الغرب أمام تحدي الراديكالية... يسارًا ويمينًا

تتنامى على جانبي المحيط الأطلسي وليس للمرة الأولى

الغرب أمام تحدي الراديكالية... يسارًا ويمينًا
TT

الغرب أمام تحدي الراديكالية... يسارًا ويمينًا

الغرب أمام تحدي الراديكالية... يسارًا ويمينًا

«في سماء مشمسة حتى أصغر السُّحُب تترك تأثيرًا».. هكذا وصف ميخائيل باكونين، أحد روّاد الراديكالية الثورية في أوروبا، الحالة السياسية داخل كيانات «القارة العجوز» خلال عقد الستينات من القرن التاسع عشر.
لفترة ما كانت أوروبا تعيش بسلام، وقد توحّدت نخبها الحاكمة على تفاهمات الضرورة، كي لا نقول الرغبة، بديمومة «الأمر الواقع».
عام 1848، بدا وكأن النخب المحافظة الحاكمة حريصة على منع حدوث أي تغيير ذي شأن. كذلك كانت تلك النخب متخوّفة من نوبات راديكالية من العنف تجسّدت أكثر ما تجسّدت بحركات فوضوية شبحية، كان من أبرز رموزها الروسي ميخائيل باكونين ومواطنه بيتر كروبوتكين. أما «السحابة الصغيرة» التي لمّح إليها باكونين في مقولته المذكورة آنفًا فكان يمكن أن تأتي على شكل قنبلة يرميها فوضوي متطرّف على عربة أحد الأعيان، أو تفجير يستهدف محطة سكك حديدية مزدحمة بالركاب. وكانت آمال النفخ في الجمر المدفون تحت رماد 1848 قد أبقت أعداء صيغة «الأمر الواقع» نشطين في الشارع، بل جعلتهم أكثر راديكالية وتشدّدًا.
ومع الوقت، أدّت ضغوط الراديكاليين على السياسات الأوروبية، التي رسم معالمها «مؤتمر فيينا» ورسوخ أشكال «الدولة - الأمة»، إلى نشوب الحرب الفرنسية – الروسية عام 1870، وبعد سنة واحدة «كومونة باريس» – أو «ثورة باريس الشعبية» – وولادة الحركة الثورية في روسيا القيصرية.
في حينه، حاولت أوروبا مواجهة ضغط الراديكاليين، عبر ثلاثة توجهات:
التوجّه الأول، الذي يمكن تسميته «التوجه الإمبريالي»، اعتمدته بعض الدول، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا - فرنسا بعد الهزيمة في معركة سيدان – وقام على توجيه زخم طاقة الاضطراب والقلاقل نحو مشاريع «بناء الإمبراطوريات» عالميا. ولقد وفّر «مؤتمر برلين» الذي كان خلفه دهاء الزعيم البريطاني بنجامين دزرائيلي «خارطة طريق» لتقاسم الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية مناطق العالم بأسره.
التوجّه الثاني، هو الذي اعتمدته قوى جديدة مثل «الرايخ الألماني»، وتصحّ تسميته بـ«التوجّه القومي» إذ إنه تمثّل بدعوة الراديكاليين للمساهمة في بناء نماذج «الدولة - الأمة» الجديدة باسم «القومية».
التوجّه الثالث، هو «التوجّه الديمقراطي الاجتماعي»، ذلك أن التطوّرات المُشار إليها سابقا تزامنت مع ولادة النقابات العمالية في أوروبا، التي كانت قد انطلقت أصلا كأدوات ثورية، غير أنها انتهت كعوامل ضامنة لاستقرار «الأمر الواقع». ومع أنه ظل هناك أشخاص، مثل كارل ماركس، يحلمون بشبح يقض مضاجع أوروبا، فإن هؤلاء عملوا في نهاية المطاف على «مأسسة» الحركات الراديكالية اليسارية عبر الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. وفي المقابل، اكتشف آخرون مثل فرديناند لاسال وكارل كاوتسكي وغيرهما من آباء «الدولية الأولى» الفوائد الجمة للخروج بنصيب معقول من كعكة السلطة عن طريق الانتخابات ضمن إطار السياسات البرلمانية. وهكذا، لم يبق من دعاة «اللامساومة» و«الثورة الكاملة» سوى «الشعبويين» الذين هم على شاكلة سيرغي نيتشاييف.
وفي الحصيلة النهائية، بفضل توليفة من «الإمبريالية» و«القومية» و«الديمقراطية الاجتماعية»، وعلى الرغم من عقود من الراديكالية العنيفة، تحقّق التفاهم الأوروبي على «الأمر الواقع» الذي صمد على امتداد القارة حتى مستهل ما يوصف بـ«العصر الحديث» اعتبارا من عام 1913.
هذا الوضع سقط مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، والمفارقة أن التوجّهات الثلاثة، أي «الإمبريالية» و«القومية» و«الديمقراطية الاجتماعية»، التي صنعت «الأمر الواقع»، عادت فأسهمت في صنع «النظام الأوروبي».. وكانت قد أسهمت أيضا في اندلاع الحرب.

