من التاريخ: قواعد الحرب والحياة

من التاريخ: قواعد الحرب والحياة
TT

من التاريخ: قواعد الحرب والحياة

من التاريخ: قواعد الحرب والحياة

شاءت الظروف أن أصطدم خلال بحثي في بعض الأوراق القديمة بمذكراتي التي كنت أحتفظ بها لمادة الاستراتيجية العسكرية خلال دراستي للدكتوراه، وهي تضم مادة مهمة للغاية على اعتبار أن الحرب كانت تلعب دورًا حاسمًا في مسيرة العلاقات الدولية ويبدو أنها ستظل كذلك.
راجعت تلك الأوراق لمدة غير قصيرة. أمعنت القراءة فيها وقرأتها غير مرة، ولا سيما، وكيف أن مبادئ الحرب التي التزم بها القادة العسكريون غيّرت مجرى الأمم والشعوب عبر التاريخ. من خلال هذه الوسيلة العنيفة، التي وصفها مؤسس علم الاستراتيجية كارل فون كلاوزويتز Karl von Clausewitz.. بأنها استمرار للدبلوماسية بوسائل أخرى.
لقد تضمنت هذه المذكرات تراكم القواعد الأساسية المستوحاة من الدروس المختلفة في إدارة المعارك والحروب عبر الزمن، وكلما أمعنت النظر في تلك المذكرات أدركت معنى الحرب وصعوبة المعركة والمسؤولية الملقاة على القائد العسكري. لكن الأغرب من ذلك أن تكون نفس قواعد الحرب والدروس المستفادة منها هي في تقديري أيضًا أساسًا لنفس القواعد التي يجب أن يتحلى بها أي قائد سياسي أو رجل صناعة أو أي إنسان في حياته العملية بعد أقلمة هذه القواعد. فهي في النهاية فن إدارة الوصول للهدف والتغلب على الخصم والمصاعب، ومن ثم وجدت نفسي أكتب هذا المقال لأشارك القارئ العزيز في القواعد العامة التي لا تمثل إلا القشور فقط من علم الحرب، خاصة، أن هذا العلم يتغيّر يومًا بعد يوم، غير أنه لا يزال يحافظ على بعض القواعد الثابتة التي يمكن أن نتأمل بعضها على النحو التالي:
أولاً: مبدأ وضوح الهدف السياسي. فالحرب هي جزء من إدارة الدولة لشؤونها الخارجية بل والداخلية في بعض الأحيان، وبالتالي، فإن وضوح الهدف هو أهم مبدأ من مبادئ الحرب. وهنا لا بد أن يكون الهدف السياسي واضحًا وصريحًا، فجيوش الدول تبدأ مهامها لأهداف كثيرة أولها الإبقاء على الدولة وآخرها احتلال الغير. ومن ثم، فهل يكون الهدف هو تدمير الخصم أم الضغط عليه أم توجيه ضربة استباقية لقواته أم الاستيلاء على أراضيه أم القضاء السياسي على الدولة الخصم؟ لا بد أن يكون الهدف السياسي هنا واضحًا ليصار إلى نقله للقيادة العسكرية بشكل لا لبس فيه. وهنا تنتقل المسؤولية إلى القيادة العسكرية لوضع هدف العمل العسكري على هذا الأساس وفقًا لقدراتها العسكرية. وعندها تبرز مخاطر النزوح عن هذه القاعدة في التاريخ خاصة عندما يختلط الأمر عند القيادة السياسية، مثلما كان الحال بالنسبة لنابليون الثالث عندما سعى للدخول في حرب مع بروسيا لمنع توحيد ألمانيا في عام 1870، فانتهت هذه العملية بهزيمة عسكرية قاسية.
ثانيًا: تحديد الأهداف العسكرية بدقة، وهنا تبرز مقولة الاستراتيجي البريطاني العظيم السير بازيل هنري ليدل هارت، التي تقول «اجعل هدفك دائمًا نصب عينيك» وهذا هو المبدأ الثاني في إدارة الحروب أو العمليات العسكرية. إنه عنصر حيوي للغاية لنجاح أية استراتيجية عسكرية، وقد وصف فون كلاوزويتز الهدف من الحرب بأنه «التدمير الكامل لقدرات الخصم لكسر إمكانياته كاملة»، ولكن هذه النظرية المتطرفة جوبهت بنظريات أخرى تدفع بغير ذلك، وتقول إن «الهدف من الحرب هو كسر قدرات العدو وقدرته على المقاومة» فقط. وعليه، فمن شأن وضوح هذا الهدف العسكري أن يسمح للقائد العسكري صياغة تكتيكاته الحربية لتُخدم على الهدف الاستراتيجي النهائي للمعركة، ووضوح الهدف العسكري هنا يساعد بشكل مباشر في نجاح العمليات الحربية لاتساقه مع الهدف السياسي.
