شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

المصريون يتساءلون: هل ينجح حامل «الحقيبة القابلة للاشتعال» في إنقاذ الحكومة؟

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}
TT

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

فوجئ البعض بإسناد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئاسة الحكومة إلى المهندس شريف إسماعيل، وزير البترول في حكومة إبراهيم محلب المستقيلة. غير أن راصدي الأوضاع في مصر، والعارفين بالمنجزات التي حقّقها إسماعيل إبان توليه منصبه الوزاري يرون أنه الرجل الإداري والتكنوقراطي المؤهل للاضطلاع بمسؤوليات هذا المنصب الحساس، كونه رجل أفعال أكثر منه رجل أقوال. ولقد اكتشف الرئيس السيسي فيه هذه المزايا منذ كانا معًا وزيرين في حكومة الدكتور حازم الببلاوي بين 9 يوليو (تموز) 2013 و24 فبراير (شباط) 2014.
«كثيرون لا يعلمون من هو شريف إسماعيل.. لكنه رجل دؤوب وقليل الكلام، يركز جدًا في عمله، وحلوله سريعة ولا ينتظر إلى أن تتفاقم المشكلات داخل الدولة».. هكذا لخص الدكتور عبد الله المغازي، معاون رئيس الوزراء المصري السابق إبراهيم محلب، في جملة واحدة معضلة مصر كلها في اختيار رئيس الحكومة الجديد؛ سواءً من حيث الدهشة التي قابل بها الشارع طرح اسم إسماعيل، أو ما بدا من إصرار إدارة الدولة على اختياره للمنصب التنفيذي الأول في مصر.
جملة المغازي جاءت في إطار تعليقه على اختيار المهندس شريف إسماعيل ليخلف محلب رئيسا جديدا للحكومة الأسبوع الماضي. ورغم أن إسماعيل أحد أقدم أعضاء الحكومات الثلاث التي جاءت بعد ثورة 30 يونيو (حزيران)، محافظًا على منصبه الوزاري في ظل وزارة الدكتور حازم الببلاوي، ثم وزارتي المهندس محلب، فإنه يظل في رأي عامة الشعب «الرجل الغامض»، نظرا لندرة ظهوره الإعلامي أو إدلائه بتصريحات، أو حتى وجود سيرة ذاتية موسعة عنه.

* الحقيبة الوزارية «القابلة للاشتعال»
في الوقت ذاته، يسجل لإسماعيل أنه حافظ على حقيبته البترولية «القابلة للاشتعال»، بحسب خبراء اقتصاد ومراقبين سياسيين، ببراعة فائقة ومن دون خسائر.. وذلك في ظل ما عانته مصر منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 من أزمات خانقة في الوقود، ونجاحه في عقد اتفاقيات عدة لضخ مزيد من الوقود إلى السوق، إضافة إلى خطة محكمة لتوزيع ما أسهمت به حكومات الخليج العربي من مساعدات بترولية، جعلت من الأزمة السابقة شيئا من الماضي. كذلك ظهر أيضا نجاح إسماعيل في الإسهام بقوة في حل أزمة «انقطاع الكهرباء» التي شهدتها الدولة في العام قبل الماضي، عن طريق توفير المواد البترولية اللازمة لتشغيل محطات توليد الطاقة بصورة منتظمة، مما أدى إلى انتهاء الأزمة تمامًا على مدار العام الماضي.
كل ذلك فعله إسماعيل في الظل من دون «ضجيج»، وربما لم يظهر إعلاميا سوى من خلال إطلالة أو اثنتين خلال العامين الماضيين، حتى إنه نادرًا ما يرد على هاتفه الشخصي؛ لأنه «رجل لا يحب الأضواء، ولا يسعى لها»، بحسب مقربين منه. لكن نجم إسماعيل سطع بقوة خلال الشهر الماضي مع إعلان شركة «إيني» الإيطالية عن الكشف الأكبر من نوعه للغاز الطبيعي، ليس في مصر وحدها ولكن في إقليم البحر المتوسط قاطبة، الذي توقع خبراء الاقتصاد أن من شأنه أن يغير وجه مصر خلال الأعوام المقبلة.

