3 مستويات شعرية يوحد بينها إيقاع المشهد

محمد رياض في ديوانه «يارا»

3 مستويات شعرية يوحد بينها إيقاع المشهد
TT

3 مستويات شعرية يوحد بينها إيقاع المشهد

3 مستويات شعرية يوحد بينها إيقاع المشهد

يشكل ديوان «يارا» للشاعر محمد رياض حالة مصرية بامتياز، ليس فقط لأنه يحيل، عبر مجموعة من الرموز والشخوص، إلى شواهد ووقائع لا تزال حية وقابعة في الوجدان والذاكرة على هذه الحالة بكل مدها وجذرها، تحديدا في فضاء الثورة المصرية خلال السنوات الأربع الماضية، وإنما أساسا لأن زمن قصائد الديوان الثلاث وما يتفرع عنها من هوامش، معجون بلحم ودم وطينة هذه الحالة حتى النخاع.. لا فواصل إذن بين زمن هذه الحالة وزمن الشعر، فكلاهما يفتش عن الآخر، ويؤكد استمراريته فيه، بوصفه فعل مقاومة وفعل حب في الوقت نفسه، حتى في لحظات صعوده وفرحه بالغضب والثورة، وأيضا في لحظات انكساره وإحساسه بالقهر والتواطؤ والمهانة.. إنه زمن مصادفة الشعر والواقع معا، فهذه الوقائع والشواهد رغم علائقها ووحداتها السرية، فإنها تطفو على السطح فجأة وبشكل مباغت، وكأنها ابنة مصادفة عمياء، عطلت معنى الحياة وسلبتها في كثير من الوقائع، بينما هي في حقيقة الأمر جريمة بكل مقاييس الفعل الإنساني.
تحت هذه المظلة يراوح الديوان الذي احتفت به الأوساط الأدبية في مصر وعدته إضافة لقصيد النثر، بين ثلاثة مستويات شعرية هي: شعرية الأثر، وشعرية الشاهد، وشعرية الصرخة، يوحد بينها عبر قوة الصورة وإيقاع المشهد، فتتبادل الأدوار بحيوية في فضاء النصوص، وتطالعنا ذات شاعرة متورطة في شعريتها، تقف دائما على حافة هذه المستويات الثلاثة، صانعة جسرا شفيفا، يربط بينها على مستويي النص والواقع في الوقت نفسه.
تومض شعرية الأثر منذ القصيدة الأولى «نشيد الأناشيد»، كعتبة استهلالية للولوج إلى فضاء الديوان. وعبر تسعة مقاطع شعرية مشربة بروح وصورة الحبيبة، وفي نفس سردي مهموم بالتقاط التفاصيل المهمشة والمستترة والمنسية فيما وراء البشر والعناصر والأشياء، ينجح الشاعر في تخليص القصيدة من حمولتها ومظانها التراثية المقدسة، وربكة التناص التي يوحي بها العنوان مع السفر الخالد في الكتاب المقدس، ويجرها إلى شباك لحظته الشعرية بكل تخومها الراهنة، حيث تتحول القصيدة إلى أيقونة حب.. «هل صارحتنا القصائد بأننا لن نعثر على الحب بعيدا عن قنابل الغاز، وبأننا لن نعرف الحرية إلا حين نرسمها على الحواجز؟».
إن فعل الحب يشكل ركيزة أساسية في القصائد الثلاث، ويتبدى في مستويات ودلالات متنوعة وحية، فهو صنو للحرية والحلم، وهو نقيض للقبح والدمامة والتشوه، وهو جوهريا يمثل إرادة الذات في التشبث بالحياة، وهو فعل طفل يرتبط دوما في قصائد الديوان بمخزون الطفولة والحنين إليها.. ومثلما يقول في هذه القصيدة نفسها:
أحبك
والشوارع مزهوة بدم الحبيبات
أحبك
والعالم لا ينتظر اعتذارا عن إقامتي وصخبي، التماثيل
لا تعرفني، والعشاق يجمعون تذكاراتهم من عبوات القنابل
وفوارغ الطلقات
مساء الخير أيها الموت
مساء الخير أيتها الحرية
لكن السؤال قد يكون ملحا هنا، بل منطقيا: ما الذي يوحد بين يارا سلام الشابة السجينة التي وسم الديوان عنوانه باسمها، وشيماء الصباغ الشابة التي قتلت غدرا، وأهدى الشاعر الديوان إلى روحها، هل لأن الأولى اخترقت قانون التظاهر في مظاهرة سلمية ضده؟ وهل لأن الثانية حملت الزهور لكي تضعها على أرواح الشهداء أيضا في مظاهرة سلمية؟ ثم ما الذي يوحدهما بأرواح الضحايا في عربة الترحيلات، والألتراس في واقعة مباراة كرة القدم بالدفاع الجوي، ونشيد الأناشيد، والجنود الفقراء الذي لا يملكون من زاد حياتهم سوى خوذة وسيجارة وكوبا من الشاي الأحمر الثقيل؟ إنها الصرخة، صرخة الحرية من أجل فضاء حر وعادل، من أجل وطن يعرف أن الخيط الذي يوصل للضحك، هو الخيط نفسه الذي يوصل للبكاء.
