تعامل إيران مع {القاعدة} بدأ في التسعينات تمهيدًا لاستخدامها في مخططاتها العدائية للخليج

خبير أميركي: تجميد واشنطن أموال 6 من قادة التنظيم في طهران يؤكد دورها في تمويله

عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
TT

تعامل إيران مع {القاعدة} بدأ في التسعينات تمهيدًا لاستخدامها في مخططاتها العدائية للخليج

عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية

يقول الباحث الإسلامي المصري الدكتور هاني السباعي: «العداء بين إيران الشيعية والقاعدة ذات المنهج السني، قد يكون من أشد أنواع العداء السافر، وكثيرا ما هاجم أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» في أشرطته الصوتية إيران، بسبب سوء معاملتها للقيادات التي دخلت إلى طهران بعد سقوط طالبان نهاية عام 2001. وأضاف السباعي، وهو خبير دراسات مكافحة الإرهاب ويتولى منصب مدير «مركز المقريزي للدراسات» في العاصمة البريطانية لندن، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «قياديي (القاعدة) دخلوا إيران عبر أراضي بلوشستان السنّية، إلا أنهم اعتقلوا وظلوا لسنوات في قبضة الحرس الثوري الإيراني، ومن ثم، حافظت عليهم طهران، على أمل استخدامهم كورقة تفاوض مع أميركا أو مع دول الخليج».
السباعي أوضح أن «إيران الشيعية كانت توحي وتدغدغ مشاعر أهل السنّة»، بالقول إنها استضافت قياديي «القاعدة»، في حين قامت باكستان بتسليم العشرات من عناصر «القاعدة» إلى الولايات المتحدة، حيث انتهى بهم المطاف في معتقل غوانتانامو. وكشف نقلا عن العائلات العربية من جماعتي «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» المصرية التي غادرت طهران، أن أولاد القياديين الذين عاشوا في قبضة الحرس الثوري الإيراني حرموا من التعليم الأساسي. بل إن زوجة محمد شوقي الإسلامبولي، شقيق خالد الإسلامبولي قاتل أنور السادات وشقيقة أسامة حافظ أحد قياديي «الجماعة الإسلامية» ، توفيت في طهران بسبب الإهمال الصحي وعدم تلقيها العلاج.
وأشار أيضًا إلى أن أيمن الظواهري، نفسه، خلال مؤتمره الصحافي مع مؤسسة «سحاب» وصف ملالي إيران بأنهم «كفار، ولكن العوام منهم جهال»، وإلى أن الظواهري قال إن «إيران لا تدفع إلا لمن يؤيدها بالإثم أو لمن يترحم على الخميني». وتابع السباعي أن الظواهري نصح زملاءه المحتجزين في طهران بأن القيادة الإيرانية «لا يوثق بها، وتبيع الخداع والوهم للجماعات الإسلامية - المقصود بها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» - وتتاجر بها.
ووفق السباعي، فإن «عائلات كثيرة لقياديي (القاعدة) نجحت في الخروج من طهران بعد ثورة 25 يناير في مصر، مثل ثروت صلاح شحاته (نائب الظواهري) ومحمد شوقي الإسلامبولي ومصطفى حامد (أبو الوليد المصري) صهر سيف العدل».
وكشف السباعي أيضًا أن إيران هي التي مرّرت معلومات وتفاصيل رحلة سليمان بوغيث المواطن الكويتي - المسحوبة جنسيته، المتحدث الإعلامي باسم «القاعدة» وزوج ابنة بن لادن، قبل سفره إلى تركيا في طريقه إلى الأردن، حيث اعتقل وجرى ترحيله إلى الولايات المتحدة، حيث حوكم وسجن بتهم ذات صلة بالإرهاب. ثم قال إن أجهزة الأمن التركية كانت قد اعتقلت بوغيث بعد تلقي جهاز الاستخبارات التركي معلومات من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بصدد وصول زوج ابنة بن لادن سليمان إلى تركيا، وتوصل جهاز الاستخبارات التركي لعنوانه في أحد الفنادق في حي تشانكايا بالعاصمة أنقرة، غير أن محكمة تركية قضت بإطلاق سراحه كونه لا توجد له جريمة أو أعمال إرهابية في تركيا، وفي نهاية الأمر اعتقل في الأردن. ولقد حوكم بوغيث بتهمة التآمر لقتل أميركيين عقب «هجمات 11 سبتمبر 2001» على نيويورك وواشنطن، من خلال دوره المفترض في دعاية لـ«القاعدة» يحث فيها على قتل الأميركيين. وحسب المعلومات، رفض بوغيث التهم التي وجهت إليه، وأكد براءته.
