تعامل إيران مع {القاعدة} بدأ في التسعينات تمهيدًا لاستخدامها في مخططاتها العدائية للخليج

خبير أميركي: تجميد واشنطن أموال 6 من قادة التنظيم في طهران يؤكد دورها في تمويله

عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
TT

تعامل إيران مع {القاعدة} بدأ في التسعينات تمهيدًا لاستخدامها في مخططاتها العدائية للخليج

عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية

يقول الباحث الإسلامي المصري الدكتور هاني السباعي: «العداء بين إيران الشيعية والقاعدة ذات المنهج السني، قد يكون من أشد أنواع العداء السافر، وكثيرا ما هاجم أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» في أشرطته الصوتية إيران، بسبب سوء معاملتها للقيادات التي دخلت إلى طهران بعد سقوط طالبان نهاية عام 2001. وأضاف السباعي، وهو خبير دراسات مكافحة الإرهاب ويتولى منصب مدير «مركز المقريزي للدراسات» في العاصمة البريطانية لندن، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «قياديي (القاعدة) دخلوا إيران عبر أراضي بلوشستان السنّية، إلا أنهم اعتقلوا وظلوا لسنوات في قبضة الحرس الثوري الإيراني، ومن ثم، حافظت عليهم طهران، على أمل استخدامهم كورقة تفاوض مع أميركا أو مع دول الخليج».
السباعي أوضح أن «إيران الشيعية كانت توحي وتدغدغ مشاعر أهل السنّة»، بالقول إنها استضافت قياديي «القاعدة»، في حين قامت باكستان بتسليم العشرات من عناصر «القاعدة» إلى الولايات المتحدة، حيث انتهى بهم المطاف في معتقل غوانتانامو. وكشف نقلا عن العائلات العربية من جماعتي «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» المصرية التي غادرت طهران، أن أولاد القياديين الذين عاشوا في قبضة الحرس الثوري الإيراني حرموا من التعليم الأساسي. بل إن زوجة محمد شوقي الإسلامبولي، شقيق خالد الإسلامبولي قاتل أنور السادات وشقيقة أسامة حافظ أحد قياديي «الجماعة الإسلامية» ، توفيت في طهران بسبب الإهمال الصحي وعدم تلقيها العلاج.
وأشار أيضًا إلى أن أيمن الظواهري، نفسه، خلال مؤتمره الصحافي مع مؤسسة «سحاب» وصف ملالي إيران بأنهم «كفار، ولكن العوام منهم جهال»، وإلى أن الظواهري قال إن «إيران لا تدفع إلا لمن يؤيدها بالإثم أو لمن يترحم على الخميني». وتابع السباعي أن الظواهري نصح زملاءه المحتجزين في طهران بأن القيادة الإيرانية «لا يوثق بها، وتبيع الخداع والوهم للجماعات الإسلامية - المقصود بها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» - وتتاجر بها.
ووفق السباعي، فإن «عائلات كثيرة لقياديي (القاعدة) نجحت في الخروج من طهران بعد ثورة 25 يناير في مصر، مثل ثروت صلاح شحاته (نائب الظواهري) ومحمد شوقي الإسلامبولي ومصطفى حامد (أبو الوليد المصري) صهر سيف العدل».
وكشف السباعي أيضًا أن إيران هي التي مرّرت معلومات وتفاصيل رحلة سليمان بوغيث المواطن الكويتي - المسحوبة جنسيته، المتحدث الإعلامي باسم «القاعدة» وزوج ابنة بن لادن، قبل سفره إلى تركيا في طريقه إلى الأردن، حيث اعتقل وجرى ترحيله إلى الولايات المتحدة، حيث حوكم وسجن بتهم ذات صلة بالإرهاب. ثم قال إن أجهزة الأمن التركية كانت قد اعتقلت بوغيث بعد تلقي جهاز الاستخبارات التركي معلومات من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بصدد وصول زوج ابنة بن لادن سليمان إلى تركيا، وتوصل جهاز الاستخبارات التركي لعنوانه في أحد الفنادق في حي تشانكايا بالعاصمة أنقرة، غير أن محكمة تركية قضت بإطلاق سراحه كونه لا توجد له جريمة أو أعمال إرهابية في تركيا، وفي نهاية الأمر اعتقل في الأردن. ولقد حوكم بوغيث بتهمة التآمر لقتل أميركيين عقب «هجمات 11 سبتمبر 2001» على نيويورك وواشنطن، من خلال دوره المفترض في دعاية لـ«القاعدة» يحث فيها على قتل الأميركيين. وحسب المعلومات، رفض بوغيث التهم التي وجهت إليه، وأكد براءته.
