مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

أضواء على مواطن التقصير وأفكار حول العلاج المطلوب

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي
TT

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

يجب الإقرار ابتداءً بأن ثمة مشكلاً عميقًا في أحادية المنهج في التعامل مع فكر التطرّف والحركات العنيفة، فمع تواتر وتكاثر أطروحات بحث التطرف والتعرف عليه، تنظيريا وتنظيميا، تعددت المداخل التفسيرية والتحليلية من دون رابط أو تكامل مطلوب في ما بينها، على العكس من مكافحتها - أمنيا وعسكريا - التي تعتمد تبادل المعلومات والتواصل في أساليب الرقابة والملاحقة والمواجهة. بينما يبدو الشتات وغياب الاستراتيجيات واضحين في مواجهة الخطاب والأفكار والممارسة الخطابية، التي هي الأصل والمرض، بينما الممارسة هي الفرع والعرض.
وتبدو عشرات المراكز والمؤسسات العاملة في المكافحة الفكرية للتطرّف جزرا منعزلة، يتناثرها الشتات، فتتكرّر مخرجاتها حينًا وتنقطع جهودها حينًا آخر، ولا تتكامل جهودها أحيانًا وتؤتي ثمارها أحيانًا أخرى. وهنا تحضر أزمة «حرب الأفكار» المركزية في مجابهة التطرّف، والتي لا بد أن تسبق وتلحق الحرب على التنظيمات، كون الإرهاب فكرة واعتقادا في الأصل، تولّدت من مخاض فكرته التنظيمات، كما ولد من «فتوى التتار» - «تنظيم الجهاد المصري» وعملية اغتيال الرئيس السادات عام 1981 أو «حاكمية الخلافة» التي ولدت منها تنظيمات مختلفة كان آخرها تنظيم «داعش» تطورا عن فرع «القاعدة» في العراق. كما يمارس من خلال الأفكار التجنيد والتبرير ومناظرة التبرير والتفسير والمفاصلة والتكفير.

ثبت مع خبرة العقدين الأخيرين على صعيد التعاطي مع التنظيمات الإرهابية أن الأفكار هي الخطر الحقيقي عليها. هكذا ثار «القاعديون» وغيرهم من المتشدّدين ضد المراجعات التصحيحية لرفقائهم وشيوخهم السابقين التي أحرجتهم. وهكذا، تصدّت «القاعدة» من دون أن تستطيع الرد على «مؤتمر ماردين» عام 2010 الذي أثبت القائمون عليه أن أساس «فتوى التتار» ونصها الذي يعتمدون عليه خطأ، بينما لم تؤت الضربات الأمنية لهذه التنظيمات العنقودية النجاعة دائمًا بالشكل نفسه.
وتثبت جوهرية المداخل النظرية في مكافحة التطرّف والإرهاب، كذلك، إذا راجعنا التقييمات الغربية لضربات التحالف الدولي ضد «داعش» في ذكراها السنوية الأولى يوم 8 أغسطس (آب) الماضي، بعد سنة من تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما ببدء ضربات التحالف الدولي ضد التنظيم الذي يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا وعودة لـ«الحرب على الإرهاب»، بديلا عن «الحرب على القاعدة» التي كان أوباما قد رفعها شعارًا له في حملته الانتخابية عام 2008.
لقد تجاوزت تكلفة ضربات التحالف ثلاثة مليارات دولار، بمجموع 6 آلاف ضربة جوية. ورغم تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض جون إرنست في الثامن من أغسطس الماضي بأن التحالف حقق تقدمًا على عدد من المحاور، وأن ضرباته أفقدت التنظيم المتطرف الحركة في 30 في المائة من الأراضي التي سيطر عليها في الصيف الماضي، فإن انتقادات عديدة وتقييمات سلبية مختلفة وجهت لأداء التحالف، وكان أبرزها ما نشره معهد دراسات الحرب في 13 أغسطس لخرائط تطوّر التنظيم منذ سقوط مدينة الموصل بيده حتى أغسطس 2015. إذ كشفت هذه الانتقادات والتقييمات نجاح التنظيم المتطرّف في توجيه خلاياه وعناصره لاستهداف مائة دولة في ثلاث قارات، واستمرار احتفاظه بالموصل وأغلب المناطق التي سيطر عليها داخل العراق خلال يونيو (حزيران) 2014، وأن خارطة نفوذه كانت استراتيجية وضعها التنظيم قبل تاريخ سقوط الموصل بعشرة شهور، تحديدا في سبتمبر (أيلول) 2013، ويُظن أنها أسبق من ذلك، فقد نشر استراتيجية جديدة اعتمدها وطبقها أوائل عام 2010 تنص على فكرة «الخلافة والدولة» والسعي إليها من قياداته الجديدة.
ويجمع الفاعلون السياسيون في المنطقة والعالم اليوم على تقدّم خطر الإرهاب على سواه من الأخطار المحدقة بهذا العالم، وتتشارك أغلب الدول والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والمنظمات الدولية والإقليمية، بالفعل، في تبادل المعلومات والتنسيق لاستباق ضرباته واتقاء عملياته والقضاء على قياداته وخلاياه. ومع استثناءات قليلة، فإن الجهد الفكري في تجفيف المنابع ما زال محدودًا، وحرب الأفكار ما زالت غير مؤتية ثمارها، عربيًا ودوليًا في آن معًا.

