ألبرتو مانغويل.. الكون كتاب

فاضل السلطاني
فاضل السلطاني
TT

ألبرتو مانغويل.. الكون كتاب

فاضل السلطاني
فاضل السلطاني

ألبرتو مانغويل ظاهرة فريدة في كل التاريخ الأدبي. فلم يكرس أحد قبله كل حياته للقراءة، والقراءة فقط، بل إنه «مبتلى» بالقراءة مثلما يبتلى المجانين بحوار وهمي يتردد صداه في مكان ما في أذهانهم». لم يدعِ يوما، أو «يعتدي»، كما يفعل المئات يوميا، على فن آخر.. لا شعرا ولا سردا. إنه كما يبدو لا يحقق نفسه إلا عبر القراءة. وهو يشاركنا في قراءاته المتنوعة النادرة، من أرسطو حتى غوغل، حتى يتورط القراء أيضًا بحوار مشابه، يستفزهم بصمت من خلال الكلمات التي على الصفحة. في الغالب لا يدون القارئ ردود أفعاله، لكن أحيانا تنتاب قارئ ما رغبة بإمساك القلم والتواصل مع هذا الحوار بكتابة الهوامش على النص. هذا التعليق، هذه الهوامش، هذه الكتابة الظل التي ترافق أحيانا كتبنا الأثيرة توسع من النص وتنقله إلى زمن آخر، وتجعل من القراءة تجربة مختلفة وتضفي واقعية على الأوهام التي يرويها لنا الكتاب، ويريدنا نحن قراءه أن نعيشها.
وإذا كانت إليزابيث درو أرادت أن تعلمنا من قبل كيف نقرأ الشعر من أجل أن نفهمه، فإن مانغويل لا يريد أن يعلمنا كيف نقرأ السرد. إنه عاشق متصوف فحسب ينقل تجربة عشقه للكتب التي سلبت عقله. مكتبة بابل كاملة في ذهن هذا الرجل. إنه مثل ذلك الأمير الفارسي الذي يحدثنا عنه في «يوميات القراءة» والذي كان يصطحب مكتبته الضخمة على ظهر قافلة من الجمال مصنّفة بحسب الأحرف الأبجدية.
مثل هذا الأمير الجوال، ارتحل مانغويل كثيرا بحثا عن الكتب بنسخها النادرة. إنه، كما يقول، يحب التيه في عقول أناس آخرين، فقط لعندما يتمشى لا يقرأ، وهو لا يستطيع أن يجلس ببساطة وأن يفكر.. الكتب تفكر بدلا عنه. يعيش في عزلة كبيرة لا يريد أن يبرحها حتى لا يهجر الكتاب، أو قل إن قوة الكتاب تفرض عليه عزلته في النهار والليل. ولكن ما الفرق بين قراءة النهار وقراءة الليل؟
في كتابه الجديد «المكتبة في الليل» - مكتبة الساقي - يقول مانغويل إنه يستمتع بالقراءة ليلا في الصمت الكثيف، عندما تشعّب الأضواء رفوف مكتبته إلى اثنين. وفي الأعلى تتبدد الصفوف العلوية في الظلمة، ويبقى في الأسفل القسم المتميز ذو العناوين المضيئة.
ويعود بنا في هذا الكتاب إلى الذاكرة باعتبارها مكتبة رتبت حسب فوضى الأبجدية. ويبدأ بمكتبة الإسكندرية، التي كانت مكانا للذاكرة غير المكتملة. إنها لا تكتمل قط، فهناك دائما كتب افتراضية لم تكتب ولن تكتب أبدا. تحت سقف هذه المكتبة التي كانت عظيمة قبل الحريق الذي التهم نحو أربعين ألف كتاب نادر، خلال إقامة يوليو (تموز) قيصر في الإسكندرية عام 47 قبل الميلاد، مارس (آذار) العلماء ما يسميه مانغويل «خيال الحرية».
ولكن المكتبة سلطة أيضا. وأول من أدرك ذلك الملك آشور بانيبال، الذي حكم من 668 لإلى 633 قبل الميلاد، والذي كان يفاخر بأنه كاتب «رغم أنه لم يكن من بين أسلافي الملوك من تعلم فنا أيضا». ووراء ذلك ثقته بـ«خلود الكلمة». وقبل أربعة آلاف سنة خلد حمورابي نفسه في مسلته.
والقراءة ذهن كذلك، فالنصوص المستعادة من خلال الذاكرة تخضع لتغيرات جدية، إذ تتفتت أو تتقلص أو تطول بشكل لا يمكن التكهن به، فتتحول عاصفة شكسبير الطويلة إلى سطور قليلة خالدة، أو يتمدد نص قصير إلى عالم كبير مفتوح، وقد تكبر مجرد عبارة واحدة من كتاب ضخم وينسى باقي الكتاب، أو قد يتوسع العنوان فقط إلى فضاء لا متناه ليبقى في أذهاننا مدى الحياة.
كان بورخيس، صديق مانغويل، يقول إن الكون مكتبة، وتخيل الفردوس على شكل مكتبة. وأكثر ما ينطبق هذا القول على مانغويل نفسه.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.