مشروع مارشال ثقافي عربي

فاضل السلطاني
فاضل السلطاني
TT

مشروع مارشال ثقافي عربي

فاضل السلطاني
فاضل السلطاني

يبدو أننا نحتاج إلى دار حكمة جديدة، ولكن بالاتجاه المعاكس، أو فلنقل بحاجة إلى مأمون عصري. وإني لأتصوره، بحكمته المعهودة، قادرًا على فعل ذلك. بدل أن ينقل لنا أمهات الكتب اللاتينية، التي نقلتنا من عصر لعصر، ومن شبه جهل إلى المعرفة الكونية، سيحاول مأمون المعاصر أن ينقلنا من صورة التطرف، وقوافل اللاجئين، إلى صورة أخرى أكثر إشراقا بعض الشيء، ليقول نحن أيضًا عندنا غير بن لادن والزرقاوي والبغدادي والظواهري، وغير أسراب الطيور المهاجرة بحثًا عن ظل شجرة رحيمة. نعم، نحن بائسون حقًا، ومتخلفون كذلك، وشعوبنا تهاجر، والبراميل تهوي فوق رؤوسنا، وأطفالنا يموتون في البحر وغير البحر، وعندنا قمع لم يعد موجودًا في القاموس الإنساني، وقهر قلما ابتلي به إنسان عبر التاريخ الطويل غير إنساننا، لكن أيضًا عندنا ما عند شعوب الأرض الأخرى. عندنا الشعر، وإن لم يعد بأفضل حالاته، وقصص غير قصص ألف ليلة وليلة، وروايات غير نجيب محفوظ، ومسرح ينحت في الحجر وليس خيال المآتة، ولوحات يمكن أن تعرض في معرض واحد مع لوحات بول كلي ولوسيان فرويد وجاكسون بولاك وفرانسيس بيكون، وسيفخرون بها.
في لقاء جمعنا مع الكاتب البرازيلي باولو كويلو بلندن عام 2002، أخبرنا صاحب «الخيميائي» عن نيته الذهاب إلى العراق في تلك الفترة المضطربة التي كانت تتجمع فيها غيوم الحرب، لا لهدف سياسي أو تضامني.. «وإنما ليعرف إن كان هناك في العراق كتاب وشعراء وفنانون، وليس رجالاً ذوي شوارب كثّة فقط»، على حد تعبيره. وذكرت مرة الروائية اللبنانية حنان الشيخ، التي تكون ربما أشهر الكتاب العرب في الغرب، أنها التقت محررًا أدبيًا في إحدى الصحف البريطانية الكبرى، وقدمت له نفسها ككاتبة. فاستغرب قائلاً: «لم أكن أعرف أن النساء العربيات يكتبن»!
ولنعترف، إن هذه هي الصورة النمطية المستبطنة في الوعي والمخيال الغربي عنا، التي لم نفعل شيئًا على تغييرها على الرغم من صراخنا المتواصل منذ خمسين سنة في الأقل. لا أحد في الوسط الثقافي الغربي يعرف عنا سوى أسماء كتاب قليلة تحجب الغابة ولا تكشف عنها.
صحيح، إن هناك ترجمات من العربية إلى الإنجليزية، لكنها تكاد تكون محصورة بالرواية، وبالأخص الروايات الفائزة بجائزة بوكر العربية، أو قسم من تلك التي دخلت القائمة القصيرة. وهي تبقى قليلة جدًا. ثم، من يقرأها؟ ما هي نسبة توزيعها في السوق البريطانية على سبيل المثال؟ لا شيء. وهذا يصح على أسواق البلدان الغربية الأخرى وأميركا.
ما العمل؟ ما الذي يمكن عمله ليعرف الغرب أننا لسنا مجرد شوارب كثّة، هذا إذا كانت عندنا شوارب أصلاً؟
الجهود الفردية في الترجمة من العربية غير كافية على الإطلاق. ولا بد من مشروع مارشال ثقافي كبير تتولاه مؤسسة قادرة غيورة، رسمية أو غير رسمية، فربما استطاعت قلب الوضع. فالأمر لا يتعلق بتذوق الأدب العربي من عدمه، وإنما يعود في جزء كبير منه إلى أساطير وعوامل تاريخية وثقافية معروفة تحكمت بالعلاقة بين العرب والشرق عمومًا، وبين الغرب. وقد يطرح هنا سؤال عن سبب ازدهار سوق الكتاب الأميركي - اللاتيني في الغرب، مثلاً، مقارنة بالكتاب العربي. ونعتقد أن الجواب يكمن في غياب هذه الأساطير والعوامل في العلاقة بين أميركا اللاتينية والغرب، بغض النظر عن القيمة الفنية لأعمالهم وأعمالنا. النظرة إلى العربي، وبالتالي أدبه، تحتاج إلى هزة كبيرة، لن تحدثها سوى الثقافة نفسه. ولكن هذه الثقافة لا يمكن أن تصل إلى العالم، والغرب خصوصًا، إلا عبر دار حكمة جديدة تنقلنا وتعرف بأفضل سماتها، ومن الأفضل ألا تكون هذه المؤسسة رسمية. وإذا كان لا بد من الأمر، فليكن، ولكن بلجان مؤهلة ثقافيًا، تميز بين الصالح والطالح.
لا أحد يحب، ولا ينبغي، أن يدس الرسمي أنفه في الشأن الأدبي والثقافي، ولكن الاستثناء قد يصح في وضع استثنائي.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.