لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان

الحوار الإسلامي ـ المسيحي أصبح ضروريًا أكثر من أي وقت مضى

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يرى الكثير من المفكرين أن الحوار الإسلامي - المسيحي أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى. فبعد تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) وما تلاها توترت الأجواء بين الغرب والعالم الإسلامي إلى حد كبير. وأصبح كل طرف يشتبه بالطرف الآخر ويحقد عليه. وهذا لا يجوز، بل إنه يشكل خطرا على السلام العالمي لأن المسلمين يشكلون ربع سكان الكرة الأرضية. ومعلوم أن الباحث الأميركي الشهير صموئيل هنتنغتون فاجأنا بأطروحة صدام الحضارات. ولكن عقلاء الغرب يعتقدون أن هذه الأطروحة خاطئة لأنه ليس كل المسلمين داعشيين دمويين، وليس كل الغربيين من جماعة المحافظين الجدد أو اليمين المتطرف. فهناك الكثيرون من ذوي النيات الطيبة في كلتا الجهتين. تقول الإحصائيات إن عدد المسيحيين يتجاوز الملياري شخص حاليا، وعدد المسلمين يتجاوز المليار ونصف المليار شخص وسوف يتزايد في السنوات القادمة لكي يلحق بالمسيحيين وقد يتجاوزهم. وبالتالي فالحوار بين هذين الدينين الكبيرين أصبح ضرورة تاريخية ملحة للسلام العالمي. ومعلوم أن البابا يوحنا بولس الثاني جمع ممثلي كل الأديان في روما وصلوا جميعا بمعيّته. وكانت تلك مناسبة نادرة ومؤثرة في الواقع، ذلك أنه «لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان»، كما يقول اللاهوتي الألماني الشهير هانز كونغ. ومن الواضح أن البابا الحالي فرانسيس يمشي على النهج نفسه. وكان هانز كونغ قد شارك في تأسيس برلمان عالمي للأديان في شيكاغو بالولايات المتحدة. وأصدر كتابا بعنوان «بيان من أجل أخلاق كونية». فهناك نواة أخلاقية مشتركة تجمع بين الأديان الكبرى فيما وراء اختلاف الطقوس والشعائر والمعتقدات. ودعا إلى التقارب مع الإسلام كدين عالمي كبير. ولكنه دعا المسلمين في الوقت نفسه إلى الانخراط في دروب الإصلاح والخروج من لاهوت القرون الوسطى التكفيري الإرهابي وإلا فلا معنى لأي حوار.
ولكن هناك عقبات كثيرة تعترض طريق الحوار بين المسيحيين والمسلمين. وهي في الأساس لاهوتية وسياسية. فمن الناحية اللاهوتية هناك خلافات عميقة إذا ما بقينا متشبثين بالمواقف التقليدية من كلتا الجهتين. ومن الناحية السياسية هناك مشكلة الاستعمار وفلسطين و«داعش» و«القاعدة» وسوى ذلك.
ولكن تبقى هناك أشياء كثيرة تجمع بين الإسلام والمسيحية. فكلاهما نصّ على القيم الأخلاقية العليا التي ينبغي أن يتبعها الإنسان لكي يحظى بمرضاة الله في الدار الآخرة. وكلاهما يؤمن بأن الله هو خالق الكون ومدبره، وهو الذي رفع السماوات والأرض، وكلاهما يؤمن بوجود حياة بعد الموت، وكلاهما يؤمن بالحساب يوم القيامة، وكلاهما يؤمن بالجنة والنار، وكلاهما يؤمن بالوحي، إلخ. وبالتالي فهناك نقاط مشتركة كثيرة بين أديان التوحيد على عكس ما نتوهم وربما كانت نقاط التلاقي أكبر بكثير من نقاط الخلاف.
