مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

أضواء على مواطن التقصير وأفكار حول العلاج المطلوب

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي
TT

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

يجب الإقرار ابتداءً بأن ثمة مشكلاً عميقًا في أحادية المنهج في التعامل مع فكر التطرّف والحركات العنيفة، فمع تواتر وتكاثر أطروحات بحث التطرف والتعرف عليه، تنظيريا وتنظيميا، تعددت المداخل التفسيرية والتحليلية من دون رابط أو تكامل مطلوب في ما بينها، على العكس من مكافحتها - أمنيا وعسكريا - التي تعتمد تبادل المعلومات والتواصل في أساليب الرقابة والملاحقة والمواجهة. بينما يبدو الشتات وغياب الاستراتيجيات واضحين في مواجهة الخطاب والأفكار والممارسة الخطابية، التي هي الأصل والمرض، بينما الممارسة هي الفرع والعرض.
وتبدو عشرات المراكز والمؤسسات العاملة في المكافحة الفكرية للتطرّف جزرا منعزلة، يتناثرها الشتات، فتتكرّر مخرجاتها حينًا وتنقطع جهودها حينًا آخر، ولا تتكامل جهودها أحيانًا وتؤتي ثمارها أحيانًا أخرى. وهنا تحضر أزمة «حرب الأفكار» المركزية في مجابهة التطرّف، والتي لا بد أن تسبق وتلحق الحرب على التنظيمات، كون الإرهاب فكرة واعتقادا في الأصل، تولّدت من مخاض فكرته التنظيمات، كما ولد من «فتوى التتار» - «تنظيم الجهاد المصري» وعملية اغتيال الرئيس السادات عام 1981 أو «حاكمية الخلافة» التي ولدت منها تنظيمات مختلفة كان آخرها تنظيم «داعش» تطورا عن فرع «القاعدة» في العراق. كما يمارس من خلال الأفكار التجنيد والتبرير ومناظرة التبرير والتفسير والمفاصلة والتكفير.

ثبت مع خبرة العقدين الأخيرين على صعيد التعاطي مع التنظيمات الإرهابية أن الأفكار هي الخطر الحقيقي عليها. هكذا ثار «القاعديون» وغيرهم من المتشدّدين ضد المراجعات التصحيحية لرفقائهم وشيوخهم السابقين التي أحرجتهم. وهكذا، تصدّت «القاعدة» من دون أن تستطيع الرد على «مؤتمر ماردين» عام 2010 الذي أثبت القائمون عليه أن أساس «فتوى التتار» ونصها الذي يعتمدون عليه خطأ، بينما لم تؤت الضربات الأمنية لهذه التنظيمات العنقودية النجاعة دائمًا بالشكل نفسه.
وتثبت جوهرية المداخل النظرية في مكافحة التطرّف والإرهاب، كذلك، إذا راجعنا التقييمات الغربية لضربات التحالف الدولي ضد «داعش» في ذكراها السنوية الأولى يوم 8 أغسطس (آب) الماضي، بعد سنة من تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما ببدء ضربات التحالف الدولي ضد التنظيم الذي يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا وعودة لـ«الحرب على الإرهاب»، بديلا عن «الحرب على القاعدة» التي كان أوباما قد رفعها شعارًا له في حملته الانتخابية عام 2008.
لقد تجاوزت تكلفة ضربات التحالف ثلاثة مليارات دولار، بمجموع 6 آلاف ضربة جوية. ورغم تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض جون إرنست في الثامن من أغسطس الماضي بأن التحالف حقق تقدمًا على عدد من المحاور، وأن ضرباته أفقدت التنظيم المتطرف الحركة في 30 في المائة من الأراضي التي سيطر عليها في الصيف الماضي، فإن انتقادات عديدة وتقييمات سلبية مختلفة وجهت لأداء التحالف، وكان أبرزها ما نشره معهد دراسات الحرب في 13 أغسطس لخرائط تطوّر التنظيم منذ سقوط مدينة الموصل بيده حتى أغسطس 2015. إذ كشفت هذه الانتقادات والتقييمات نجاح التنظيم المتطرّف في توجيه خلاياه وعناصره لاستهداف مائة دولة في ثلاث قارات، واستمرار احتفاظه بالموصل وأغلب المناطق التي سيطر عليها داخل العراق خلال يونيو (حزيران) 2014، وأن خارطة نفوذه كانت استراتيجية وضعها التنظيم قبل تاريخ سقوط الموصل بعشرة شهور، تحديدا في سبتمبر (أيلول) 2013، ويُظن أنها أسبق من ذلك، فقد نشر استراتيجية جديدة اعتمدها وطبقها أوائل عام 2010 تنص على فكرة «الخلافة والدولة» والسعي إليها من قياداته الجديدة.
ويجمع الفاعلون السياسيون في المنطقة والعالم اليوم على تقدّم خطر الإرهاب على سواه من الأخطار المحدقة بهذا العالم، وتتشارك أغلب الدول والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والمنظمات الدولية والإقليمية، بالفعل، في تبادل المعلومات والتنسيق لاستباق ضرباته واتقاء عملياته والقضاء على قياداته وخلاياه. ومع استثناءات قليلة، فإن الجهد الفكري في تجفيف المنابع ما زال محدودًا، وحرب الأفكار ما زالت غير مؤتية ثمارها، عربيًا ودوليًا في آن معًا.

