مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

أضواء على مواطن التقصير وأفكار حول العلاج المطلوب

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي
TT

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

يجب الإقرار ابتداءً بأن ثمة مشكلاً عميقًا في أحادية المنهج في التعامل مع فكر التطرّف والحركات العنيفة، فمع تواتر وتكاثر أطروحات بحث التطرف والتعرف عليه، تنظيريا وتنظيميا، تعددت المداخل التفسيرية والتحليلية من دون رابط أو تكامل مطلوب في ما بينها، على العكس من مكافحتها - أمنيا وعسكريا - التي تعتمد تبادل المعلومات والتواصل في أساليب الرقابة والملاحقة والمواجهة. بينما يبدو الشتات وغياب الاستراتيجيات واضحين في مواجهة الخطاب والأفكار والممارسة الخطابية، التي هي الأصل والمرض، بينما الممارسة هي الفرع والعرض.
وتبدو عشرات المراكز والمؤسسات العاملة في المكافحة الفكرية للتطرّف جزرا منعزلة، يتناثرها الشتات، فتتكرّر مخرجاتها حينًا وتنقطع جهودها حينًا آخر، ولا تتكامل جهودها أحيانًا وتؤتي ثمارها أحيانًا أخرى. وهنا تحضر أزمة «حرب الأفكار» المركزية في مجابهة التطرّف، والتي لا بد أن تسبق وتلحق الحرب على التنظيمات، كون الإرهاب فكرة واعتقادا في الأصل، تولّدت من مخاض فكرته التنظيمات، كما ولد من «فتوى التتار» - «تنظيم الجهاد المصري» وعملية اغتيال الرئيس السادات عام 1981 أو «حاكمية الخلافة» التي ولدت منها تنظيمات مختلفة كان آخرها تنظيم «داعش» تطورا عن فرع «القاعدة» في العراق. كما يمارس من خلال الأفكار التجنيد والتبرير ومناظرة التبرير والتفسير والمفاصلة والتكفير.

ثبت مع خبرة العقدين الأخيرين على صعيد التعاطي مع التنظيمات الإرهابية أن الأفكار هي الخطر الحقيقي عليها. هكذا ثار «القاعديون» وغيرهم من المتشدّدين ضد المراجعات التصحيحية لرفقائهم وشيوخهم السابقين التي أحرجتهم. وهكذا، تصدّت «القاعدة» من دون أن تستطيع الرد على «مؤتمر ماردين» عام 2010 الذي أثبت القائمون عليه أن أساس «فتوى التتار» ونصها الذي يعتمدون عليه خطأ، بينما لم تؤت الضربات الأمنية لهذه التنظيمات العنقودية النجاعة دائمًا بالشكل نفسه.
وتثبت جوهرية المداخل النظرية في مكافحة التطرّف والإرهاب، كذلك، إذا راجعنا التقييمات الغربية لضربات التحالف الدولي ضد «داعش» في ذكراها السنوية الأولى يوم 8 أغسطس (آب) الماضي، بعد سنة من تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما ببدء ضربات التحالف الدولي ضد التنظيم الذي يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا وعودة لـ«الحرب على الإرهاب»، بديلا عن «الحرب على القاعدة» التي كان أوباما قد رفعها شعارًا له في حملته الانتخابية عام 2008.
لقد تجاوزت تكلفة ضربات التحالف ثلاثة مليارات دولار، بمجموع 6 آلاف ضربة جوية. ورغم تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض جون إرنست في الثامن من أغسطس الماضي بأن التحالف حقق تقدمًا على عدد من المحاور، وأن ضرباته أفقدت التنظيم المتطرف الحركة في 30 في المائة من الأراضي التي سيطر عليها في الصيف الماضي، فإن انتقادات عديدة وتقييمات سلبية مختلفة وجهت لأداء التحالف، وكان أبرزها ما نشره معهد دراسات الحرب في 13 أغسطس لخرائط تطوّر التنظيم منذ سقوط مدينة الموصل بيده حتى أغسطس 2015. إذ كشفت هذه الانتقادات والتقييمات نجاح التنظيم المتطرّف في توجيه خلاياه وعناصره لاستهداف مائة دولة في ثلاث قارات، واستمرار احتفاظه بالموصل وأغلب المناطق التي سيطر عليها داخل العراق خلال يونيو (حزيران) 2014، وأن خارطة نفوذه كانت استراتيجية وضعها التنظيم قبل تاريخ سقوط الموصل بعشرة شهور، تحديدا في سبتمبر (أيلول) 2013، ويُظن أنها أسبق من ذلك، فقد نشر استراتيجية جديدة اعتمدها وطبقها أوائل عام 2010 تنص على فكرة «الخلافة والدولة» والسعي إليها من قياداته الجديدة.
ويجمع الفاعلون السياسيون في المنطقة والعالم اليوم على تقدّم خطر الإرهاب على سواه من الأخطار المحدقة بهذا العالم، وتتشارك أغلب الدول والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والمنظمات الدولية والإقليمية، بالفعل، في تبادل المعلومات والتنسيق لاستباق ضرباته واتقاء عملياته والقضاء على قياداته وخلاياه. ومع استثناءات قليلة، فإن الجهد الفكري في تجفيف المنابع ما زال محدودًا، وحرب الأفكار ما زالت غير مؤتية ثمارها، عربيًا ودوليًا في آن معًا.