ولكن هناك مآخذ مسيحية على المسلمين. فهم يقولون إن الإسلام لا يدين العنف بالشكل الكافي. وبالتالي فهو يخيف الآخرين. ولكن بعض المسيحيين المنصفين يعترفون بأن القرآن يدعو أيضًا إلى السلام والوئام والمحبة والتسامح في آيات كثيرة. صحيح أنه توجد آيات أخرى قد تسبب مشكلة إذا ما فهمت بشكل خاطئ. وبالتالي فينبغي تأويلها بشكل صحيح عن طريق ربطها بسياقها التاريخي، وعندئذ تفقد طابعها العنفي التعميمي بعد فهم ظروفها أو ظروف نزولها. ثم يعترض المسلمون على ذلك قائلين: ألا توجد آيات عنيفة جدا في العهد القديم، أي التوراة؟ فلماذا إذن نتهم الإسلام فقط بأنه دين عنف ولا نتهم اليهودية؟ لماذا الكيل بمكيالين هنا؟ يضاف إلى ذلك أن المسيحية ذاتها لم تخل من العنف في تاريخها. صحيح أنه لا توجد آيات عنف في الإنجيل ولكن المسيحيين مارسوا العنف في فترات معينة من تاريخهم وخرجوا على الإنجيل كليا. وأكبر دليل على ذلك فترات محاكم التفتيش وطرد العرب من إسبانيا والحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية التي أدت إلى سقوط ملايين الضحايا. بل وحتى في مطلع العصور الحديثة نلاحظ أن الكنيسة الكاثوليكية مارست العنف ضد العلماء والفلاسفة الذين صنعوا الحداثة. وتاريخ هذه الكنيسة مليء بالعنف والدم والقمع الفكري والتصفيات الجسدية. يكفي أن نتذكر هنا ما فعلته الكنيسة بغاليليو وجيوردانو برينو وسواهما من كبار العلماء والمفكرين. في الواقع أن الفاتيكان وضع على لائحة الكتب المحرمة معظم المؤلفات الفلسفية لديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل وماركس وفرويد وفولتير وروسو وديدرو وعشرات المفكرين المستنيرين الآخرين. وهذا يعني أن المذهب الكاثوليكي مارس (آذار) العنف لعدة قرون متواصلة قبل أن يتخلى عن ذلك ويتصالح مع الحداثة.
وبالتالي فالقول إن الإسلام هو وحده الذي يمارس العنف لا يصمد أمام الامتحان التاريخي. لا ريب في أن المسلمين مارسوا العنف مثلهم في ذلك مثل غيرهم وبخاصة في عصور الانحطاط. ولكنهم قدموا للعالم أجمل حضارة إنسانية في عصور الازدهار: أي في العصور العباسية والفاطمية والأندلسية. فتاريخ الإسلام لم يكن كله عنفا ورعبا كما يحاول أن يوهمنا التيار المعادي السائد في الغرب حاليا. ولكن للأسف فإن فظائع «داعش» و«القاعدة» وسواهما تشوهان صورة الإسلام الحنيف إلى أقصى حد.
لقد لعبت الصراعات السياسية والعسكرية دورا كبيرا في عرقلة الحوار بين الإسلام والمسيحية. فمن الحروب الصليبية وحتى الحروب الحالية نلاحظ أن الغرب مسؤول بالدرجة الأولى عن إفشال الحوار. فأنت لا تستطيع أن تحاور الآخر إذا كان يعتدي عليك. ولكي يزدهر الحوار ينبغي أن يتوافر الحد الأدنى من الثقة والسلام والاطمئنان. وللأسف الشديد فإن هذه الأشياء مفقودة حاليا.
لا ريب في أن الفاتيكان أدان هذه الحروب على العالم العربي ولم يوافق الإدارة الأميركية على استراتيجيتها العسكرية إلا فيما يخص «داعش». ولكن العالم العربي لا يزال ينظر إلى الغرب ككتلة واحدة لا تتجزأ، وهذا أمر مؤسف لأن أصوات السلام موجودة لدى قطاعات واسعة من المجتمعات والشعوب الغربية المتحضرة. وأكبر دليل على ذلك المظاهرات التي اندلعت تضامنا مع العذاب الفلسطيني في عواصم الغرب من مدريد إلى باريس إلى لندن وروما، إلخ...
على أي حال لقد آن الأوان لكي نخرج من منطق الصدام والعداء إلى منطق الحوار والتفاهم. فنحن نعيش كجيران متقاربين على كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط. هم على الضفة الشمالية الغربية ونحن على الضفة الجنوبية الشرقية. ولا يمكن أن نقضي كل حياتنا في الحرب والكره والحملات العسكرية والحقد. فأنت مضطر للتعامل مع جارك والتعايش معه بشكل أو بآخر شئت أم أبيت.أخيرا نعود إلى التذكير بالقيم المشتركة التي تجمع بين الدينين الكبيرين. فكلاهما، الإسلام كما المسيحية، حرّم القتل والكذب والسرقة والزنا والنميمة وسوى ذلك من الرذائل. وكلاهما حثّ على اتباع مكارم الأخلاق ومساعدة الفقير والمسكين وابن السبيل. وكلاهما حثّ على معاملة الجار أو الآخر معاملة حسنة. وبالتالي فهناك أرضية مشتركة للتعاون والحوار.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.