ويُشار إلى أن مسؤولين أميركيين كشفوا أخيرًا أن محققين أميركيين تتبعوا بوغيث منذ نحو عشر سنوات قبل احتجازه في الأردن ونقله إلى نيويورك بواسطة «مكتب التحقيقات الاتحادي (الفيدرالي) الأميركي» (إف بي آي) في الأيام الماضية. ويُعتقد، وفق أصوليين في لندن، أن بوغيث أمضى معظم فترة السنوات العشر الماضية في إيران، التي لجأ إليها بعد الهجمات على الولايات المتحدة مع مجموعة أخرى من أنصار بن لادن.
ويؤكد مسؤولون أميركيون أمنيون حاليون وسابقون أن تلك المجموعة - التي يعرفها محققون باسم «مجلس إدارة» تنظيم القاعدة - كانت على نحو أو آخر تحت سيطرة الحكومة الإيرانية التي كانت تنظر إليها بريبة.
وكان من بين أعضاء المجموعة أيضًا سيف العدل، أحد كبار القادة العسكريين لـ«القاعدة»، وسعد بن لادن، أحد أبناء أسامة. ولقد كشف مسؤول أميركي سابق أنه في أواخر عام 2002 وأوائل عام 2003 أجرى ضباط من وكالة «سي آي إيه» مباحثات سرية في أوروبا مع مسؤولين إيرانيين بشأن إمكانية طرد بوغيث وزملائه في «القاعدة» من إيران إلى المملكة العربية السعودية أو أي بلد عربي آخر.
هذا الدور الازدواجي الإيراني في التعامل مع عناصر «القاعدة» لم يغب عن أسامة بن لادن بحسب ما كشفته الرسائل التي عُثر عليها في أبوت آباد حيث قُتل. فقد رأى بن لادن أن إيران «تلعب دور الوشاية بالتنظيمات بعد استقطابها». كما أكدت تحليلات أن عملية مقتل سعد بن لادن نجل أسامة بن لادن على الحدود الإيرانية الباكستانية بواسطة طائرة دون طيار «درون» أميركية تمت بإشراف إيراني عبر بعض العملاء الذين أبلغوا عن رحلات سعد بن لادن من وإلى إيران.
وحول الإفراج عن سيف العدل، يقول مراقبون وخبراء في مكافحة الإرهاب، إن ثلاثة من بين الخمسة المفرج عنهم كانوا أعضاء في مجلس شورى تنظيم القاعدة. وقد جاء في التقرير الرسمي أنه أطلق سراحهم مقابل الإفراج عن دبلوماسي إيراني مختطف في اليمن، و«ضمن أبرز الأسماء المفرج عنهم أبو الخير المصري المسؤول السابق للعلاقات الخارجية بتنظيم القاعدة، كذلك ذُكرت أسماء أبو محمد المصري، وهو ضابط سابق بالجيش المصري وأحد أبرز القادة العسكريين لتنظيم القاعدة، والأردنيين خالد العاروري وساري شهاب.
خبر الإفراج عن هؤلاء الخمسة شاع في أوساط الأصوليين، إلا أنه لم يأتِ من مصادر رسمية داخل تنظيم القاعدة، في الوقت الذي يؤكد فيه البعض أن التنظيم سيتكتم على خبر الإفراج عنهم إلى حين تكليفهم بمهام جديدة، ربما في إحدى نقاط الصراع المشتعلة سواء كانت اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا. و«هذا ما سيعيد لتنظيم القاعدة توازنه بحسب متابعين»، غير أن هاني السباعي أكد لـ«الشرق الأوسط» أن خبر الإفراج عن القياديين الخمسة «سيظل بين التصديق والتكذيب إلى أن يؤكده أصحاب الشأن، أي (القاعدة) بإعلان تحريرهم، كخبر يبشرون به الأمة، كما حدث من قبل في ظروف مماثلة».
