تعامل إيران مع {القاعدة} بدأ في التسعينات تمهيدًا لاستخدامها في مخططاتها العدائية للخليج

خبير أميركي: تجميد واشنطن أموال 6 من قادة التنظيم في طهران يؤكد دورها في تمويله

عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
TT

تعامل إيران مع {القاعدة} بدأ في التسعينات تمهيدًا لاستخدامها في مخططاتها العدائية للخليج

عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية
عشرات من الوثائق في انتظار الإفراج عنها من مخبأ بن لادن بأبوت آباد الباكستانية

يقول الباحث الإسلامي المصري الدكتور هاني السباعي: «العداء بين إيران الشيعية والقاعدة ذات المنهج السني، قد يكون من أشد أنواع العداء السافر، وكثيرا ما هاجم أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» في أشرطته الصوتية إيران، بسبب سوء معاملتها للقيادات التي دخلت إلى طهران بعد سقوط طالبان نهاية عام 2001. وأضاف السباعي، وهو خبير دراسات مكافحة الإرهاب ويتولى منصب مدير «مركز المقريزي للدراسات» في العاصمة البريطانية لندن، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «قياديي (القاعدة) دخلوا إيران عبر أراضي بلوشستان السنّية، إلا أنهم اعتقلوا وظلوا لسنوات في قبضة الحرس الثوري الإيراني، ومن ثم، حافظت عليهم طهران، على أمل استخدامهم كورقة تفاوض مع أميركا أو مع دول الخليج».
السباعي أوضح أن «إيران الشيعية كانت توحي وتدغدغ مشاعر أهل السنّة»، بالقول إنها استضافت قياديي «القاعدة»، في حين قامت باكستان بتسليم العشرات من عناصر «القاعدة» إلى الولايات المتحدة، حيث انتهى بهم المطاف في معتقل غوانتانامو. وكشف نقلا عن العائلات العربية من جماعتي «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» المصرية التي غادرت طهران، أن أولاد القياديين الذين عاشوا في قبضة الحرس الثوري الإيراني حرموا من التعليم الأساسي. بل إن زوجة محمد شوقي الإسلامبولي، شقيق خالد الإسلامبولي قاتل أنور السادات وشقيقة أسامة حافظ أحد قياديي «الجماعة الإسلامية» ، توفيت في طهران بسبب الإهمال الصحي وعدم تلقيها العلاج.
وأشار أيضًا إلى أن أيمن الظواهري، نفسه، خلال مؤتمره الصحافي مع مؤسسة «سحاب» وصف ملالي إيران بأنهم «كفار، ولكن العوام منهم جهال»، وإلى أن الظواهري قال إن «إيران لا تدفع إلا لمن يؤيدها بالإثم أو لمن يترحم على الخميني». وتابع السباعي أن الظواهري نصح زملاءه المحتجزين في طهران بأن القيادة الإيرانية «لا يوثق بها، وتبيع الخداع والوهم للجماعات الإسلامية - المقصود بها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» - وتتاجر بها.
ووفق السباعي، فإن «عائلات كثيرة لقياديي (القاعدة) نجحت في الخروج من طهران بعد ثورة 25 يناير في مصر، مثل ثروت صلاح شحاته (نائب الظواهري) ومحمد شوقي الإسلامبولي ومصطفى حامد (أبو الوليد المصري) صهر سيف العدل».
وكشف السباعي أيضًا أن إيران هي التي مرّرت معلومات وتفاصيل رحلة سليمان بوغيث المواطن الكويتي - المسحوبة جنسيته، المتحدث الإعلامي باسم «القاعدة» وزوج ابنة بن لادن، قبل سفره إلى تركيا في طريقه إلى الأردن، حيث اعتقل وجرى ترحيله إلى الولايات المتحدة، حيث حوكم وسجن بتهم ذات صلة بالإرهاب. ثم قال إن أجهزة الأمن التركية كانت قد اعتقلت بوغيث بعد تلقي جهاز الاستخبارات التركي معلومات من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بصدد وصول زوج ابنة بن لادن سليمان إلى تركيا، وتوصل جهاز الاستخبارات التركي لعنوانه في أحد الفنادق في حي تشانكايا بالعاصمة أنقرة، غير أن محكمة تركية قضت بإطلاق سراحه كونه لا توجد له جريمة أو أعمال إرهابية في تركيا، وفي نهاية الأمر اعتقل في الأردن. ولقد حوكم بوغيث بتهمة التآمر لقتل أميركيين عقب «هجمات 11 سبتمبر 2001» على نيويورك وواشنطن، من خلال دوره المفترض في دعاية لـ«القاعدة» يحث فيها على قتل الأميركيين. وحسب المعلومات، رفض بوغيث التهم التي وجهت إليه، وأكد براءته.
