هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

محنة الروهينجيا وأزمة فطاني تسلطان الضوء على المخاطر في هذه المنطقة

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟
TT

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

بينما كانت الشرطة التايلاندية لا تزال تحاول فك طلاسم الهجمة الإرهابية الأخيرة التي وقعت خارج أحد المعابد البوذية الأسبوع قبل الماضي، في وسط المنطقة التي تهيمن عليها الأغلبية البوذية في جنوب البلاد، حاولت جريدة «الشرق الأوسط» تحليل أسباب اتساع فجوة التعايش بين المسلمين والبوذيين في منطقة حوض خليج البنغال بجنوب آسيا. هذه المنطقة تعد من أهم التجمّعات البشرية البوذية في العالم، ذلك أنه يعيش في دولها أكثر من 120 مليون نسمة، ويتوزّع هؤلاء على دول يشكل البوذيون غالبية سكانها، مثل تايلاند وميانمار (بورما) وسري لانكا.
ميانمار، كما هو معروف، شهدت في الآونة الأخيرة أحداث عنف خطيرة للغاية بين البوذيين والمسلمين في جنوب آسيا، وحقًا ركّزت وسائل الإعلام العالمية على نطاق كبير على جرائم الإبادة التي تعرّض لها المسلمون الروهينجيا في ولاية راخين بالبلاد. ويمكن، من واقع القصص المرعبة المتواترة والموثقة عن اعتداءات البوذيين على المسلمين الروهينجيا، اعتبار ما حدث ويحدث من أسوأ «المحارق» البشرية في العصر الحديث.
غالبًا ما ترتبط البوذية بالتأمل والهدوء النفسي. ومن بين المبادئ الأخلاقية التي يتلقنها الرهبان البوذيون وتزرع في أفئدتهم يأتي رفض القتل على رأسها جميعًا، كذلك يعتبر مبدأ اللاعنف من المبادئ المحورية في العقيدة البوذية أكثر منه في أي ديانة أخرى. ولكن، خلال السنوات الأخيرة، تنامت الأصولية البوذية وعاشت حالة تصاعد في التطرّف غير مسبوقة.
لماذا صار الرهبان البوذيون اليوم ميالين لاستخدام خطاب الكراهية والعنف ضد المسلمين؟