* نجاحات بلا ضجيج
مصدر حكومي قال لـ«الشرق الأوسط» أمس: «لم ينجح شريف إسماعيل فقط في الإسهام بشكل كبير في إنقاذ الدولة من أزمتي الوقود والكهرباء، والكشف العملاق، بل نجح على المستوى الاستراتيجي في ما هو أبعد من ذلك، أي بإسهامه في توفير الثقة في رسوخ الدولة لدى المستثمر الأجنبي.. فأي مستثمر يفكر في العمل في مصر سينظر إلى كل هذه الأشياء جيدا، وتشجعه بقوة على القدوم لأن غيابها يعني غياب أي مناخ جاذب».
وتابع المصدر الحكومي: «لكل هذه الأسباب وقع اختيار الرئيس على إسماعيل لتشكيل الحكومة.. فهو رجل منضبط ومحنك في عمله، يؤدي دوره بصمت، ولديه رؤية واضحة»، ثم أردف: «لا ننسى أن الرئيس السيسي كان عضوًا في حكومة الدكتور الببلاوي وزيرا للدفاع ونائبا أول لرئيس الوزراء.. أي إنه يعرف تمامًا مؤهلات المهندس شريف إسماعيل وزامله طويلاً، مما يتيح له أن يحكم عليه بوصفه شخصية ناجحة وذات كفاءة عالية بصورة كبيرة».

* الدراسة والمناصب
وعن مسيرته الوظيفية، فقد تخرج إسماعيل في كلية الهندسة بجامعة عين شمس عام 1978، ليعمل بعدها في مجال البحث والاستكشاف البترولي. وتدرّج في عدة مناصب أهمها مدير عام الشؤون الفنية بشركة «إنبي»، إحدى أهم الشركات في مجال الطاقة بمصر. ثم عمل وكيلاً لوزارة البترول لشؤون عمليات البترول والغاز بين عامي 2000 و2005، قبل أن يتولى رئاسة مجلس إدارة الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيغاس) لمدة قاربت العامين، ثم رئاسة مجلس إدارة شركة جنوب الوادي القابضة للبترول حتى عام 2013. وبعدها عين وزيرًا للبترول في منصف شهر يوليو 2013، واستمر في موقعه حتى اختياره رئيسا للوزراء في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) الحالي.
يأتي قبول إسماعيل المهمة التي وصفها سياسيون مصريون بـ«الشاقة»، في وقت ربما كان كثيرون يفضلون التنصل منها والبعد عنها، لأنها حكومة حُكم عليها أن تكون «مؤقتة» بحكم الدستور الذي ينصّ على حق كتلة الأغلبية البرلمانية في تشكيل الحكومة فور عقد جلسات البرلمان المقبل، التي من المتوقع أن تبدأ مطلع العام المقبل.
إلا أن إسماعيل قبل المهمة، رغم ذلك، من دون النظر إلى «محدوديتها الزمنية». ويؤكد المقربون منه لـ«الشرق الأوسط» أنه «رجل وطني ولا يمكن أن يتخلّى عن تكليف، بل غالبا قد ينجح في حيازة ثقة البرلمان المقبل للاستمرار في موقعه حال نجاحه في مهمته».
أيضًا قبل إسماعيل ترؤس الوزارة في وقت حرج؛ إذ إن مصر مقبلة على الانتهاء من خارطة الطريق في خطوتها الأخيرة المتمثلة في الانتخابات البرلمانية، وهي الانتخابات التي كثيرًا ما شهدت مصر خلالها في العقود الماضية صراعات واشتباكات بين المرشحين وداعميهم، خاصة في المناطق القبلية؛ إلى جانب اتهامات الخاسرين للدولة بالتلاعب في النتائج. ويضاف إلى ذلك، بالطبع، مسؤولية الحكومة المصرية عن تحقيق خطط النمو الاقتصادي الذي تعثر طويلاً، وعملها في مجال مكافحة العنف والإرهاب الذي تتبناه جماعات عدة على رأسها الإخوان عقب الإطاحة بهم من حكم مصر.