ويُشار إلى أن مسؤولين أميركيين كشفوا أخيرًا أن محققين أميركيين تتبعوا بوغيث منذ نحو عشر سنوات قبل احتجازه في الأردن ونقله إلى نيويورك بواسطة «مكتب التحقيقات الاتحادي (الفيدرالي) الأميركي» (إف بي آي) في الأيام الماضية. ويُعتقد، وفق أصوليين في لندن، أن بوغيث أمضى معظم فترة السنوات العشر الماضية في إيران، التي لجأ إليها بعد الهجمات على الولايات المتحدة مع مجموعة أخرى من أنصار بن لادن.
ويؤكد مسؤولون أميركيون أمنيون حاليون وسابقون أن تلك المجموعة - التي يعرفها محققون باسم «مجلس إدارة» تنظيم القاعدة - كانت على نحو أو آخر تحت سيطرة الحكومة الإيرانية التي كانت تنظر إليها بريبة.
وكان من بين أعضاء المجموعة أيضًا سيف العدل، أحد كبار القادة العسكريين لـ«القاعدة»، وسعد بن لادن، أحد أبناء أسامة. ولقد كشف مسؤول أميركي سابق أنه في أواخر عام 2002 وأوائل عام 2003 أجرى ضباط من وكالة «سي آي إيه» مباحثات سرية في أوروبا مع مسؤولين إيرانيين بشأن إمكانية طرد بوغيث وزملائه في «القاعدة» من إيران إلى المملكة العربية السعودية أو أي بلد عربي آخر.
هذا الدور الازدواجي الإيراني في التعامل مع عناصر «القاعدة» لم يغب عن أسامة بن لادن بحسب ما كشفته الرسائل التي عُثر عليها في أبوت آباد حيث قُتل. فقد رأى بن لادن أن إيران «تلعب دور الوشاية بالتنظيمات بعد استقطابها». كما أكدت تحليلات أن عملية مقتل سعد بن لادن نجل أسامة بن لادن على الحدود الإيرانية الباكستانية بواسطة طائرة دون طيار «درون» أميركية تمت بإشراف إيراني عبر بعض العملاء الذين أبلغوا عن رحلات سعد بن لادن من وإلى إيران.
وحول الإفراج عن سيف العدل، يقول مراقبون وخبراء في مكافحة الإرهاب، إن ثلاثة من بين الخمسة المفرج عنهم كانوا أعضاء في مجلس شورى تنظيم القاعدة. وقد جاء في التقرير الرسمي أنه أطلق سراحهم مقابل الإفراج عن دبلوماسي إيراني مختطف في اليمن، و«ضمن أبرز الأسماء المفرج عنهم أبو الخير المصري المسؤول السابق للعلاقات الخارجية بتنظيم القاعدة، كذلك ذُكرت أسماء أبو محمد المصري، وهو ضابط سابق بالجيش المصري وأحد أبرز القادة العسكريين لتنظيم القاعدة، والأردنيين خالد العاروري وساري شهاب.
خبر الإفراج عن هؤلاء الخمسة شاع في أوساط الأصوليين، إلا أنه لم يأتِ من مصادر رسمية داخل تنظيم القاعدة، في الوقت الذي يؤكد فيه البعض أن التنظيم سيتكتم على خبر الإفراج عنهم إلى حين تكليفهم بمهام جديدة، ربما في إحدى نقاط الصراع المشتعلة سواء كانت اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا. و«هذا ما سيعيد لتنظيم القاعدة توازنه بحسب متابعين»، غير أن هاني السباعي أكد لـ«الشرق الأوسط» أن خبر الإفراج عن القياديين الخمسة «سيظل بين التصديق والتكذيب إلى أن يؤكده أصحاب الشأن، أي (القاعدة) بإعلان تحريرهم، كخبر يبشرون به الأمة، كما حدث من قبل في ظروف مماثلة».