* جهود مشتّتة وفقدان التشبيك المعرفي

تبدو واضحة أهمية التشبيك بين جهود المؤسسات المختلفة، ووضع استراتيجيات متكاملة لتحقيق الهدف المشترك في مكافحة التطرّف وتجفيف منابعه، تجنّبًا للتكرار والتعارض وتعميقًا للهدف والنتائج المشتركة.
فعربيًا، هناك ما لا يقل عن خمسين مركزًا ومؤسسة بحثية تنحصر جهودها في دراسة قضايا الإرهاب والتطرّف، وتتنوع هياكلها وارتباطاتها، بين الحكومي وغير الحكومي. وبين استحداث برامج لرصد التطرف الإرهابي ونقد مقولاته ملتحقة بالمؤسسات الرسمية شأن المؤسسات الدينية والحكومية والأمنية الأخرى، واستحداث برامج لدراساته مرتبطة بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية. كما نشطت في دراسته مؤسّسات خاصة ومنظمات للمجتمع المدني والأهلي كذلك. ولكن كل هذه المؤسّسات تبدو وكأنها تعمل في جزر منعزلة كل منها عن الأخرى، من دون تكامل أو تنسيق أو انتباه.
كذلك تبدو مشكلة المنهج واضحة وجلية لدى القائمين على هذه المؤسسات، مع توزّع اهتمامات كل منها وأولوياتها حسب تخصّصه ومجالات اهتمامه. وهو ما يتزامن مع زيادة ملحوظة في عدد المراكز البحثية في العالم العربي والعالم بشكل عام، حسب دليل المراكز البحثية في العالم الصادر عن برنامج العلاقات الدولية في جامعة بنسلفانيا (TTCSP)، في عدده الصادر في مارس (آذار) من هذا العام، عن العام الماضي 2014، والذي امتد رصده حتى يناير (كانون الثاني) من العام نفسه. لقد كان عدد المراكز البحثية في العالم العربي المسجّلة في الدليل 521 مركزا، من بين مجمل 6681 مركزا للتفكير السياسي حول العالم، تضم أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) 1989 مركزا منها، أي ما يقرب من 60 في المائة منها، ولكن لا شك أن الطفرة واضحة في أعداد مراكز الدراسات العربية، التي ارتفعت من 287 عام 2011 من مجموع عالمي (1645) إلى 339 عام 2012 (من مجموع عالمي 6603) إلى 511 عام 2013 من مجموع عالمي 6826 مركزا حول العالم، وشكل الإرهاب والتطرف ملمحًا مهمًا ومؤثرًا في تكويناتها كذلك.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 جمع بنيامين فريدمان، الباحث والخبير في شؤون الإرهاب، قائمة غير كاملة - حسب قوله - تضم 100 مركز دراسات وبرنامج بحثي في جامعات غربية وآسيوية تخصصت، حصرا، في دراسة الإرهاب، وهو العدد الذي يُعتقد أنه قد ارتفع كثيرًا خلال السنوات الأربع الأخيرة.