* جهود مشتّتة وفقدان التشبيك المعرفي

تبدو واضحة أهمية التشبيك بين جهود المؤسسات المختلفة، ووضع استراتيجيات متكاملة لتحقيق الهدف المشترك في مكافحة التطرّف وتجفيف منابعه، تجنّبًا للتكرار والتعارض وتعميقًا للهدف والنتائج المشتركة.
فعربيًا، هناك ما لا يقل عن خمسين مركزًا ومؤسسة بحثية تنحصر جهودها في دراسة قضايا الإرهاب والتطرّف، وتتنوع هياكلها وارتباطاتها، بين الحكومي وغير الحكومي. وبين استحداث برامج لرصد التطرف الإرهابي ونقد مقولاته ملتحقة بالمؤسسات الرسمية شأن المؤسسات الدينية والحكومية والأمنية الأخرى، واستحداث برامج لدراساته مرتبطة بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية. كما نشطت في دراسته مؤسّسات خاصة ومنظمات للمجتمع المدني والأهلي كذلك. ولكن كل هذه المؤسّسات تبدو وكأنها تعمل في جزر منعزلة كل منها عن الأخرى، من دون تكامل أو تنسيق أو انتباه.
كذلك تبدو مشكلة المنهج واضحة وجلية لدى القائمين على هذه المؤسسات، مع توزّع اهتمامات كل منها وأولوياتها حسب تخصّصه ومجالات اهتمامه. وهو ما يتزامن مع زيادة ملحوظة في عدد المراكز البحثية في العالم العربي والعالم بشكل عام، حسب دليل المراكز البحثية في العالم الصادر عن برنامج العلاقات الدولية في جامعة بنسلفانيا (TTCSP)، في عدده الصادر في مارس (آذار) من هذا العام، عن العام الماضي 2014، والذي امتد رصده حتى يناير (كانون الثاني) من العام نفسه. لقد كان عدد المراكز البحثية في العالم العربي المسجّلة في الدليل 521 مركزا، من بين مجمل 6681 مركزا للتفكير السياسي حول العالم، تضم أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) 1989 مركزا منها، أي ما يقرب من 60 في المائة منها، ولكن لا شك أن الطفرة واضحة في أعداد مراكز الدراسات العربية، التي ارتفعت من 287 عام 2011 من مجموع عالمي (1645) إلى 339 عام 2012 (من مجموع عالمي 6603) إلى 511 عام 2013 من مجموع عالمي 6826 مركزا حول العالم، وشكل الإرهاب والتطرف ملمحًا مهمًا ومؤثرًا في تكويناتها كذلك.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 جمع بنيامين فريدمان، الباحث والخبير في شؤون الإرهاب، قائمة غير كاملة - حسب قوله - تضم 100 مركز دراسات وبرنامج بحثي في جامعات غربية وآسيوية تخصصت، حصرا، في دراسة الإرهاب، وهو العدد الذي يُعتقد أنه قد ارتفع كثيرًا خلال السنوات الأربع الأخيرة.