متطرّفو ميانمار وسري لانكا

جغرافيًا، تفصل ميانمار عن سري لانكا مسافة تزيد على أكثر من ألف ميل بحري في المحيط الهندي، ومع هذا شهدت الدولتان في وقت واحد، تقريبًا، تصاعدًا ملموسًا في نشاط الجماعات البوذية المتطرفة. ومن اللافت، بل من المحيّر في الأمر أن الدولتين لا تعيشان، في المقابل، تصاعد وتيرة التشدد الإسلامي كما هو الحال في دول أخرى. فالمسلمون في الدولتين يشكلون أقلية صغيرة، ومسالمة بصفة عامة.
في الدولتين بدأت الجماعات المتطرّفة على شاكلة جماعة «969» وجماعة «ماباثا» (وهي منظمة حديثة التأسيس من الرهبان البوذيين الذين يشيرون إلى أنفسهم بصفة جماعية بأنهم «منظمة حماية العرق والدين») في ميانمار، وجماعة «بوذو بالا سينا» – أو «القوة البوذية» – في سري لانكا، بدأت في الظهور على الساحة منذ عام 2012، وهي ناشطة في ترويج إيديولوجيات ومفاهيم عنيفة أسفرت عن مئات القتلى في سري لانكا وعما يصفه البعض بـ«الإبادة الجماعية» في غرب ولاية راخين بميانمار.
من جهة أخرى، فإن التفسير التاريخي لاختيار المتطرفين البوذيين الميانماريين الرقم 969 يبدو مثيرًا للاهتمام، ذلك أنه وفق تأجيجهم العدائي يرمز إلى البوذية في مواجهة الرقم 786 المستخدم من جانب المسلمين في أعمالهم للإشارة إلى النبي محمد وفق «حساب الجمّل» لأحرف البسملة. والسبب في الرقم 969 وأهميته للبوذيين المتطرفين هو أن الرقم 9 الأول يرمز إلى الصفات التسع الخاصة والاستثنائية لبوذا، والرقم 6 الصفات الاستثنائية الخاصة لتعاليمه (الذارما)، والرقم 9 الثاني يرمز إلى الصفات الخاصة الاستثنائية للرهبان البوذيين (السانغا).
وفي لقاء لنا مع الدبلوماسي الهندي السابق إس. دي. موني، الذي عمل في سري لانكا، فإن جماعة «بوذو بالا سينا» تشكلت فقط عام 2012، لكنها مع ذلك لعبت دورًا محوريًا في إذكاء روح التطرف والعنف ضد المسلمين. وبالإضافة إلى دورها البارز والنشط في سياسات سري لانكا، ارتبطت هذه الجماعة المتطرفة بعلاقات بجماعات بوذية متطرفة مثلها في اليابسة الآسيوية، وعلى الأخص، في ميانمار. وفي العام الماضي سافر الراهب البوذي المتطرّف آشين ويراثو، أبرز قادة جماعة «969» في ميانمار، إلى سري لانكا العام الماضي على مرأى ومسمع من مختلف وسائل الإعلام للتوقيع على معاهدة مع جماعة «بوذو بالا سينا»، تهدف في ظاهرها إلى حماية العقيدة البوذية العالمية. وفي المقابل، قام غالاغودا غناناسارا، المؤسس المشارك لـ«بوذو بالا سينا» بدوره بزيارة إلى ميانمار. وتقول الجماعتان إنه حتى إذا سادت العقيدة البوذية في بلديهما، فهي لا تزال تحت التهديد بصورة عامة، وأنهما وقعتا على «مذكرة تفاهم» بشأن تشكيل تحالفات على مستوى قارة آسيا لحمايتها.
وبالفعل، عملت الزيارات المتبادلة على تعميق العلاقات بين أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حراس العقيدة البوذية، ويسيطرون على «الحالة الإيمانية» البوذية ليس في كمبوديا وتايلاند وفيتنام ولاوس وميانمار وسري لانكا فحسب، بل في اليابان والصين أيضًا.
ولكن ثمة من يلفت إلى أن أحداث العنف التي يقودها بوذيون ليست جديدة تمامًا ولا هي فريدة من نوعها خلال السنوات القليلة الماضية، ويشير هؤلاء إلى الحركة البوذية المتشدّدة التي انخرطت في أحداث عنف مناهضة للحكومة في فيتنام الجنوبية (سابقًا) بين عامي 1963 - 1965. وفي بعض الحالات، يرى البعض أن أعمال العنف قد تكون مجرّد دليل على اليأس التام، ففي الصين، أقدم 130 راهبًا بوذيًا على الانتحار حرقًا في حالة احتجاج ضد الحكم الصيني لإقليم التبت.