* جهود مشتّتة وفقدان التشبيك المعرفي

تبدو واضحة أهمية التشبيك بين جهود المؤسسات المختلفة، ووضع استراتيجيات متكاملة لتحقيق الهدف المشترك في مكافحة التطرّف وتجفيف منابعه، تجنّبًا للتكرار والتعارض وتعميقًا للهدف والنتائج المشتركة.
فعربيًا، هناك ما لا يقل عن خمسين مركزًا ومؤسسة بحثية تنحصر جهودها في دراسة قضايا الإرهاب والتطرّف، وتتنوع هياكلها وارتباطاتها، بين الحكومي وغير الحكومي. وبين استحداث برامج لرصد التطرف الإرهابي ونقد مقولاته ملتحقة بالمؤسسات الرسمية شأن المؤسسات الدينية والحكومية والأمنية الأخرى، واستحداث برامج لدراساته مرتبطة بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية. كما نشطت في دراسته مؤسّسات خاصة ومنظمات للمجتمع المدني والأهلي كذلك. ولكن كل هذه المؤسّسات تبدو وكأنها تعمل في جزر منعزلة كل منها عن الأخرى، من دون تكامل أو تنسيق أو انتباه.
كذلك تبدو مشكلة المنهج واضحة وجلية لدى القائمين على هذه المؤسسات، مع توزّع اهتمامات كل منها وأولوياتها حسب تخصّصه ومجالات اهتمامه. وهو ما يتزامن مع زيادة ملحوظة في عدد المراكز البحثية في العالم العربي والعالم بشكل عام، حسب دليل المراكز البحثية في العالم الصادر عن برنامج العلاقات الدولية في جامعة بنسلفانيا (TTCSP)، في عدده الصادر في مارس (آذار) من هذا العام، عن العام الماضي 2014، والذي امتد رصده حتى يناير (كانون الثاني) من العام نفسه. لقد كان عدد المراكز البحثية في العالم العربي المسجّلة في الدليل 521 مركزا، من بين مجمل 6681 مركزا للتفكير السياسي حول العالم، تضم أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) 1989 مركزا منها، أي ما يقرب من 60 في المائة منها، ولكن لا شك أن الطفرة واضحة في أعداد مراكز الدراسات العربية، التي ارتفعت من 287 عام 2011 من مجموع عالمي (1645) إلى 339 عام 2012 (من مجموع عالمي 6603) إلى 511 عام 2013 من مجموع عالمي 6826 مركزا حول العالم، وشكل الإرهاب والتطرف ملمحًا مهمًا ومؤثرًا في تكويناتها كذلك.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 جمع بنيامين فريدمان، الباحث والخبير في شؤون الإرهاب، قائمة غير كاملة - حسب قوله - تضم 100 مركز دراسات وبرنامج بحثي في جامعات غربية وآسيوية تخصصت، حصرا، في دراسة الإرهاب، وهو العدد الذي يُعتقد أنه قد ارتفع كثيرًا خلال السنوات الأربع الأخيرة.