* التكرار وضياع الفرص

وكنموذج للتكرار في التركيز على متابعة المواقع التواصلية، رغم الجهد الدولي الناجع الذي أرهق «داعش» وأوقف الكثير من حساباته على موقع «تويتر» مثلا، نلاحظ غياب التنسيق بل غياب التعرف بين المحاولات الجديدة في هذا الاتجاه مع المحاولات السابقة كجهد «حملة السكينة لتعزيز الوسطية»، التي بدأها شباب وفقهاء سعوديون لنقد جماعات التطرّف الإرهابي وتتبع خطاباتهم منذ عام 2003، عام بزوغ أول فرع لـ«القاعدة» خارج أفغانستان في أرض الحرمين الشريفين.
كذلك لم يحسن الكثير من المؤسسات الفكرية المعنية البناء على جهود الآخرين في هذا الاتجاه، فلم يتحقق الترويج الكافي لخطأ فتوى «مؤتمر ماردين» التي تعتمدها الجماعات المتطرفة منذ بدايتها مصريًا مع «تنظيم الجهاد» المصري عام 1979 واعتماد منظّره محمد عبد السلام فرج لها في تكفير الحكومة المصرية و«تقديم العدو القريب على العدو البعيد» في هذا الحين!.. رغم خطأ نقله وعوار فهمه لها. أيضًا، ضيعت المؤسسات الفكرية فرص المراجعات بشكل واضح، التي قدمتها الجماعات المتطرفة المختلفة لأفكارها السابقة، ولم يتم الاستثمار الواجب فيها جدلاً وتنشيطًا وتحصينًا للأجيال الجديدة ضدها.
ويُظَن أن الأهم هو عدم الاستثمار في خلافات الجماعات المتطرفة الثائرة الآن بين تنظيم داعش من جهة، وسائر الجماعات المتطرفة الأخرى، بل وما تشهده من احتراب وقتل متبادل في سوريا وليبيا والعراق.
نعم، ما زال الكثير من جهود مكافحة التطرف الإرهابي يتعاطى مع هذه الأحداث تعاطيًا ترفيًا وفلسفيًا متعاليًا لا يصب حقيقة في منعها وصدها، بل يبرر للتطرف أحيانًا حين يصطدم بعض منتسبي هذه المؤسسات بالمقدس ويتهمونه خطأ، وهو ما توظفه هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية لصالحها في ما بعد.
فضلا عما سبق، لا بد من تكامل المناهج في نقد التطرف والإرهاب كتنظيمات وأفكار شمولية عبر مواجهة شمولية معه، لا تكتفي بالبعد الواحد بل تتكامل في استراتيجية مكافحته الأبعاد. إن التنظيمات الشمولية لا تتضمن بعدًا واحدًا، فهي تتضمن أبعادًا دينية وفقهية تستدعي المواجهة الدينية والتراثية، كما تتضمن أبعادًا سياسية وعسكرية تستدعي المواجهة الأمنية والعسكرية كذلك، وتتضمن من جهة ثالثة أبعادا فردية تستدعي اعتماد مناهج علوم الاجتماع وعلوم النفس، كما تستثمر في أزمات وسياقات خاصة لا بد من معالجتها في سياقاتها الخاصة كذلك.
لهذا من الضروري تكامل جهود المؤسسات ذات الاهتمام الفقهي والمقاصدي والمذهبي مع المؤسسات ذات الاهتمام التنظيمي والتنظيمي، مع الاستفادة من جهود المتخصصين في علوم النفس والاجتماع، وتأسيس شبكة بحثية عربية وإسلامية وعالمية في هذا الصدد تجتمع بشكل دوري لإخراج التوصيات اللازمة لدوائر صناعة القرار والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية المختلفة.
إن عيبًا ماثلاً وواضحًا في فردية أو انعزالية العديد من الجهود العاملة في هذا المجال، إذ يعتبرها البعض قضية نخبوية فردية، أو يعتبرها البعض الآخر خاصة بجمهور خاص أو قطر معين أو مدخل محدد دون باقي المداخل. وهذا ما يعكس استراتيجية فوضوية في وجه تنظيمات منظمة ونشطة ومتفانية في نشر أفكارها التي تنطلي على العوام والمغرر بهم سواء من حدثاء السن أو من المتحولين الجدد للإسلام أو المتدينين المتعاطفين من دون فقه عميق لرد هذه الشبهات التي تديرها ماكينة التطرف ومصانع أفكارها.
وفي المقابل، يجد جهد مكافحة الإرهاب الدعم والرعاية، إذ استنفر مؤسسات كبيرة للاهتمام بقضاياه ومقولاته، في مقدمتها مؤسسة الأزهر التي يقوم مرصدها الذي نشط خلال العام الحالي برصد ممارسات الإرهاب ونقدها وإدانتها، وكذلك سائر المؤسسات الدينية، التي نشط أعضاؤها وقياداتها، بدرجة ما. إلا أنه رغم تعدد الهيئات والمؤسسات الفكرية والنظرية العاملة في مكافحة الإرهاب في المنطقة العربية، يلاحظ غياب التنسيق في ما بينها، وغياب استراتيجية موحدة أو متكاملة في هذه المكافحة والمدافعة وتنسيق الجهود بين أطرافها.
يبدو الإرهاب صيادًا ماهرًا يصطاد ما يناسبه ويوظفه لصالحه، ويقتطف النصوص والمرجعيات لصالحه، كما يستثمر الأزمات النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية حواضن لتجنيده ودعايته ويجتذب كل من افتقر لجانب من هذه الجوانب، عبر ماكينته دعائية وآيديولوجية منظمة يديرها متطوعون يرون عملهم فيها جهادًا وفرضًا ونجاة لهم في تحقيق مدينتهم الفاضلة.
هذا الواقع المؤسف والخطر يستوجب شمول الجهد وتكامله في مكافحة الإرهاب، ويستوجب كذلك تحصينًا ووقاية وردًا وهجومًا على ماكينته النشطة التي لا تنحبس في بُعد واحد أو جهد فردي.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.