ويُشار إلى أن مسؤولين أميركيين كشفوا أخيرًا أن محققين أميركيين تتبعوا بوغيث منذ نحو عشر سنوات قبل احتجازه في الأردن ونقله إلى نيويورك بواسطة «مكتب التحقيقات الاتحادي (الفيدرالي) الأميركي» (إف بي آي) في الأيام الماضية. ويُعتقد، وفق أصوليين في لندن، أن بوغيث أمضى معظم فترة السنوات العشر الماضية في إيران، التي لجأ إليها بعد الهجمات على الولايات المتحدة مع مجموعة أخرى من أنصار بن لادن.
ويؤكد مسؤولون أميركيون أمنيون حاليون وسابقون أن تلك المجموعة - التي يعرفها محققون باسم «مجلس إدارة» تنظيم القاعدة - كانت على نحو أو آخر تحت سيطرة الحكومة الإيرانية التي كانت تنظر إليها بريبة.
وكان من بين أعضاء المجموعة أيضًا سيف العدل، أحد كبار القادة العسكريين لـ«القاعدة»، وسعد بن لادن، أحد أبناء أسامة. ولقد كشف مسؤول أميركي سابق أنه في أواخر عام 2002 وأوائل عام 2003 أجرى ضباط من وكالة «سي آي إيه» مباحثات سرية في أوروبا مع مسؤولين إيرانيين بشأن إمكانية طرد بوغيث وزملائه في «القاعدة» من إيران إلى المملكة العربية السعودية أو أي بلد عربي آخر.
هذا الدور الازدواجي الإيراني في التعامل مع عناصر «القاعدة» لم يغب عن أسامة بن لادن بحسب ما كشفته الرسائل التي عُثر عليها في أبوت آباد حيث قُتل. فقد رأى بن لادن أن إيران «تلعب دور الوشاية بالتنظيمات بعد استقطابها». كما أكدت تحليلات أن عملية مقتل سعد بن لادن نجل أسامة بن لادن على الحدود الإيرانية الباكستانية بواسطة طائرة دون طيار «درون» أميركية تمت بإشراف إيراني عبر بعض العملاء الذين أبلغوا عن رحلات سعد بن لادن من وإلى إيران.
وحول الإفراج عن سيف العدل، يقول مراقبون وخبراء في مكافحة الإرهاب، إن ثلاثة من بين الخمسة المفرج عنهم كانوا أعضاء في مجلس شورى تنظيم القاعدة. وقد جاء في التقرير الرسمي أنه أطلق سراحهم مقابل الإفراج عن دبلوماسي إيراني مختطف في اليمن، و«ضمن أبرز الأسماء المفرج عنهم أبو الخير المصري المسؤول السابق للعلاقات الخارجية بتنظيم القاعدة، كذلك ذُكرت أسماء أبو محمد المصري، وهو ضابط سابق بالجيش المصري وأحد أبرز القادة العسكريين لتنظيم القاعدة، والأردنيين خالد العاروري وساري شهاب.
خبر الإفراج عن هؤلاء الخمسة شاع في أوساط الأصوليين، إلا أنه لم يأتِ من مصادر رسمية داخل تنظيم القاعدة، في الوقت الذي يؤكد فيه البعض أن التنظيم سيتكتم على خبر الإفراج عنهم إلى حين تكليفهم بمهام جديدة، ربما في إحدى نقاط الصراع المشتعلة سواء كانت اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا. و«هذا ما سيعيد لتنظيم القاعدة توازنه بحسب متابعين»، غير أن هاني السباعي أكد لـ«الشرق الأوسط» أن خبر الإفراج عن القياديين الخمسة «سيظل بين التصديق والتكذيب إلى أن يؤكده أصحاب الشأن، أي (القاعدة) بإعلان تحريرهم، كخبر يبشرون به الأمة، كما حدث من قبل في ظروف مماثلة».