* التكرار وضياع الفرص

وكنموذج للتكرار في التركيز على متابعة المواقع التواصلية، رغم الجهد الدولي الناجع الذي أرهق «داعش» وأوقف الكثير من حساباته على موقع «تويتر» مثلا، نلاحظ غياب التنسيق بل غياب التعرف بين المحاولات الجديدة في هذا الاتجاه مع المحاولات السابقة كجهد «حملة السكينة لتعزيز الوسطية»، التي بدأها شباب وفقهاء سعوديون لنقد جماعات التطرّف الإرهابي وتتبع خطاباتهم منذ عام 2003، عام بزوغ أول فرع لـ«القاعدة» خارج أفغانستان في أرض الحرمين الشريفين.
كذلك لم يحسن الكثير من المؤسسات الفكرية المعنية البناء على جهود الآخرين في هذا الاتجاه، فلم يتحقق الترويج الكافي لخطأ فتوى «مؤتمر ماردين» التي تعتمدها الجماعات المتطرفة منذ بدايتها مصريًا مع «تنظيم الجهاد» المصري عام 1979 واعتماد منظّره محمد عبد السلام فرج لها في تكفير الحكومة المصرية و«تقديم العدو القريب على العدو البعيد» في هذا الحين!.. رغم خطأ نقله وعوار فهمه لها. أيضًا، ضيعت المؤسسات الفكرية فرص المراجعات بشكل واضح، التي قدمتها الجماعات المتطرفة المختلفة لأفكارها السابقة، ولم يتم الاستثمار الواجب فيها جدلاً وتنشيطًا وتحصينًا للأجيال الجديدة ضدها.
ويُظَن أن الأهم هو عدم الاستثمار في خلافات الجماعات المتطرفة الثائرة الآن بين تنظيم داعش من جهة، وسائر الجماعات المتطرفة الأخرى، بل وما تشهده من احتراب وقتل متبادل في سوريا وليبيا والعراق.
نعم، ما زال الكثير من جهود مكافحة التطرف الإرهابي يتعاطى مع هذه الأحداث تعاطيًا ترفيًا وفلسفيًا متعاليًا لا يصب حقيقة في منعها وصدها، بل يبرر للتطرف أحيانًا حين يصطدم بعض منتسبي هذه المؤسسات بالمقدس ويتهمونه خطأ، وهو ما توظفه هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية لصالحها في ما بعد.
فضلا عما سبق، لا بد من تكامل المناهج في نقد التطرف والإرهاب كتنظيمات وأفكار شمولية عبر مواجهة شمولية معه، لا تكتفي بالبعد الواحد بل تتكامل في استراتيجية مكافحته الأبعاد. إن التنظيمات الشمولية لا تتضمن بعدًا واحدًا، فهي تتضمن أبعادًا دينية وفقهية تستدعي المواجهة الدينية والتراثية، كما تتضمن أبعادًا سياسية وعسكرية تستدعي المواجهة الأمنية والعسكرية كذلك، وتتضمن من جهة ثالثة أبعادا فردية تستدعي اعتماد مناهج علوم الاجتماع وعلوم النفس، كما تستثمر في أزمات وسياقات خاصة لا بد من معالجتها في سياقاتها الخاصة كذلك.
لهذا من الضروري تكامل جهود المؤسسات ذات الاهتمام الفقهي والمقاصدي والمذهبي مع المؤسسات ذات الاهتمام التنظيمي والتنظيمي، مع الاستفادة من جهود المتخصصين في علوم النفس والاجتماع، وتأسيس شبكة بحثية عربية وإسلامية وعالمية في هذا الصدد تجتمع بشكل دوري لإخراج التوصيات اللازمة لدوائر صناعة القرار والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية المختلفة.
إن عيبًا ماثلاً وواضحًا في فردية أو انعزالية العديد من الجهود العاملة في هذا المجال، إذ يعتبرها البعض قضية نخبوية فردية، أو يعتبرها البعض الآخر خاصة بجمهور خاص أو قطر معين أو مدخل محدد دون باقي المداخل. وهذا ما يعكس استراتيجية فوضوية في وجه تنظيمات منظمة ونشطة ومتفانية في نشر أفكارها التي تنطلي على العوام والمغرر بهم سواء من حدثاء السن أو من المتحولين الجدد للإسلام أو المتدينين المتعاطفين من دون فقه عميق لرد هذه الشبهات التي تديرها ماكينة التطرف ومصانع أفكارها.
وفي المقابل، يجد جهد مكافحة الإرهاب الدعم والرعاية، إذ استنفر مؤسسات كبيرة للاهتمام بقضاياه ومقولاته، في مقدمتها مؤسسة الأزهر التي يقوم مرصدها الذي نشط خلال العام الحالي برصد ممارسات الإرهاب ونقدها وإدانتها، وكذلك سائر المؤسسات الدينية، التي نشط أعضاؤها وقياداتها، بدرجة ما. إلا أنه رغم تعدد الهيئات والمؤسسات الفكرية والنظرية العاملة في مكافحة الإرهاب في المنطقة العربية، يلاحظ غياب التنسيق في ما بينها، وغياب استراتيجية موحدة أو متكاملة في هذه المكافحة والمدافعة وتنسيق الجهود بين أطرافها.
يبدو الإرهاب صيادًا ماهرًا يصطاد ما يناسبه ويوظفه لصالحه، ويقتطف النصوص والمرجعيات لصالحه، كما يستثمر الأزمات النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية حواضن لتجنيده ودعايته ويجتذب كل من افتقر لجانب من هذه الجوانب، عبر ماكينته دعائية وآيديولوجية منظمة يديرها متطوعون يرون عملهم فيها جهادًا وفرضًا ونجاة لهم في تحقيق مدينتهم الفاضلة.
هذا الواقع المؤسف والخطر يستوجب شمول الجهد وتكامله في مكافحة الإرهاب، ويستوجب كذلك تحصينًا ووقاية وردًا وهجومًا على ماكينته النشطة التي لا تنحبس في بُعد واحد أو جهد فردي.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.