* التكرار وضياع الفرص

وكنموذج للتكرار في التركيز على متابعة المواقع التواصلية، رغم الجهد الدولي الناجع الذي أرهق «داعش» وأوقف الكثير من حساباته على موقع «تويتر» مثلا، نلاحظ غياب التنسيق بل غياب التعرف بين المحاولات الجديدة في هذا الاتجاه مع المحاولات السابقة كجهد «حملة السكينة لتعزيز الوسطية»، التي بدأها شباب وفقهاء سعوديون لنقد جماعات التطرّف الإرهابي وتتبع خطاباتهم منذ عام 2003، عام بزوغ أول فرع لـ«القاعدة» خارج أفغانستان في أرض الحرمين الشريفين.
كذلك لم يحسن الكثير من المؤسسات الفكرية المعنية البناء على جهود الآخرين في هذا الاتجاه، فلم يتحقق الترويج الكافي لخطأ فتوى «مؤتمر ماردين» التي تعتمدها الجماعات المتطرفة منذ بدايتها مصريًا مع «تنظيم الجهاد» المصري عام 1979 واعتماد منظّره محمد عبد السلام فرج لها في تكفير الحكومة المصرية و«تقديم العدو القريب على العدو البعيد» في هذا الحين!.. رغم خطأ نقله وعوار فهمه لها. أيضًا، ضيعت المؤسسات الفكرية فرص المراجعات بشكل واضح، التي قدمتها الجماعات المتطرفة المختلفة لأفكارها السابقة، ولم يتم الاستثمار الواجب فيها جدلاً وتنشيطًا وتحصينًا للأجيال الجديدة ضدها.
ويُظَن أن الأهم هو عدم الاستثمار في خلافات الجماعات المتطرفة الثائرة الآن بين تنظيم داعش من جهة، وسائر الجماعات المتطرفة الأخرى، بل وما تشهده من احتراب وقتل متبادل في سوريا وليبيا والعراق.
نعم، ما زال الكثير من جهود مكافحة التطرف الإرهابي يتعاطى مع هذه الأحداث تعاطيًا ترفيًا وفلسفيًا متعاليًا لا يصب حقيقة في منعها وصدها، بل يبرر للتطرف أحيانًا حين يصطدم بعض منتسبي هذه المؤسسات بالمقدس ويتهمونه خطأ، وهو ما توظفه هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية لصالحها في ما بعد.
فضلا عما سبق، لا بد من تكامل المناهج في نقد التطرف والإرهاب كتنظيمات وأفكار شمولية عبر مواجهة شمولية معه، لا تكتفي بالبعد الواحد بل تتكامل في استراتيجية مكافحته الأبعاد. إن التنظيمات الشمولية لا تتضمن بعدًا واحدًا، فهي تتضمن أبعادًا دينية وفقهية تستدعي المواجهة الدينية والتراثية، كما تتضمن أبعادًا سياسية وعسكرية تستدعي المواجهة الأمنية والعسكرية كذلك، وتتضمن من جهة ثالثة أبعادا فردية تستدعي اعتماد مناهج علوم الاجتماع وعلوم النفس، كما تستثمر في أزمات وسياقات خاصة لا بد من معالجتها في سياقاتها الخاصة كذلك.
لهذا من الضروري تكامل جهود المؤسسات ذات الاهتمام الفقهي والمقاصدي والمذهبي مع المؤسسات ذات الاهتمام التنظيمي والتنظيمي، مع الاستفادة من جهود المتخصصين في علوم النفس والاجتماع، وتأسيس شبكة بحثية عربية وإسلامية وعالمية في هذا الصدد تجتمع بشكل دوري لإخراج التوصيات اللازمة لدوائر صناعة القرار والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية المختلفة.
إن عيبًا ماثلاً وواضحًا في فردية أو انعزالية العديد من الجهود العاملة في هذا المجال، إذ يعتبرها البعض قضية نخبوية فردية، أو يعتبرها البعض الآخر خاصة بجمهور خاص أو قطر معين أو مدخل محدد دون باقي المداخل. وهذا ما يعكس استراتيجية فوضوية في وجه تنظيمات منظمة ونشطة ومتفانية في نشر أفكارها التي تنطلي على العوام والمغرر بهم سواء من حدثاء السن أو من المتحولين الجدد للإسلام أو المتدينين المتعاطفين من دون فقه عميق لرد هذه الشبهات التي تديرها ماكينة التطرف ومصانع أفكارها.
وفي المقابل، يجد جهد مكافحة الإرهاب الدعم والرعاية، إذ استنفر مؤسسات كبيرة للاهتمام بقضاياه ومقولاته، في مقدمتها مؤسسة الأزهر التي يقوم مرصدها الذي نشط خلال العام الحالي برصد ممارسات الإرهاب ونقدها وإدانتها، وكذلك سائر المؤسسات الدينية، التي نشط أعضاؤها وقياداتها، بدرجة ما. إلا أنه رغم تعدد الهيئات والمؤسسات الفكرية والنظرية العاملة في مكافحة الإرهاب في المنطقة العربية، يلاحظ غياب التنسيق في ما بينها، وغياب استراتيجية موحدة أو متكاملة في هذه المكافحة والمدافعة وتنسيق الجهود بين أطرافها.
يبدو الإرهاب صيادًا ماهرًا يصطاد ما يناسبه ويوظفه لصالحه، ويقتطف النصوص والمرجعيات لصالحه، كما يستثمر الأزمات النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية حواضن لتجنيده ودعايته ويجتذب كل من افتقر لجانب من هذه الجوانب، عبر ماكينته دعائية وآيديولوجية منظمة يديرها متطوعون يرون عملهم فيها جهادًا وفرضًا ونجاة لهم في تحقيق مدينتهم الفاضلة.
هذا الواقع المؤسف والخطر يستوجب شمول الجهد وتكامله في مكافحة الإرهاب، ويستوجب كذلك تحصينًا ووقاية وردًا وهجومًا على ماكينته النشطة التي لا تنحبس في بُعد واحد أو جهد فردي.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.