ثالثًا: عملية الحشد (Mass). والمقصود هنا القدرة على حشد القوات المناسبة وتمركزها أو نشرها بكل أسلحتها وتموينها وذخيرتها ولوجيستياتها في المكان المخصص الذي سينطلق منه الهجوم أو تتمركز فيه الدفاعات. ولا يكون هذا مقصورًا على تلك الأمور المشار إليها فقط، بل يشمل كذلك عناصر كثيرة أخرى لا تقل أهمية، منها الالتزام، والتدريب على التكتيكات الحربية التي ستُعتمد، ورفع القدرة القتالية للجنود مع التركيز الخاص على الروح المعنوية. ولعل أفضل نماذج مبدأ الحشد حتى الآن كان مرحلة ما سبق الإنزال الشهير على شاطئ النورماندي بشمال فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، حيث استطاعت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ممثلة بالجنرال دوايت أيزنهاور حشد كل القوات المناسبة لنقل مسرح العمليات إلى القارة الأوروبية بهدف إلحاق الهزيمة بألمانيا النازية، ويشار إلى هذه العملية على اعتبارها نموذجًا لأكبر عملية حشد في التاريخ.
رابعًا: مبدأ وحدة القيادة العسكرية. وهنا لا بد للجيش أن يكون له قيادة موحّدة ومركزية لإدارة الحرب، ذلك أن تعدد القيادات دائمًا ما يجلب الكوارث. وحدة القيادة تسمح بالسيطرة الكاملة على أركان الجيش وتساعد القائد على تركيز خططه ودفاعاته وهجومه على حد سواء، وهي تتيح أيضًا بنوع من الانسجام في استخدام القوات وقدراتها. ولقد تعددت النماذج التاريخية التي أدت إلى هزيمة الجيوش نتيجة لغياب هذا العنصر، والحرب الأهلية الأميركية خير مثال على ذلك. فعلى الرغم من قوة الجيش (الاتحادي) الشمالي ضد الجيش (الكونفدرالي) الجنوبي فإنه ظل عاجزًا عن تحقيق النجاحات بسبب تعدد قيادته متمثلة في جيوش يرأسها قادة يعملون بمعزل عن مفهوم القيادة الموحّدة. ولكن عندما جرى توحيد هذه القيادة في أيدي الجنرال يوليسيس غرانت تغيرت دفعة القتال وحسمت الحرب. وكان النموذج الثاني حرب فيتنام، ففي هذه الحرب تعددت على سبيل المثال القيادات الجوية الأميركية التي كانت تدير الحرب فكانت النتيجة كارثية على الجيش الأميركي.
خامسًا: استراتيجية الهجوم. وهنا تعدّدت المبادئ الخاصة بهذا الركن المهم من مبادئ الحرب، فالأفضل في أوقات كثيرة هو أخذ المبادرة بالهجوم مع استخدام عنصر حسن التوقيت. كذلك أنه أصبح من غير المجدي في العلوم الحديثة الهجوم الشامل على الجبهة العسكرية للخصم إلا في حالة ضعفه الواضح، وهو أمر استثنائي للغاية. وبالتالي يكون «التوجّه غير المباشر» (Indirect Approach) الذي صاغه ليدل هارت هو أفضل الخيارات، إذ يصار إلى التركيز على أضعف نقطة للعدو وفقا لتوزيع دفاعاته. وغالبًا ما تكون هذه النقطة في المفاصل التي تربط دفاعاته وليس منطقة تمركز هذه الدفاعات، وبالتالي، يكون دائمًا من المفيد حث القوات المدافعة على التمدد الدفاعي على طول الجبهة بحيث لا تكون على دراية بالمكان الذي سيأتي منه الهجوم. هذا التكتيك يعرف بـ«تكتيك الهجوم بغرض التثبيت» (Pinning Attack) كي لا يقوم الجانب المدافع بتحصين المنطقة التي ستندفع إليها القوات المهاجمة. وبعد تركز القوة المهاجمة هجومها على النقطة الضعيفة بكل الثقل العسكري المتاح وهنا تبرز أهمية «معادلة بالكم والسرعة» (Mass Multiplied by Velocity) حتى لا تتمكن القوات المدافعة من الصمود أمام هذا الهجوم. إن نجاح هذه الخطوة يؤدي إلى عنصرين أساسيين: الأول، بداية تطويق الخصم من عدة جبهات على خطوطه الداخلية، وهو غالبًا ما يكون مقدّمة لهزيمته العسكرية، والثاني، يكون كسر الروح المعنوية للمدافعين بسبب انشطار خطوطه.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.