من جهته، كشف خبير مكافحة الإرهاب الأميركي الدكتور بول كريشنيك لـ«الشرق الأوسط» عن أن «تجميد الخزانة الأميركية أموال ستة من قياديي (القاعدة) الموجودين في إيران عام 2011 بأمر قضائي رقم 13224، بينهم عز الدين عبد العزيز خليل (ياسين السوري) مموّل التنظيم، وعطية عبد الرحمن (الليبي)»، يؤكد أيضًا أن طهران كانت حلقة مهمة في تمويل «القاعدة» في باكستان وأفغانستان.
وأضاف كريشنيك، وهو محلل يعمل مع قناة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية أن السلطات الأميركية رصدت عام 2011 مبلغ عشرة ملايين دولار مكافأة لمن يقدم معلومات تتيح العثور على «ياسين السوري» الموجود في إيران، وتقول إنه يموّل تنظيم القاعدة، وأوضح أنها «المرة الأولى التي تخصص فيها مثل هذه المكافأة للقبض على ممول للإرهاب».
وحسب الخبير الأميركي، فإن «ياسين السوري» كان مسؤولاً عن ومشرفًا على جهود تنظيم القاعدة لنقل عملاء ذوي خبرة وقادة من باكستان إلى سوريا، وتنظيم وصيانة الطرق التي يستخدمها المجندون الجدد للسفر إلى سوريا عن طريق تركيا، والمساعدة في تحريك عناصر خارجية لتنظيم القاعدة إلى الغرب. وجاءت سلسلة العقوبات الجديدة، التي فرضتها الخزانة الأميركية على أشخاص وشركات انتهكت العقوبات المفروضة على إيران، لتؤكد تنسيقًا محتملاً، أو سكوتًا على الأقل، من قبل السلطات الإيرانية على نشاط تنظيم القاعدة وتزويدها جبهة النصرة بالخبرات القتالية عبر أراضيها. وضمن الأسماء التي وردت أيضًا على لائحة الخزانة الأميركية، بحسب كريشنيك، عطية عبد الرحمن الذي قتل في نهاية عام 2001، ونعاه تنظيم القاعدة. وكان مقتل عطية عبد الرحمن - الذي يوصف بـ«الرجل الثاني» في التنظيم - على يد قوات أميركية بمنطقة وزيرستان القبلية بباكستان في 22 أغسطس (آب) ضربة كبيرة موجعة للتنظيم. وكان عبد الرحمن ينشط بشكل كثيف في إدارة عمليات «القاعدة» ولطالما اعتمد عليه الظواهري منذ مقتل أسامة بن لادن. كذلك، ورد اسم آخر بارز في قائمة العقوبات أيضًا، هو أولمزون أحمدوفيتش صادقييف، الذي يعرف باسم «جعفر الأوزبكي»، ووصف بأنه «شخصية أساسية في تنظيم القاعدة»، وهو يقيم في إيران منذ سنوات.
وحسب المعلومات المتوافرة عنه فإنه عضو في «اتحاد الجهاد الإسلامي»، وتتهمه الخزانة الأميركية بإدارة شبكة للتنظيم مسؤولة عن نقل الأموال والمقاتلين الأجانب عبر تركيا لصالح جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» في سوريا.
إيران تواصل النفي
أما الجانب الإيراني، فقد نفى إجراء صفقة تبادل مع «القاعدة» من الأساس، وذلك على لسان الناطقين باسم الخارجية الإيرانية. وقد يكون موقف الوزارة مفهومًا في ظل وضعيتها الجديدة مع الغرب ما بعد الاتفاق النووي. ولقد رفض دبلوماسي إيراني ادعاءات شبكة «سكاي نيوز» الإخبارية وعاد إلى نغمة الشعارات التي تُسوق للغرب «كمحاربة إيران للإرهاب» وما إلى آخره. ولكن في مطلق الأحوال، فإن الأنباء المتناقلة بين المتطرفين على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد خروج هذه الأسماء من إيران في الفترة الأخيرة. ولكن كل هذا يُصيب الباحثين في العلاقة بين هذين الطرفين المتضادين (لفظيًا على الأقل) بحيرة شديدة، فهم يجدون أنفسهم أمام تنظيم يُكفر الشيعة من منطلق عقائدي ويراهم «أخطر على الأمة من اليهود»، بحسب التعبيرات الآيديولوجية للتنظيم، والجمهورية الإسلامية الإيرانية ممثل التشيع الأول في المنطقة والعالم وصاحبة مشروع التمدد والنفوذ الشيعي في الشرق الأوسط.
