من التاريخ: قواعد الحرب والحياة

من التاريخ: قواعد الحرب والحياة
TT

من التاريخ: قواعد الحرب والحياة

من التاريخ: قواعد الحرب والحياة

شاءت الظروف أن أصطدم خلال بحثي في بعض الأوراق القديمة بمذكراتي التي كنت أحتفظ بها لمادة الاستراتيجية العسكرية خلال دراستي للدكتوراه، وهي تضم مادة مهمة للغاية على اعتبار أن الحرب كانت تلعب دورًا حاسمًا في مسيرة العلاقات الدولية ويبدو أنها ستظل كذلك.
راجعت تلك الأوراق لمدة غير قصيرة. أمعنت القراءة فيها وقرأتها غير مرة، ولا سيما، وكيف أن مبادئ الحرب التي التزم بها القادة العسكريون غيّرت مجرى الأمم والشعوب عبر التاريخ. من خلال هذه الوسيلة العنيفة، التي وصفها مؤسس علم الاستراتيجية كارل فون كلاوزويتز Karl von Clausewitz.. بأنها استمرار للدبلوماسية بوسائل أخرى.
لقد تضمنت هذه المذكرات تراكم القواعد الأساسية المستوحاة من الدروس المختلفة في إدارة المعارك والحروب عبر الزمن، وكلما أمعنت النظر في تلك المذكرات أدركت معنى الحرب وصعوبة المعركة والمسؤولية الملقاة على القائد العسكري. لكن الأغرب من ذلك أن تكون نفس قواعد الحرب والدروس المستفادة منها هي في تقديري أيضًا أساسًا لنفس القواعد التي يجب أن يتحلى بها أي قائد سياسي أو رجل صناعة أو أي إنسان في حياته العملية بعد أقلمة هذه القواعد. فهي في النهاية فن إدارة الوصول للهدف والتغلب على الخصم والمصاعب، ومن ثم وجدت نفسي أكتب هذا المقال لأشارك القارئ العزيز في القواعد العامة التي لا تمثل إلا القشور فقط من علم الحرب، خاصة، أن هذا العلم يتغيّر يومًا بعد يوم، غير أنه لا يزال يحافظ على بعض القواعد الثابتة التي يمكن أن نتأمل بعضها على النحو التالي:
أولاً: مبدأ وضوح الهدف السياسي. فالحرب هي جزء من إدارة الدولة لشؤونها الخارجية بل والداخلية في بعض الأحيان، وبالتالي، فإن وضوح الهدف هو أهم مبدأ من مبادئ الحرب. وهنا لا بد أن يكون الهدف السياسي واضحًا وصريحًا، فجيوش الدول تبدأ مهامها لأهداف كثيرة أولها الإبقاء على الدولة وآخرها احتلال الغير. ومن ثم، فهل يكون الهدف هو تدمير الخصم أم الضغط عليه أم توجيه ضربة استباقية لقواته أم الاستيلاء على أراضيه أم القضاء السياسي على الدولة الخصم؟ لا بد أن يكون الهدف السياسي هنا واضحًا ليصار إلى نقله للقيادة العسكرية بشكل لا لبس فيه. وهنا تنتقل المسؤولية إلى القيادة العسكرية لوضع هدف العمل العسكري على هذا الأساس وفقًا لقدراتها العسكرية. وعندها تبرز مخاطر النزوح عن هذه القاعدة في التاريخ خاصة عندما يختلط الأمر عند القيادة السياسية، مثلما كان الحال بالنسبة لنابليون الثالث عندما سعى للدخول في حرب مع بروسيا لمنع توحيد ألمانيا في عام 1870، فانتهت هذه العملية بهزيمة عسكرية قاسية.
ثانيًا: تحديد الأهداف العسكرية بدقة، وهنا تبرز مقولة الاستراتيجي البريطاني العظيم السير بازيل هنري ليدل هارت، التي تقول «اجعل هدفك دائمًا نصب عينيك» وهذا هو المبدأ الثاني في إدارة الحروب أو العمليات العسكرية. إنه عنصر حيوي للغاية لنجاح أية استراتيجية عسكرية، وقد وصف فون كلاوزويتز الهدف من الحرب بأنه «التدمير الكامل لقدرات الخصم لكسر إمكانياته كاملة»، ولكن هذه النظرية المتطرفة جوبهت بنظريات أخرى تدفع بغير ذلك، وتقول إن «الهدف من الحرب هو كسر قدرات العدو وقدرته على المقاومة» فقط. وعليه، فمن شأن وضوح هذا الهدف العسكري أن يسمح للقائد العسكري صياغة تكتيكاته الحربية لتُخدم على الهدف الاستراتيجي النهائي للمعركة، ووضوح الهدف العسكري هنا يساعد بشكل مباشر في نجاح العمليات الحربية لاتساقه مع الهدف السياسي.