أيضًا شهدت تايلاند عدة دعوات رهبانية بوذية بارزة لأعمال العنف. فخلال عقد السبعينات من القرن الماضي، طرح رهبان بوذيون مثل فرا كيتيووثو مقولة «إن قتل الشيوعيين لا يعد انتهاكًا لأي من التعاليم البوذية». ولاح الجانب «العسكري» العنيف من البوذية التايلاندية مرة أخرى في عام 2004 عندما تجدّد تمرّد المسلمين (وجلهم من المالاي؛ أي الملايو) في جنوب تايلاند، ولا سيما، في إقليم فطاني. ومنذ يناير (كانون الثاني) 2004، حولت الحكومة التايلاندية الأديرة البوذية في المنطقة إلى مواقع عسكرية وكلفت الرهبان البوذيين العسكريين بالخدمة لديها وأوكلت إليهم مهام دعم الميليشيات (أو فرق الحراسة) البوذية المحلية. ونجم عن تصاعد تمرّد مسلمي جنوب تايلاند تأسيس منظمة بوذية أصولية لكنها لا عنفية تعرف باسم «مؤسسة معرفة بوذا»، تدعو إلى اعتماد قانون للتجديف و«نشر المفاهيم والأخلاق البوذية» في المجتمع التايلاندي.
أما في اليابان، فلقد كان كثيرون من فرسان «الساموراي» تابعين مخلصين للعقيدة «البوذية الزنّية» (وهي مزيج من مذهب الماهايانا البوذي المنتشر في الهند والديانة التاوية، ولقد انطلقت من الصين وانتشرت في اليابان وكوريا). وكانت «البوذية الزنّية» تبرر اللجوء إلى العنف إذا كانت الغاية سليمة، وترى مثلاً أن قتل رجل على وشك ارتكاب جريمة مروعة عمل طيب ورحيم. وفيما بعد أدى تجدد ظهور هذا النوع من التفكير المسوّغ للعنف عندما أخذت اليابان تعد العدة لخوض الحرب العالمية الثانية.
عودة إلى آشين ويراثو، الراهب الميانماري المتطرف، فعندما وضعت مجلة «تايم» الأميركية صورته على غلافها ووصفته بعبارة «وجه الإرهاب البوذي»، لم تخرج 4 آلاف نسخة من المجلة خارج حدود مطار باندارانايكه الدولي في كولومبو عاصمة سري لانكا. ولكن ويراثو قال في ذلك العدد من المجلة معبرًا عن عدائه للمسلمين: «إن المسلمين يتكاثرون بسرعة كبيرة، وهم يسرقون نساءنا ويغتصبونهن. إنهم يودّون احتلال بلادنا، لكنني لن أسمح لهم بذلك. لا بد من الحفاظ على بوذية ميانمار». هذا ولقد مُنع بصورة رسمية توزيع ذلك العدد من «تايم» في ميانمار أيضًا.
وصف ويراثو للمسلمين تتبناه واقعيًا جماعات «بوذو بالا سينا» و«ماباثا» و«969» والجماعات الثلاث تعتبر المسلمين الأعداء والأشرار الرئيسيين في البلاد، وهذا على الرغم من أن عداء هذه الجماعات للمسيحيين والهندوس يبدو واضحًا أيضًا في بعض المناطق. وتقول الصحافية الهندية نيروباما سوبرامانيان، التي عملت على تغطية أخبار سري لانكا على نطاق واسع وكانت لها بعض الجولات في ميانمار أيضًا، «تدعو خطب ويراثو، التي يسهل الحصول عليها عبر شبكة الإنترنت أو على الأقراص المرصوصة (المدمجة) في المتاجر، إلى مقاطعة المتاجر والشركات التي يديرها مسلمون»، وتنقل الصحافية الهندية عن الراهب البوذي المتطرف قوله في إحدى خطبه: «إذا ابتعت من متاجر المسلمين، فلن تتوقف أموالك هناك فحسب. بل سوف توجه في النهاية إلى تدمير دينك وعرقك».
ومع أن سري لانكا، بصورة غير متوقعة، أفلحت في انتخاب حكومة جديدة تتعهد بكبح جماح منظمة «بوذو بالا سينا»، وتتهم الحكومة السابقة في عهد الرئيس السابق ماهيندرا راجاباكسه بأنها هي التي كانت توفر الدعم القوي للمنظمة المتطرفة، تقول سوبرامانيان إن الحكومة الجديدة، التي هي على شاكلة سابقتها، تضم الحزب القومي البوذي القوي الذي يبدو متقاعسًا عن مواجهة الرهبان المتطرفين في البلاد.