ومن ضمن مظاهر هذا التناقض أيضًا في هذه العلاقة، ما ذكرته الكثير من التقارير الصحافية من زمن بعيد عن أن السلطات الإيرانية وفّرت ملاذًا آمنًا داخل إيران لأسرة أسامة بن لادن بعدما حوصر في مقر إقامته بأفغانستان لفترة. وهو تصرف يبدو لأول وهلة غير مفهوم، «لكنه مؤكد الحدوث بعدما ظهرت خطابات أسامة بن لادن في أعقاب مقتله في أبوت آباد بشمال باكستان، التي كانت مرسلة لإحدى زوجاته المقيمات في إيران (يعتقد أنها السيدة أم حمزة)، وهو يحذرها من إمكانية تتبع الاستخبارات الإيرانية لها بعد خروجها إليه، بحسب إسلاميين في لندن».
وحسب المصادر المطلعة، يمكن «الجزم بأن إيران كانت تستضيف هؤلاء الأشخاص في صورة أشبه بالإقامة الجبرية كنوع من الضغط على الغرب بمساعدة تنظيمات مناوئة له، كما أن هذه التنظيمات تُعادي دول الخليج بشكل واضح، وهذا أيضًا دافع براغماتي عند الإيرانيين في تبنى مواقف مرنة من تنظيم كـ(القاعدة)، تمهيدًا لاستخدامه لاحقًا في مخططاتهم العدائية للخليج».
وقد تُفسر هذه الأحداث السابقة، ولا سيما عملية قتل سعد بن لادن على الحدود الباكستانية - الإيرانية (التي سبقت الإشارة إليها)، حديث أبي محمد العدناني القيادي في تنظيم داعش، والناطق باسمه، أخيرًا عندما تكلم في أحد إصداراته المهاجمة لتنظيم القاعدة عن طلب قيادات «القاعدة» منهم - أي من «داعش» - في الماضي تحاشي توجيه ضربات إلى إيران. وهو ما يؤكد حقًا وجود روابط وثيقة جمعت بين «القاعدة» وإيران أراد التنظيم الحفاظ عليها عبر حماية إيران من هجمات المتطرفين.
ويرى مراقبون أن هذه قرينة أخرى تجيب عن تساؤلات طرحت بإلحاح طوال فترة طويلة حول سبب إحجام التنظيمات المتشددة كـ«داعش» و«القاعدة» عن استهداف للداخل الإيراني على رغم وجود كل هذا العداء بين الطرفين.
أخيرًا وليس آخرًا، قدّم مركز «ويست بوينت» لدراسات مكافحة الإرهاب وثائق تعود لأسامة بن لادن، حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها بالعربية، وهي تقع في 175 صفحة. وفي هذا الوثائق إشارة مباشرة إلى رفض بن لادن في رسالة إلى الشيخ محمود «أن يذهب الإخوة إلى إيران، وحث على أن يطلب من الإخوة السمع والطاعة، وحفظ أسرار العمل وبالنسبة للإخوة القادمين من إيران الابتعاد عن أماكن القصف». وتؤكد الوثائق وجود هذه العلاقة التي تجمع ما بين إيران وتنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي أكده التقرير الرسمي للجنة التحقيق في أحداث «11 سبتمبر» المنشور في عام 2004.
وبحسب هذه التقارير، فإن تعامل إيران مع تنظيم القاعدة سابق لهذا التاريخ، إذ يعود لفترة التسعينات، أي إبان وجود قياديي التنظيم في السودان، نظرًا لتوطد علاقة الإيرانيين بالنظام السوداني في حينه. ومع أن التقارير لا تشير إلى وجود تحالف صريح بين إيران وتنظيم القاعدة فإنها تحدثت عن وجود «مفاوضات غير مباشرة» بين الطرفين.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