من جهته، كشف خبير مكافحة الإرهاب الأميركي الدكتور بول كريشنيك لـ«الشرق الأوسط» عن أن «تجميد الخزانة الأميركية أموال ستة من قياديي (القاعدة) الموجودين في إيران عام 2011 بأمر قضائي رقم 13224، بينهم عز الدين عبد العزيز خليل (ياسين السوري) مموّل التنظيم، وعطية عبد الرحمن (الليبي)»، يؤكد أيضًا أن طهران كانت حلقة مهمة في تمويل «القاعدة» في باكستان وأفغانستان.
وأضاف كريشنيك، وهو محلل يعمل مع قناة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية أن السلطات الأميركية رصدت عام 2011 مبلغ عشرة ملايين دولار مكافأة لمن يقدم معلومات تتيح العثور على «ياسين السوري» الموجود في إيران، وتقول إنه يموّل تنظيم القاعدة، وأوضح أنها «المرة الأولى التي تخصص فيها مثل هذه المكافأة للقبض على ممول للإرهاب».
وحسب الخبير الأميركي، فإن «ياسين السوري» كان مسؤولاً عن ومشرفًا على جهود تنظيم القاعدة لنقل عملاء ذوي خبرة وقادة من باكستان إلى سوريا، وتنظيم وصيانة الطرق التي يستخدمها المجندون الجدد للسفر إلى سوريا عن طريق تركيا، والمساعدة في تحريك عناصر خارجية لتنظيم القاعدة إلى الغرب. وجاءت سلسلة العقوبات الجديدة، التي فرضتها الخزانة الأميركية على أشخاص وشركات انتهكت العقوبات المفروضة على إيران، لتؤكد تنسيقًا محتملاً، أو سكوتًا على الأقل، من قبل السلطات الإيرانية على نشاط تنظيم القاعدة وتزويدها جبهة النصرة بالخبرات القتالية عبر أراضيها. وضمن الأسماء التي وردت أيضًا على لائحة الخزانة الأميركية، بحسب كريشنيك، عطية عبد الرحمن الذي قتل في نهاية عام 2001، ونعاه تنظيم القاعدة. وكان مقتل عطية عبد الرحمن - الذي يوصف بـ«الرجل الثاني» في التنظيم - على يد قوات أميركية بمنطقة وزيرستان القبلية بباكستان في 22 أغسطس (آب) ضربة كبيرة موجعة للتنظيم. وكان عبد الرحمن ينشط بشكل كثيف في إدارة عمليات «القاعدة» ولطالما اعتمد عليه الظواهري منذ مقتل أسامة بن لادن. كذلك، ورد اسم آخر بارز في قائمة العقوبات أيضًا، هو أولمزون أحمدوفيتش صادقييف، الذي يعرف باسم «جعفر الأوزبكي»، ووصف بأنه «شخصية أساسية في تنظيم القاعدة»، وهو يقيم في إيران منذ سنوات.
وحسب المعلومات المتوافرة عنه فإنه عضو في «اتحاد الجهاد الإسلامي»، وتتهمه الخزانة الأميركية بإدارة شبكة للتنظيم مسؤولة عن نقل الأموال والمقاتلين الأجانب عبر تركيا لصالح جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» في سوريا.
إيران تواصل النفي
أما الجانب الإيراني، فقد نفى إجراء صفقة تبادل مع «القاعدة» من الأساس، وذلك على لسان الناطقين باسم الخارجية الإيرانية. وقد يكون موقف الوزارة مفهومًا في ظل وضعيتها الجديدة مع الغرب ما بعد الاتفاق النووي. ولقد رفض دبلوماسي إيراني ادعاءات شبكة «سكاي نيوز» الإخبارية وعاد إلى نغمة الشعارات التي تُسوق للغرب «كمحاربة إيران للإرهاب» وما إلى آخره. ولكن في مطلق الأحوال، فإن الأنباء المتناقلة بين المتطرفين على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد خروج هذه الأسماء من إيران في الفترة الأخيرة. ولكن كل هذا يُصيب الباحثين في العلاقة بين هذين الطرفين المتضادين (لفظيًا على الأقل) بحيرة شديدة، فهم يجدون أنفسهم أمام تنظيم يُكفر الشيعة من منطلق عقائدي ويراهم «أخطر على الأمة من اليهود»، بحسب التعبيرات الآيديولوجية للتنظيم، والجمهورية الإسلامية الإيرانية ممثل التشيع الأول في المنطقة والعالم وصاحبة مشروع التمدد والنفوذ الشيعي في الشرق الأوسط.