مناخات وبيئات متشابهة

في الحقيقة، هناك أوجه تشابه مذهلة بين سري لانكا وميانمار، فكلتا الدولتين تضم غالبية بوذية تدعمها الدولة تشكل ما بين 70 و80 في المائة من مجموع تعداد السكان. فسري لانكا خرجت لتوها من عقود طويلة من الحرب الأهلية المدمرة بين مؤسسة السلطة التي تقف على رأسها الغالبية السنهالية البوذية وحركيي الأقلية التاميلية الهندوسية، وخلال هذه الحرب الأهلية، ضغط البوذيون ورهبانهم على الحكومة لاتخاذ مواقف قوية ومتصلبة وعدائية. أما ميانمار فتعاني منذ عدة عقود من الحكم العسكري المقيت. وفي البلدين صبت الغالبية السكانية البوذية خلال الفترة الاستعمارية من حكم البلدين نقمتها على السكان المسلمين الذين عانوا العبء الأكبر من وطأة الحكومات المحلية أو التجاوزات التي كان خلفها المتمردون بعد الاستقلال.
وفي ميانمار وحدها، التي تضم 135 مجموعة عرقية معترف بها في البلاد، جرى تجريد المسلمين الروهينجيا من حق المواطنة. ووفقًا لتقرير حديث صادر عن منظمة «هيومان رايتس ووتش»، فإن نحو 125 ألفًا من الروهينجيا تعرضوا للتشريد والتهجير بالفعل في ولاية راخين؛ مما نجم عنه تدفق مستمر للاجئين، مع العلم، أن المئات منهم يقضون نحبهم في رحلات السفر عبر البحر بسبب الجوع ولأسباب أخرى.