إننا قد لا نعرف يارا ولا شيماء شخصيا، وربما لم نحظ بمصادفة لقاءيهما، لكن ما الذي يشدنا نحوهما بكل هذا الشجن الجارف؟ إنها الصورة.. صورة يارا التي انطبعت في شفاهنا ابتسامتها الطفلة ورفيقاتها في قفص المحكمة.. صورة شيماء، والدم يعطي قميصها في ميدان طلعت حرب بوسط العاصمة، على مرأى من رجال الشرطة بأسلحتهم المشرعة.
هذه الصور وغيرها تتلاقح في الديوان بحثا عن شاهد حق، عن حقيقة مهدرة وضائعة، يشارف تخومها النص بصرخة مكتومة وعارمة من الغضب والعشق والثورة.. تطالعنا هذه الصرخة على نحو كاشف في قصيدة «يارا» المركزية في الديوان، وقد فازت هذا العام بـ«جائزة غسان كنفاني»، التي تنظمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكأن ثمة ملامح شفيفة في خلفية المشهد تستحضر صورة شيماء:
لأنك أجمل القصائد
حرقوا كل أوراقي، وصادروا مشاعري، وبعثروا ما تبقى
في الصحف والمقاهي
لأنك أجمل النساء
تركت وحيدا
أتدثر بالأشعار الثقيلة
وأعض الظلام
لأنك حرة
جسدي لغم يتنقل في الشوارع
وروحي لهب
كيف إذن حلمنا بكل هذه السعادة
ونسينا طعم الاختناق في الهواء الطلق؟
كيف أن بإمكانك أيها العالم أن تصير حرا
وأنت تخطف منا حبيباتنا
وكل براءة الكلمات؟
ولا يكف الديوان عن الاشتباك مع السياسي، في سياق جدلي محموم بالحقيقة، تعلو فيه نبرة الهتك والتعرية والتحدي والإدانة، بحثا عن وجه عادل للوطن والإنسان معا. فالسياسي كما تجسده القصائد دائما في موضع تساؤل سلبي، يصل إلى حد السخرية، لا يملك سوى اللعب على ثنائيات ومعايير ملتوية ومفضوحة، وهو عابر ومؤقت، على عكس الوطن والشعر.. تعي الذات الشاعرة ذلك، فتنفض عن جدلية هذه العلاقة ثوبها القديم البالي، الذي يحصرها في ثنائية الجلاد والضحية، لتتحول إلى علاقة شائكة وملتبسة يمكن أن أسميها: «القهر باسم الحرية»، والعكس صحيح أيضا، وهي علاقة مخادعة خاصة في فضاء الثورة، الذي يوهم دوما باختصار المسافة بين الاثنين: السياسي والشعري، لكنها تزداد تعقيدا وخداعا حين يصبح السياسي مصدر السلطة والنظام والحكم.. يكشف الشاعر أقنعة هذا الالتباس مخاطبا الموت في مرثية موجعة، قائلا في قصيدة «ألتراس»:
أيها الموت
ثمة مقبرة جماعية في داخلي
ثمة أطفال سيأتون
فأنا مليء بطفولة لا حدود لها
لا تبتعد..
نلتقي في ثورة قادمة
أيتها المدرعات الحميمية
فأنا في يوم من الأيام
مرهقا من الركض والهتافات
تركت ذاكرتي بإحدى النواصي
لقد ارتكز الديوان على التماهي بين فعلي المقاومة والشعر، الذي أطلت بذوره بقوة في ديوان الشاعر الأول «الخروج إلى النهار»، لكنه هنا استطاع أن يشدهما إلى آفاق جمالية جديدة في فضاء قصيدة النثر، فالحالة الاستثنائية ومدارات الرؤية لا تنفصلان عن طرائق تشكلهما جماليا في الديوان، فثمة مجموعة من المقومات الفنية اللافتة تدعم نمو النص دراميا وفكريا، لعل من أبرزها الاتكاء على بنية السؤال، بشكل يؤكد أن التمرد قرين التساؤل، وتتشكل هذه البنية بمعول لغة حادة غالبا، حتى في مباشرتها، لغة مشربة أحيانا بنثار من المجاز، لكنه مجاز الحالة وليس مجاز البلاغة التقليدية، لكن اللافت بقوة في هذه الطرائق الفنية أن خيوط المفارقة رغم تعددها في القصائد ورغم اعتمادها على وقائع ومشاهد بعينها، فإنها تنبع من داخل النصوص نفسها، وتحيل إليها.. باختصار هي مفارقة ابنة النص.. ابنة مائه الخاص وذاكرته الخاصة، وحلمه الخاص.. ابنة تمرده بصفته إنسانا يحلم بالحرية والكرامة، إنها جرسه الصغير المعلق في عنق العالم، الذي يوجه الشاعر خطابه إليه ممهورا بالإدانة، قائلا:
أيها العالم الذي يفيض بالعواء
هنا دم بلا هوية
أحلام يهددها فقدان التوازن
كومة أجساد بلا ذكريات



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.