* صدمة الثورة
«النظام الأوروبي» تعرّض لصدمة كبرى عام 1917 هي الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا التي أعطت القوى المناوئة لـ«الأمر الواقع» أرضية صلبة، على الأقل في ساحة اليسار. ومن ثَم، لمجابهة التهديد البلشفي اضطرت السياسات الأوروبية للتحرّك يسارا. ولقد تجسّد ذلك بدخول الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (أو الاشتراكية المعتدلة) عددا من حكومات القارة، وظهور حزب العمال في بريطانيا، والإصلاحات الراديكالية التي اعتمدتها حكومة تحالف «الجبهة الشعبية» في فرنسا.
بيد أن الضغوط، التي تراكمت وتكثّفت إبان الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، ثم بعد «معاهدة فرساي»، أنتجت شكلا جديدا من أشكال الراديكالية.. ولكن في ساحة اليمين هذه المرة. ففي إيطاليا، أسّس بينيتو موسوليني «الحركة الفاشية» وفق خطاب جوهره أن إيطاليا وإن كانت وقفت في صف «الحلفاء» إبان الحرب العالمية الأولى (مع بريطانيا وفرنسا وباقي الحلفاء) فإنها لم تخرج بنصيب موازٍ لنصيبي البريطانيين والفرنسيين بعد تقاسم كعكة المستعمرات.
أما بالنسبة لألمانيا التي هُزِمت في تلك الحرب، فقد نهضت فيها الراديكالية الجديدة من ركام اليسار الراديكالي الذي سحقته السلطات وصفّت قادته بعد اتهامهم بالتآمر مع «العدو البلشفي». وحقا، خلال وقت قصير، ظهرت حركة راديكالية يمينية جديدة تجسّدت بالحزب النازي تحت زعامة أدولف هتلر. بل حتى في فرنسا وبريطانيا، حيث بدا لفترة ما أن وهج الراديكالية خبا، وجدت الفاشية والنازية مناصرين.

* الحرب العالمية الثانية
جاء التحدي الراديكالي الثاني لـ«النظام الأوروبي» مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة ساحقة للراديكالية اليمينية (النازية والفاشية)، واستيعاب الراديكالية اليسارية (الشيوعية السوفياتية) في صيغة «الأمر الواقع» عبر الاتحاد السوفياتي، حليف «الحلفاء» بين عامي 1941 و1945. ومع سقوط نصف اليابسة الأوروبية تحت هيمنة الاتحاد السوفياتي، وبروز الأحزاب الشيوعية كقوى فاعلة ونشطة في عدة دول غربية مثل فرنسا ولإيطاليا، بدا وكأن راديكالية اليسار صارت حقًا جزءًا من «الأمر الواقع»، وهو ما حفّز على إعداد قوة محافظة يمينية مقابلة لحفظ توازن.. وهكذا أبصر النور «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، في مواجهة «حلف وارسو».
غير أن قوى جديدة أخذت تتحدّى الوضع العام، مختزنة في ذواتها طاقات راديكالية، وترفع شعارات ودعوات قومية وأحيانا تقسيمية انفصالية صريحة، منها حركات القوميين الباسك والكتالونيين في إسبانيا، والحركة الاستقلالية الكورسيكية – ولبعض الوقت الحركة البريتونية – في فرنسا، والتنظيمات الجمهورية الآيرلندية بإقليم آيرلندا الشمالية. ولقد لجأت بعض هذه الحركات والتنظيمات في تحدّيها الجديد إلى الإرهاب والعنف، الذي بلغ أقصاه في ممارسات «الألوية الحمراء» الإيطالية و«فصيل الجيش الأحمر» في ألمانيا الغربية، و«العمل المباشر» (آكسيون ديريكت) في فرنسا وبلجيكا.
وفي هذه الأثناء، عانت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية من إشكالية الإصلاح في خضمّ سعيها الدؤوب للتميّز عن كل من الشيوعية السوفياتية والرأسمالية المحافظة. وكان أول حزب يبادر بشجاعة لحسم مواقفه ومرئياته الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا الغربي، الذي اعتمد خلال المؤتمر الذي عقده عام 1959 في منتجع باد غودسبرغ، قرب العاصمة بون، برنامجا يهدف إلى نظام يقوم على فكرة «السوق الاجتماعية».