أزمة فطاني في جنوب تايلاند

وفي هذا الشأن يقول باغوات دايال السفير الهندي السابق إلى تايلاند «في حين أن التوترات الطائفية البوذية - الإسلامية في سري لانكا تعود إلى أجندات سياسية قومية وإلى الحرب الأهلية كذلك، فإن التوترات الطائفية البوذية - الإسلامية في تايلاند، المتاخمة لميانمار، تتميز بتاريخ أطول وأعمق. إذ كانت المنطقة التي تضم المحافظات الجنوبية الثلاث جزءًا من المملكة البوذية المعروفة باسم لانغكاسوكا، وخلال فترة تاريخية معينة هيمن البوذيون الجنوبيون على مملكتهم القديمة. ومع ذلك، تحولت تلك المملكة في وقت لاحق إلى مملكة باتاني – أو فطاني – الإسلامية. وراهنًا يعكس الوضع الديموغرافي في جنوب تايلاند ذلك الماضي المتنوع، ذلك أنه في حين يشكل البوذيون 90 في المائة من سكان تايلاند، يشكل المسلمون (ومعظمهم من المالاي) نسبة 85 في المائة من سكان المحافظات الجنوبية الثلاث. وعبر القرون، كافح المسلمون لاستعادة الحكم الذاتي السياسي لمحافظاتهم من حكومة تايلاند المركزية في بانكوك. وكلما كانت الحكومة المركزية ضعيفة، كانت تندلع المقاومة التايلاندية الجنوبية على الفور. ومنذ يناير (كانون الثاني) 2004، وقعت البلاد تحت الأحكام العرفية، وتنتشر أعمال العنف في المنطقة كما يعيش الناس هناك في خوف دائم».
في ضوء هذا الواقع، أظهرت نسبة لا بأس بها من البوذيين في تايلاند دعمها لجماعتي «969» و«ماباثا». ولقد حضر رهبان بوذيون اجتماعات لـ«ماباثا» في ميانمار (بورما) المجاورة وتبرعوا بأموالهم لمساعدة الجماعة على نشر رسائلها وتعاليمها. ويرى كثيرون من التايلانديين بأنه لا ينبغي على بلادهم استقبال قوارب اللاجئين من الروهينجيا، بل يجب على الحكومة التايلاندية طردهم إلى البحر مجددًا. وحسب الكاتب سانجيب بارواه، فإن الساسة «دائمًا ما استخدموا التطرف البوذي لخدمة مصالحهم السياسية، فبعد أقل من عقدين منذ الاستقلال، كانت معظم ميانمار تحت الحكم العسكري الصارم، وانضمت البوذية تحت لواء الجنرال ني وين ومشروعه «الطريق البورمي نحو الاشتراكية» الذي أعقبته عقود من الانعزالية الدولية. أما سري لانكا فظلت لفترة طويلة دولة برلمانية ديمقراطية، ولكن في عام 1956 حقق رئيس الوزراء السنهالي الشعبوي سولومون باندارانايكه نصرًا ساحقًا في الانتخابات، راكبًا موجة الشعبوية البوذية المحلية في البلاد. إلا أن الكثير من زعماء البوذية في العالم مثل ثيتش نهات هانه وبيخو بودي وشودو هارادا، وحتى الدالاي لاما نفسه، أدانوا عمليات العنف ضد المسلمين ودعوا إلى السلام بين الطرفين، ودعم ممارسة المبادئ البوذية الأساسية الداعية إلى رفض إيذاء الآخر، والاحترام والتعاطف المتبادل».
من جهة أخرى، وفق الدكتورة سانتيشري دوليبودي بانديت، المتخصصة في شؤون السياسة والدين «إنهم (أي البوذيون المتطرفون) مثل نظرائهم من المسلمين المتطرفين، يستغلون الدين مبرّرًا لأعمال العنف. ويقول ويراثو إن البوذية عقيدة مسالمة بطبيعتها، إلا أنه من الضروري النزوع إلى العنف من أجل مقاومة التهديد الإسلامي، ولتجنب استئصال الدين المسالم تمامًا، مشيرًا إلى أن النفوذ البوذي التاريخي في وسط آسيا كان موجودًا قبل ظهور الإسلام. إن حجته هشة للغاية، خصوصًا لدى النظر إلى ندرة أعمال العنف من جانب المسلمين أو الجماعات الإسلامية في ميانمار. مع هذا، يدغدغ هذا الكلام مشاعر الجماهير من المتدينين المخلصين والقوميين المتعصبين والملتزمين دينيًا واجتماعيًا. كما أن هناك إحساسًا جليًّا بالانتهازية حيال كثير من لهجة الخطاب التي تستخدمه الجماعات البوذية المتطرفة، وهي مقتبسة مباشرة من الطريقة التي يناقش بها الغرب الدين الإسلامي».
في المقابل، هناك أيضًا دفاع غير مباشر عن التطرف البوذي. إذ يقول الدكتور كلاوديو شيكوزا، عضو هيئة التدريس ومستشار الأبحاث في كلية الآداب والعلوم لدى جامعة ويبستر (فرع تايلاند)، في محاضرة له أخيرًا في الهند: «ثمة نوع من الموضة الدارجة هذه الأيام لإظهار أن البوذية، كدين، على صلة وثيقة بالعنف». ويشير شيكوزا، الذي له عدة مؤلفات حول البوذية، بأصابع الاتهام نحو شريحة من العلماء الذين يميلون إلى إبراز الجانب العنيف من البوذية. وهو يرى أن هناك اليوم كثرة من العلماء، وعلى الأخص من العلماء الغربيين، من يفضلون إبراز اللون الديني للعنف في البوذية.
كيف يمكن معالجة هذا القدر أو ذاك من التطرف؟ يظل سؤالاً كبيرًا بلا إجابة.
إم. كيه. بهادراكومار، الخبير الهندي في الشؤون الدولية، يرى أنه «ليس بمقدور الحكومات المحلية مواصلة إنكار الواقع بل يتوجب عليها الاعتراف بأن المشكلة جد خطيرة. والنتيجة المحتملة لذلك هي وصول الأصولية الإسلامية من الخارج إلى مناطق في جنوب آسيا وشرقها والانخراط في مواجهة مع المتطرفين البوذيين. وحقًا بدأت الجماعات الإسلامية المتشددة تتنبه إلى محنة المسلمين في هذه المناطق، وعمدت بالفعل على تنفيذ هجمات تحمل شعار «الانتقام»؛ مما ينذر بتفاقم الأوضاع إلى مستويات خطيرة».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».