وهذا يدل على أن أغلب التراجم الحديثة المترجمة من العربية للأجنبية لا تحقق حضورا لديهم على عكس الترجمات الأجنبية التي تحدثت عن العرب وحضارتهم تلقى قبولا في القراءة عندهم، أما بالنسبة للقارئ العربي فإن المترجم من الأجنبية للعربية يلقى حضورا لديه من وجهة نظري لأننا قانعون أن مستوى ما يقدم لدينا من بلاد الغرب هو الأكثر وعيا وفكرًا».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.