* وداعًا للماركسية!
كانت فكرة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان التخلّي عن الهدف الماركسي القاضي بإنشاء نظام اقتصادي مخطط مركزيا، ولكن مع مفهوم «السوق» الرأسمالية بنكهة اجتماعية. وحقًا، لم يلبث عدد من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأصغر حجما أولا في السويد، ثم هولندا، أن لحق بالتجربة الألمانية.
في بريطانيا حاول حزب العمال، بزعامة هيو غايتسكيل، اقتباس تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان غير أنه فشل، وكان وراء فشل التجربة وفاة غايتسكيل عام 1963 وكتلة أدعياء اليسار بقيادة هارولد ويلسون.
أما في فرنسا، فلم تناقش الحركة الاشتراكية - التي تبلورت أصلا من القسم الفرنسي من «الدولية الأولى للعمال» لكي تشكل الحزب الاشتراكي - هذا الموضوع بجدية، ولم تطوّر قاعدتها الآيديولوجية، أما أولئك الذين أغرتهم تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان، فاختاروا بكل بساطة ترك الحزب لتأسيس تجمعات أخرى. ولكن خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، قاد فرنسوا ميتران الاشتراكيين الفرنسيين إلى الحكم لأول مرة خلال عقدين من الزمن، وبدأ عهده ببعض المناورات ذات النكهة الماركسية كتأميم بعض الصناعات، بل وتأسيس وزارة للتخطيط. كذلك ضم إلى وزارته وزراء شيوعيين مع «برنامج مشترك». إلا أن ميتران عاد، ليكشف «واقعيته» الخفية، ويبيّن للملأ أنه أقرب إلى الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان منه إلى الفضاء الشيوعي. وكانت فكرته تقوم على الزعم بأنه من اليسار لكن مع ممارسة الحكم من مواقع يمين الوسط. هذه الفكرة وجدت لها أصداء إيجابية في عدة دول أوروبية، منها اليونان حيث حكم الديمقراطيون الاجتماعيون (اشتراكيو «باسوك») لعقود، وكذلك في «إسبانيا ما بعد حقبة فرانكو» حيث كان فيليبي غونزاليس تلميذا نجيبا لميتران.
عودة إلى بريطانيا، مني حزب العمال تحت قيادته اليسارية الرافضة للإصلاح بثلاث هزائم انتخابية، بينما كانت جماعة ماركسية متصلبة عرفت بـ«النزعة الصارمة» (ميليتنت تندنسي) تسيطر على مفاصل عديدة في جهاز الحزب، لا سيما على مستوى التنظيمات المحلية والنقابات. ولم تنته سطوة هذا التيار اليساري إلا مع توني بلير، الذي استغل التداعيات الانتخابية الكارثية للحزب تحت هيمنة اليسار للسير به نحو تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان في باد غودسبرغ. ومثل ميتران، حكم بلير بريطانيا من يمين الوسط، بل أحيانا من قلب اليمين، وأثمر خياره هذا فوز حزب العمال لأول مرة في تاريخه بثلاث انتخابات عامة متتالية، كما أثمر اقتصادا مزدهرا وسلاما اجتماعيا واستقرارا داخليا غير مسبوقين بعد اضطرابات عقد السبعينات، وفترة حكم مارغريت ثاتشر.
طوال ركون «النظام الأوروبي» إلى التفاهم المُستكين كان يشهد تحدّيات راديكالية.. إما من اليسار أو من اليمين، وأحيانا من الاتجاهين في آن معا. فهل علينا إذن أن نستغرب التحدي الراهن لصيغة «الأمر الواقع»؟ الإجابة عند كثرة من المحللين هي: لا.