من جهته، كشف خبير مكافحة الإرهاب الأميركي الدكتور بول كريشنيك لـ«الشرق الأوسط» عن أن «تجميد الخزانة الأميركية أموال ستة من قياديي (القاعدة) الموجودين في إيران عام 2011 بأمر قضائي رقم 13224، بينهم عز الدين عبد العزيز خليل (ياسين السوري) مموّل التنظيم، وعطية عبد الرحمن (الليبي)»، يؤكد أيضًا أن طهران كانت حلقة مهمة في تمويل «القاعدة» في باكستان وأفغانستان.
وأضاف كريشنيك، وهو محلل يعمل مع قناة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية أن السلطات الأميركية رصدت عام 2011 مبلغ عشرة ملايين دولار مكافأة لمن يقدم معلومات تتيح العثور على «ياسين السوري» الموجود في إيران، وتقول إنه يموّل تنظيم القاعدة، وأوضح أنها «المرة الأولى التي تخصص فيها مثل هذه المكافأة للقبض على ممول للإرهاب».
وحسب الخبير الأميركي، فإن «ياسين السوري» كان مسؤولاً عن ومشرفًا على جهود تنظيم القاعدة لنقل عملاء ذوي خبرة وقادة من باكستان إلى سوريا، وتنظيم وصيانة الطرق التي يستخدمها المجندون الجدد للسفر إلى سوريا عن طريق تركيا، والمساعدة في تحريك عناصر خارجية لتنظيم القاعدة إلى الغرب. وجاءت سلسلة العقوبات الجديدة، التي فرضتها الخزانة الأميركية على أشخاص وشركات انتهكت العقوبات المفروضة على إيران، لتؤكد تنسيقًا محتملاً، أو سكوتًا على الأقل، من قبل السلطات الإيرانية على نشاط تنظيم القاعدة وتزويدها جبهة النصرة بالخبرات القتالية عبر أراضيها. وضمن الأسماء التي وردت أيضًا على لائحة الخزانة الأميركية، بحسب كريشنيك، عطية عبد الرحمن الذي قتل في نهاية عام 2001، ونعاه تنظيم القاعدة. وكان مقتل عطية عبد الرحمن - الذي يوصف بـ«الرجل الثاني» في التنظيم - على يد قوات أميركية بمنطقة وزيرستان القبلية بباكستان في 22 أغسطس (آب) ضربة كبيرة موجعة للتنظيم. وكان عبد الرحمن ينشط بشكل كثيف في إدارة عمليات «القاعدة» ولطالما اعتمد عليه الظواهري منذ مقتل أسامة بن لادن. كذلك، ورد اسم آخر بارز في قائمة العقوبات أيضًا، هو أولمزون أحمدوفيتش صادقييف، الذي يعرف باسم «جعفر الأوزبكي»، ووصف بأنه «شخصية أساسية في تنظيم القاعدة»، وهو يقيم في إيران منذ سنوات.
وحسب المعلومات المتوافرة عنه فإنه عضو في «اتحاد الجهاد الإسلامي»، وتتهمه الخزانة الأميركية بإدارة شبكة للتنظيم مسؤولة عن نقل الأموال والمقاتلين الأجانب عبر تركيا لصالح جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» في سوريا.
إيران تواصل النفي
أما الجانب الإيراني، فقد نفى إجراء صفقة تبادل مع «القاعدة» من الأساس، وذلك على لسان الناطقين باسم الخارجية الإيرانية. وقد يكون موقف الوزارة مفهومًا في ظل وضعيتها الجديدة مع الغرب ما بعد الاتفاق النووي. ولقد رفض دبلوماسي إيراني ادعاءات شبكة «سكاي نيوز» الإخبارية وعاد إلى نغمة الشعارات التي تُسوق للغرب «كمحاربة إيران للإرهاب» وما إلى آخره. ولكن في مطلق الأحوال، فإن الأنباء المتناقلة بين المتطرفين على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد خروج هذه الأسماء من إيران في الفترة الأخيرة. ولكن كل هذا يُصيب الباحثين في العلاقة بين هذين الطرفين المتضادين (لفظيًا على الأقل) بحيرة شديدة، فهم يجدون أنفسهم أمام تنظيم يُكفر الشيعة من منطلق عقائدي ويراهم «أخطر على الأمة من اليهود»، بحسب التعبيرات الآيديولوجية للتنظيم، والجمهورية الإسلامية الإيرانية ممثل التشيع الأول في المنطقة والعالم وصاحبة مشروع التمدد والنفوذ الشيعي في الشرق الأوسط.