ومن ضمن مظاهر هذا التناقض أيضًا في هذه العلاقة، ما ذكرته الكثير من التقارير الصحافية من زمن بعيد عن أن السلطات الإيرانية وفّرت ملاذًا آمنًا داخل إيران لأسرة أسامة بن لادن بعدما حوصر في مقر إقامته بأفغانستان لفترة. وهو تصرف يبدو لأول وهلة غير مفهوم، «لكنه مؤكد الحدوث بعدما ظهرت خطابات أسامة بن لادن في أعقاب مقتله في أبوت آباد بشمال باكستان، التي كانت مرسلة لإحدى زوجاته المقيمات في إيران (يعتقد أنها السيدة أم حمزة)، وهو يحذرها من إمكانية تتبع الاستخبارات الإيرانية لها بعد خروجها إليه، بحسب إسلاميين في لندن».
وحسب المصادر المطلعة، يمكن «الجزم بأن إيران كانت تستضيف هؤلاء الأشخاص في صورة أشبه بالإقامة الجبرية كنوع من الضغط على الغرب بمساعدة تنظيمات مناوئة له، كما أن هذه التنظيمات تُعادي دول الخليج بشكل واضح، وهذا أيضًا دافع براغماتي عند الإيرانيين في تبنى مواقف مرنة من تنظيم كـ(القاعدة)، تمهيدًا لاستخدامه لاحقًا في مخططاتهم العدائية للخليج».
وقد تُفسر هذه الأحداث السابقة، ولا سيما عملية قتل سعد بن لادن على الحدود الباكستانية - الإيرانية (التي سبقت الإشارة إليها)، حديث أبي محمد العدناني القيادي في تنظيم داعش، والناطق باسمه، أخيرًا عندما تكلم في أحد إصداراته المهاجمة لتنظيم القاعدة عن طلب قيادات «القاعدة» منهم - أي من «داعش» - في الماضي تحاشي توجيه ضربات إلى إيران. وهو ما يؤكد حقًا وجود روابط وثيقة جمعت بين «القاعدة» وإيران أراد التنظيم الحفاظ عليها عبر حماية إيران من هجمات المتطرفين.
ويرى مراقبون أن هذه قرينة أخرى تجيب عن تساؤلات طرحت بإلحاح طوال فترة طويلة حول سبب إحجام التنظيمات المتشددة كـ«داعش» و«القاعدة» عن استهداف للداخل الإيراني على رغم وجود كل هذا العداء بين الطرفين.
أخيرًا وليس آخرًا، قدّم مركز «ويست بوينت» لدراسات مكافحة الإرهاب وثائق تعود لأسامة بن لادن، حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها بالعربية، وهي تقع في 175 صفحة. وفي هذا الوثائق إشارة مباشرة إلى رفض بن لادن في رسالة إلى الشيخ محمود «أن يذهب الإخوة إلى إيران، وحث على أن يطلب من الإخوة السمع والطاعة، وحفظ أسرار العمل وبالنسبة للإخوة القادمين من إيران الابتعاد عن أماكن القصف». وتؤكد الوثائق وجود هذه العلاقة التي تجمع ما بين إيران وتنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي أكده التقرير الرسمي للجنة التحقيق في أحداث «11 سبتمبر» المنشور في عام 2004.
وبحسب هذه التقارير، فإن تعامل إيران مع تنظيم القاعدة سابق لهذا التاريخ، إذ يعود لفترة التسعينات، أي إبان وجود قياديي التنظيم في السودان، نظرًا لتوطد علاقة الإيرانيين بالنظام السوداني في حينه. ومع أن التقارير لا تشير إلى وجود تحالف صريح بين إيران وتنظيم القاعدة فإنها تحدثت عن وجود «مفاوضات غير مباشرة» بين الطرفين.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».