* المشروع الأوروبي
«المشروع الأوروبي» بشكله الراهن يرمز إليه مباشرة كيان «الاتحاد الأوروبي» (بدوله الـ28)، والعملة الموحّدة (اليورو)، واتفاقيات شينغن التي تتيح حرية الحركة بين 25 دولة أوروبية. غير أن كثيرين ممّن هم في معسكر اليسار يرون هذا «الاتحاد»، بصورة متزايدة، مجرّد آلة تتحكّم بها القوى الاقتصادية العالمية، والمصارف والمؤسسات والشخصيات المالية، الحريصة على مصالحها وأرباحها القصيرة الأجل. ويتضايق اليساريون جدًا من أن «الرأسماليين العالميين»، الذين تسبّبوا بالأزمة المالية العالمية عام 2008 بسياساتهم الإقراضية الجشعة والمتهورة، يضعون اللوم، بوقاحة فظيعة، على «الشعوب» بحجة أنها «تتمتع بضمانات مبالغ فيها».
والحقيقة أن ممارسات النخب الجديدة وفلسفتها قامت على عصر النفقات، وخفض المديونيات العامة، والاقتطاع من الخدمات العامة. وعلى امتداد نحو سبع سنوات كانت كل الحكومات الأوروبية تقول الشيء نفسه، وتنتهج عمليا السياسة نفسها من دون مردود إيجابي ملحوظ.
ثم إن الزعم أن بمقدور «السوق» أن تضبط أوضاعها من تلقاء نفسها، ما عاد يحظى بالاحترام كما في الماضي. وكانت النتيجة توافر مجال واسع جديد للراديكالية، حتى إن حزب «سيريزا» اليساري الحديث التأسيس فاز بالانتخابات اليونانية، قبل أن يزجّه تواضع خبرته في الشؤون الدولية في مواجهة مع «الاتحاد الأوروبي» بقيادة ألمانيا.. الحريصة على المحافظة على «الأمر الواقع». وها هو «سيريزا» (يعني اسمه «الجذور») يعاني من انقسام داخلي يهدّد بتهميشه.
اليسار الراديكالي في فرنسا، الرافض أيضًا للنهج الحالي في «الاتحاد الأوروبي»، منقسم إلى أربعة أجنحة، وليست لديه فرصة لكسب انتخابات في وقت قريب، مع أنه كفيل بتدمير فرص الاشتراكيين بالفوز في الانتخابات الرئاسية والعامة المقبلة.