* تحدي الأداء الخدماتي
ويرى المراقبون أن مشكلة حكومة رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب كان يكمن أغلبها في ضعف أداء الوزارات الخدمية، مثل الصحة والتعليم والتعليم العالي والنقل والاتصالات والثقافة، التي واجهت انتقادات حادة ومستمرة خلال أكثر من عام، ولذلك كانت هذه الحقائب ضمن أبرز التغييرات التي شهدتها الحكومة الجديدة. ويشير هؤلاء إلى أن نجاح إسماعيل في حلحلة ملفات هذه الوزارات وتحقيق نجاحات ملموسة للشارع المصري فيها، سيسفر حتما عن إنجاز جديد يضاف إلى رصيد رئيس الوزراء الجديد.
الاختيارات الوزارية لإسماعيل قد تكون شهدت بدورها بعض الجدل المبكر، وربما قبل أن يدخل الوزراء إلى مكاتبهم لمباشرة أعمالهم. ومن انتقادات جادة لأخطاء وزير التعليم اللغوية، وأخرى مثيرة للسخرية حول فستان قصير الأكمام لإحدى الوزيرات الجديدات، طال النقد اختيار وزيرين سابقين هما أحمد زكي بدر للتنمية المحلية (آخر وزراء التعليم في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك) وهشام زعزوع للسياحة (تولّى الحقيبة في حكومة هشام قنديل إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان).. لكن بعض المراقبين رأوا في ذلك «دلالة سياسية إيجابية للغاية، حتى وإن كانت غير مقصودة بصورة مباشرة.. مفادها أن الدولة المصرية لا تنظر إلى الوزراء السابقين على أنهم متورّطون في نظم فتحكم عليهم بالإعدام السياسي مدى الحياة، بقدر ما تنظر إلى الكفاءة والأداء والسيرة الوظيفية ما لم يكونوا متورطين جنائيًا أو إداريا في فساد.
وجاءت التكليفات الأولى من الرئيس السيسي لإسماعيل متماشية مع رؤية الخبراء لمتطلبات وأولويات المرحلة المقبلة. فقد أكد الرئيس، بحسب بيان رسمي عقب الاجتماع الأول مع رئيس الحكومة، أن «الدولة تولي أهمية كبيرة لضبط الأسعار، والوفاء باحتياجات المواطن المصري، لا سيما الفئات الأولى بالرعاية»، مشددًا على أهمية «توافر الأدوية والوقود، والسلع الغذائية ومستلزمات عيد الأضحى بأسعار مناسبة للمواطنين». كذلك اهتم الرئيس السيسي بالإشارة إلى أهمية الخروج عن الأنماط التقليدية في العمل والإدارة والبحث عن الأفكار الخلاقة والمبتكرة، التي تسهم في زيادة حصيلة إيرادات الدولة، حتى تتمكن من الوفاء باحتياجات المواطنين على الوجه الأكمل، من دون المساس بمحدودي الدخل والفئات الأكثر احتياجًا، الذين يتعين توفير الرعاية الكاملة لهم والارتقاء بأوضاعهم.

* محوران لعمل الحكومة
أما إسماعيل فأوضح من جانبه، في أحد تصريحاته القليلة عقب اجتماعه الأول مع وزرائه، أن الحكومة سوف تعمل على محورين: الأول قصير الأجل لإيجاد حلول عاجلة للمشكلات القائمة، والثاني محور طويل الأجل لتنفيذ المشاريع القومية التي يجري تنفيذها، والعمل على استقرار أركان الدولة. وأشار إلى أن هناك برنامجًا للحكومة سيصار إلى تجهيزه لعرضه على مجلس النواب المقبل، كما شدد على أنه «لا مكان للفساد، حيث نقف بشدة أمام هذه الظاهرة، وسنعمل بحزم على حل المشكلات القائمة».
وعلى المستوى التنفيذي، طالب إسماعيل وزير الاستثمار بإعداد تقرير شامل عن جميع مذكرات التفاهم التي تواجه معوّقات في تحويلها إلى اتفاقيات وعقود نهائية، والإجراءات المطلوبة للتغلب على هذه المعوّقات، إلى جانب سرعة تنفيذ المشاريع المقترحة، وهو أيضا ما يؤكد ما ذهب إليه المراقبون من أن رئيس الوزراء الجديد «رجل عملي لأقصى درجة».
وبحسب تأكيد سياسي مصري محنّك لـ«الشرق الأوسط» - طلب عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة - فإن «خطوات وتصريحات رئيس الوزراء الجديد الأولى، على الرغم من قلّتها، فإنها أدت إلى تحوّله من الرجل الغامض في عين الشارع المصري، إلى رجل يحمل بارقة أمل كبيرة في تحسين أوضاع المصريين بشكل عام.. قد تكون المهمة شاقة والنافذة الزمنية ضيقة؛ لكن شريف إسماعيل رجل بقدر التحدي».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.