ومن ضمن مظاهر هذا التناقض أيضًا في هذه العلاقة، ما ذكرته الكثير من التقارير الصحافية من زمن بعيد عن أن السلطات الإيرانية وفّرت ملاذًا آمنًا داخل إيران لأسرة أسامة بن لادن بعدما حوصر في مقر إقامته بأفغانستان لفترة. وهو تصرف يبدو لأول وهلة غير مفهوم، «لكنه مؤكد الحدوث بعدما ظهرت خطابات أسامة بن لادن في أعقاب مقتله في أبوت آباد بشمال باكستان، التي كانت مرسلة لإحدى زوجاته المقيمات في إيران (يعتقد أنها السيدة أم حمزة)، وهو يحذرها من إمكانية تتبع الاستخبارات الإيرانية لها بعد خروجها إليه، بحسب إسلاميين في لندن».
وحسب المصادر المطلعة، يمكن «الجزم بأن إيران كانت تستضيف هؤلاء الأشخاص في صورة أشبه بالإقامة الجبرية كنوع من الضغط على الغرب بمساعدة تنظيمات مناوئة له، كما أن هذه التنظيمات تُعادي دول الخليج بشكل واضح، وهذا أيضًا دافع براغماتي عند الإيرانيين في تبنى مواقف مرنة من تنظيم كـ(القاعدة)، تمهيدًا لاستخدامه لاحقًا في مخططاتهم العدائية للخليج».
وقد تُفسر هذه الأحداث السابقة، ولا سيما عملية قتل سعد بن لادن على الحدود الباكستانية - الإيرانية (التي سبقت الإشارة إليها)، حديث أبي محمد العدناني القيادي في تنظيم داعش، والناطق باسمه، أخيرًا عندما تكلم في أحد إصداراته المهاجمة لتنظيم القاعدة عن طلب قيادات «القاعدة» منهم - أي من «داعش» - في الماضي تحاشي توجيه ضربات إلى إيران. وهو ما يؤكد حقًا وجود روابط وثيقة جمعت بين «القاعدة» وإيران أراد التنظيم الحفاظ عليها عبر حماية إيران من هجمات المتطرفين.
ويرى مراقبون أن هذه قرينة أخرى تجيب عن تساؤلات طرحت بإلحاح طوال فترة طويلة حول سبب إحجام التنظيمات المتشددة كـ«داعش» و«القاعدة» عن استهداف للداخل الإيراني على رغم وجود كل هذا العداء بين الطرفين.
أخيرًا وليس آخرًا، قدّم مركز «ويست بوينت» لدراسات مكافحة الإرهاب وثائق تعود لأسامة بن لادن، حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها بالعربية، وهي تقع في 175 صفحة. وفي هذا الوثائق إشارة مباشرة إلى رفض بن لادن في رسالة إلى الشيخ محمود «أن يذهب الإخوة إلى إيران، وحث على أن يطلب من الإخوة السمع والطاعة، وحفظ أسرار العمل وبالنسبة للإخوة القادمين من إيران الابتعاد عن أماكن القصف». وتؤكد الوثائق وجود هذه العلاقة التي تجمع ما بين إيران وتنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي أكده التقرير الرسمي للجنة التحقيق في أحداث «11 سبتمبر» المنشور في عام 2004.
وبحسب هذه التقارير، فإن تعامل إيران مع تنظيم القاعدة سابق لهذا التاريخ، إذ يعود لفترة التسعينات، أي إبان وجود قياديي التنظيم في السودان، نظرًا لتوطد علاقة الإيرانيين بالنظام السوداني في حينه. ومع أن التقارير لا تشير إلى وجود تحالف صريح بين إيران وتنظيم القاعدة فإنها تحدثت عن وجود «مفاوضات غير مباشرة» بين الطرفين.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.