* جيريمي كوربن
أما انتخاب جيريمي كوربن، قبل أيام زعيما لحزب العمال البريطاني، فيعني أن الاشتراكية المشذّبة المعتدلة التي تبنّاها ميتران وبلير، ويمارسها حاليا فرنسوا هولاند، ما عادت قادرة على اجتذاب الجماهير وتجييشها. وهذا، مع أن كوربن ليس ماركسيا ولا يصح اعتباره من جماعة «ميليتنت تندنسي» الراديكالية. وهو لن يلعب ورقة «الصراع الطبقي» لأن قاعدته الانتخابية والسياسية في لندن ومحيطها تضم مثقفين وتكنوقراطيين من الطبقة الوسطى وما فوقها. لكن كوربن بدأ من موقع قوة لأنه تحدّى التفاهم العريض حول «الأمر الواقع» المأزوم.
تاريخيا، كوربن يشكل نقيضا مباشرا لمفهوم باد غودسبرغ، لكنه على المدى القصير قد ينشّط الحياة السياسية البريطانية، ويفرض تغييرات منتظرة على نهج التقشّف والاستسلام لفكرة «قداسة» السوق.
وليس كوربن وحده في الميدان اليوم. ذلك أن له أتباعا ونظراء على امتداد أوروبا، بما في ذلك ألمانيا نفسها حيث يفكر اشتراكيون بالتنكّر لأفكار باد غودسبرغ والشيوعية معًا، وفي اسكوتلندا، حيث حقق الحزب القومي الاسكوتلندي انتصاره الكبير الأخير على العمال بصفته القوة الرئيسة لليسار. أيضًا، في إسبانيا برز حزب «بوديموس» (ومعنى اسمه «نستطيع»)، الذي ولد من رحم «حركة 15 مايو» الشعبية كأحد أقوى أحزاب البلاد، ونجح في كسب بلديات بعض أكبر مدن البلاد، على رأسها العاصمة مدريد وثاني كبرى المدن برشلونة. بل تشير استطلاعات الرأي إلى أن «بوديموس» قد يفوز بالانتخابات العامة المقبلة، ومن ثم يشكل حكومة إئتلافية بفضل شعبويته الاشتراكية.
«بوديموس»، الذي يقوده الزعيم الجذاب بابلو إيغليسياس تورون، تأثر كثيرا بالحركة التي أطلقها شتيفان هيسل، العالم والدبلوماسي والكاتب الألماني - الفرنسي الراحل، عام 2011. ويومذاك أدان هيسل في مؤلفه الصغير «إينديي فو» (وترجمته بالعربية «ثُر» أو «اغضب») نظام «الرأسمالية الجديدة» المتفلّت من كل ضوابط الذي أفرز إجحافا وفسادا وكوارث بيئية وموجات لجوء وحروبا. ومع أن «غاضبي» هيسل أو «ثائريه أخفقوا في بناء هياكل حزبية فإنهم ألهموا عددا من الجماعات اليسارية لرفع لواء الراديكالية ضد «الأمر الواقع».
إلا أن التهديد الذي يواجه «النظام الأوروبي» لا يأتي من اليسار فحسب. فثمة قوى يمينية راديكالية تشكل تهديدًا مساويًا إن لم يكن أخطر، وبخاصة بعدما أثبتت قدرتها على كسب انتخابات. في الدنمارك والسويد وهولندا والنمسا غدت أحزاب اليمين الراديكالي المتطرّف جزءا من المشهد السياسي، وبعضها شريك في حكومات ائتلافية. وفي فرنسا نجح حزب «الجبهة الوطنية» في أن يصبح أكبر الأحزاب في البلاد من حيث عدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات المحلية، وتتمتّع زعيمته مارين لوبن بفرصة طيبة للمنافسة بقوة في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 1917. بل، حتى في بريطانيا، تمكن حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP) في أن يغدو ثالث أكبر الأحزاب من حيث عدد الأصوات التي نالها مرشحوه في الانتخابات العامة الأخيرة. وأخيرا وليس آخرا، في دول أوروبا الشرقية، وبالأخص، المجر وبولندا وسلوفاكيا وبلغاريا، نجد أحزاب اليمين الراديكالي إما مشاركة في الحكومات أو تتمتع بنفوذ مؤثر من خارجها.