ثالثًا: عملية الحشد (Mass). والمقصود هنا القدرة على حشد القوات المناسبة وتمركزها أو نشرها بكل أسلحتها وتموينها وذخيرتها ولوجيستياتها في المكان المخصص الذي سينطلق منه الهجوم أو تتمركز فيه الدفاعات. ولا يكون هذا مقصورًا على تلك الأمور المشار إليها فقط، بل يشمل كذلك عناصر كثيرة أخرى لا تقل أهمية، منها الالتزام، والتدريب على التكتيكات الحربية التي ستُعتمد، ورفع القدرة القتالية للجنود مع التركيز الخاص على الروح المعنوية. ولعل أفضل نماذج مبدأ الحشد حتى الآن كان مرحلة ما سبق الإنزال الشهير على شاطئ النورماندي بشمال فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، حيث استطاعت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ممثلة بالجنرال دوايت أيزنهاور حشد كل القوات المناسبة لنقل مسرح العمليات إلى القارة الأوروبية بهدف إلحاق الهزيمة بألمانيا النازية، ويشار إلى هذه العملية على اعتبارها نموذجًا لأكبر عملية حشد في التاريخ.
رابعًا: مبدأ وحدة القيادة العسكرية. وهنا لا بد للجيش أن يكون له قيادة موحّدة ومركزية لإدارة الحرب، ذلك أن تعدد القيادات دائمًا ما يجلب الكوارث. وحدة القيادة تسمح بالسيطرة الكاملة على أركان الجيش وتساعد القائد على تركيز خططه ودفاعاته وهجومه على حد سواء، وهي تتيح أيضًا بنوع من الانسجام في استخدام القوات وقدراتها. ولقد تعددت النماذج التاريخية التي أدت إلى هزيمة الجيوش نتيجة لغياب هذا العنصر، والحرب الأهلية الأميركية خير مثال على ذلك. فعلى الرغم من قوة الجيش (الاتحادي) الشمالي ضد الجيش (الكونفدرالي) الجنوبي فإنه ظل عاجزًا عن تحقيق النجاحات بسبب تعدد قيادته متمثلة في جيوش يرأسها قادة يعملون بمعزل عن مفهوم القيادة الموحّدة. ولكن عندما جرى توحيد هذه القيادة في أيدي الجنرال يوليسيس غرانت تغيرت دفعة القتال وحسمت الحرب. وكان النموذج الثاني حرب فيتنام، ففي هذه الحرب تعددت على سبيل المثال القيادات الجوية الأميركية التي كانت تدير الحرب فكانت النتيجة كارثية على الجيش الأميركي.
خامسًا: استراتيجية الهجوم. وهنا تعدّدت المبادئ الخاصة بهذا الركن المهم من مبادئ الحرب، فالأفضل في أوقات كثيرة هو أخذ المبادرة بالهجوم مع استخدام عنصر حسن التوقيت. كذلك أنه أصبح من غير المجدي في العلوم الحديثة الهجوم الشامل على الجبهة العسكرية للخصم إلا في حالة ضعفه الواضح، وهو أمر استثنائي للغاية. وبالتالي يكون «التوجّه غير المباشر» (Indirect Approach) الذي صاغه ليدل هارت هو أفضل الخيارات، إذ يصار إلى التركيز على أضعف نقطة للعدو وفقا لتوزيع دفاعاته. وغالبًا ما تكون هذه النقطة في المفاصل التي تربط دفاعاته وليس منطقة تمركز هذه الدفاعات، وبالتالي، يكون دائمًا من المفيد حث القوات المدافعة على التمدد الدفاعي على طول الجبهة بحيث لا تكون على دراية بالمكان الذي سيأتي منه الهجوم. هذا التكتيك يعرف بـ«تكتيك الهجوم بغرض التثبيت» (Pinning Attack) كي لا يقوم الجانب المدافع بتحصين المنطقة التي ستندفع إليها القوات المهاجمة. وبعد تركز القوة المهاجمة هجومها على النقطة الضعيفة بكل الثقل العسكري المتاح وهنا تبرز أهمية «معادلة بالكم والسرعة» (Mass Multiplied by Velocity) حتى لا تتمكن القوات المدافعة من الصمود أمام هذا الهجوم. إن نجاح هذه الخطوة يؤدي إلى عنصرين أساسيين: الأول، بداية تطويق الخصم من عدة جبهات على خطوطه الداخلية، وهو غالبًا ما يكون مقدّمة لهزيمته العسكرية، والثاني، يكون كسر الروح المعنوية للمدافعين بسبب انشطار خطوطه.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.