* راديكاليون.. في أميركا!
«الأمر الواقع» يواجه تحدّيا جدّيا اليوم ليس فقط في أوروبا، بل حتى في الولايات المتحدة، التي يعدّها كثيرون الدولة الديمقراطية الأكثر يمينية في العالم.
في أميركا نرى حاليا بروزا لافتا للراديكاليين اليساريين واليمينيين بعد عقود عديدة من الغياب شبه الكامل عن الساحة.
على اليسار يطلّ السيناتور بيرني ساندرز، السياسي الأميركي الوحيد على المستوى الوطني الذي يصف نفسه بأنه «اشتراكي»، وهو يتصدّر استطلاعات الرأي بين ناخبي الحزب الديمقراطي متقدما على هيلاري كلينتون في التنافس على ترشيح الحزب لمعركة دخول البيت الأبيض. ومثل كوربن في بريطانيا، الذي يتقاسم معه الكثير من المبادئ والشعارات، يجتذب ساندرز جموعا ضخمة غير مسبوقة في السياسة الأميركية. كذلك على يسار الديمقراطيين هناك نجمة متألقة هي السيناتورة الديناميكية الشقراء إليزابيث وارين (تمثل ولاية ماساتشوستس)، التي تطرح نفسها مناضلة من أجل المساواة وإعادة توزيع الثروات، وثمة في واشنطن من يقول إن وارين مرشحة جدية لمنصب نائب الرئيس إذا ترشح نائب الرئيس الحالي جو بايدن بهدف مواصلة برامج باراك أوباما وسياساته.
اللافت، هذه المرة، أن الحزب الاشتراكي الأميركي، الذي تأسس عام 1973، يدعم بقوة ترشيح ساندرز، لكنه قد يساند وارين إذا دخلت الحلبة. لكن هناك قوى يسارية راديكالية ناشطة الآن بجانب الاشتراكيين، مثل «التحالف الأخضر»، وإن كانت الجماعات الراديكالية التي اعتمدت العنف اختفت وطويت صفحتها.
وعلى اليمين، يسبّب رجل الأعمال الملياردير اليميني دونالد ترامب، هذه الأيام، ضيقا بالغا في أوساط المرشحين الرئاسيين الجمهوريين بخطابه اللاذع المتطرّف، لا سيما أن ما يقول دفعه إلى صدارة استطلاعات الرأي عند ناخبي الحزب الجمهوري.
بطبيعة الحال، لا يعتبر ترامب زعيم الجناح اليميني في الحزب الجمهوري. بل يتنافس على «الزعامة» هنا عدة مرشحين طموحين بينهم السيناتور تيد كروز (من ولاية تكساس)، المحسوب من نجوم جماعة «حفلة الشاي» اليمينية المتشددة. ويذكر أن هذا الجماعة عبارة عن تحالف شعبوي يميني عريض القاعدة يطالب بتقليص دور الحكومة وخفض الضرائب ووقف الهجرة وإنهاض ما تصفه بـ«القيم العائلية الأميركية الأصيلة والتدين الإنجيلي» ضمن إطار «الحلم الأميركي». لكن مناوئي جماعة «حفلة الشاي» يتهمونها بأنها تنظيم فاشي يهدف إلى الحفاظ على نفوذ الجماعات العنصرية المتطرفة مثل الـ«كو كلوكس كلان» و«جمعية جون بيرتش»، التي ظلت ناشطة على الأقل حتى عقد السبعينات من القرن الماضي في ولايات الجنوب الأميركي المحافظة.
الحقيقة أن الراديكالية الجديدة، يمينية كانت أم يسارية، تقوم الآن على ثلاثة مبادئ:
1) الطبقة الحاكمة باتت تعبة وفاسدة ومغرورة، مما يحتّم تغييرها.
2) التفاهم السياسي العريض الراهن لا يؤدّي إلا لمزيد من الإجحاف (الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا) والنزاع الاجتماعي.
3) المؤسسات الحالية غير ديمقراطية وما عادت تتجاوب مع رغبات الناس وحاجاتهم.
وفي حين يلوم الشارع الأوروبي مؤسسة «الاتحاد الأوروبي»، يلوم المواطن الأميركي «الحكومة الفيدرالية» والنخبة الطبقية المرتبطة بها. لكن هناك، في المقابل، فارقًا مهمًا هو أن الأحزاب الراديكالية الأوروبية، اليسارية واليمينية، تتشارك في نوع من «العداء للأمركة» وفقا لمقتضيات الموضة. وهذا، بالذات، هو الاختلاف الأساسي بين موجة الراديكالية الحالية والموجات السابقة.
الموجة الحالية لا تسعى إلى تغيير المجتمع بأساليب عُنفية، بل تأمل في تحقيق مُبتغاها عبر صناديق الاقتراع ومن خلال المؤسسات الديمقراطية.
هل سيعزّز التحدّي الراديكالي الجديد قوة الديمقراطيات الغربية في نهاية المطاف؟
لقد فعل ذلك في الماضي، أما عن المستقبل فعلينا الانتظار.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.