لبنان: الإصلاح بديلا للثورة

الحراك المدني يصطدم بالإستغلال السياسي والعوامل الطائفية

لبنان: الإصلاح بديلا للثورة
TT

لبنان: الإصلاح بديلا للثورة

لبنان: الإصلاح بديلا للثورة

كان مشهد الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها ساحتا الشهداء ورياض الصلح في اليومين الأخيرين في وسط العاصمة اللبنانية بيروت «صادما» بالمعنى الإيجابي للكلمة، ليس فقط بالنسبة للمسؤولين السياسيين والحزبيين؛ بل للمنظمين والشعب اللبناني نفسه الذي افتقد إلى تحرّك كهذا منذ عشرات السنوات.
هذا المشهد الذي حمل الطابع المدني والشعبي وفاق عدد المشاركين فيه العشرة آلاف شخص وفق التقديرات، انقلب رأسا على عقب بعدما حدث ما لم يكن في الحسبان وفلتت الأمور من عقالها وسادت الفوضى مساء السبت، حيث عمد عدد من «المدسوسين» والمحسوبين على بعض الأحزاب، وفق ما أكد منظمو حملة «طلعت ريحكتم» ومنظمات المجتمع المدني المشاركة في الحراك، إلى القيام بأعمال شغب طالت تكسير المحلات وإضرام النيران ببعض الخيام والاعتداء على القوى الأمنية. وهو الأمر الذي وضعه المراقبون في خانة محاولات إفشال التحرّك من قبل بعض الأحزاب بعدما لم يعلن أي منها تأييده الواضح له، وبالتالي المشاركة الفعلية على الأرض، واكتفى معظمها المشارك في السلطة بعبارات «التأييد» للمطالب حينا والتحذير من نتائج التحركات التي قد تنعكس سلبا على الوضع اللبناني حينا آخر، لا سيما في حال إسقاط الحكومة واستقالة رئيسها تمام سلام.

ثمة سؤال مطروح الأن حول مدى إمكانية نجاح تحرّكات شعبية كهذه في لبنان تختلف عن الحزبية والطائفية المعتادة، بعدما خلع آلاف المواطنين ثوبهم الحزبي ونزلوا إلى الشارع رافعين الصوت ومطالبين بأدنى حقوقهم، في وجه كل الانقسامات.
لكن وعلى الرغم من فقدان التحرك بعض الزخم الذي انطلق به، بعدما رأى فيه القيمون عليه والشعب اللبناني بارقة أمل تبدأ بحل «أزمة النفايات» وقد تصل إلى قضايا أكبر، فإن أمين سر حركة التجدد الديمقراطي الدكتور أنطوان حداد، يرى أنّه لا يزال أمامه فرصة للنجاح وتجاوز كل محاولات تسييسه شرط إعادة النظر به وتقويم التجربة بشكل عام للعودة والانطلاق من جديد. ويقول حداد في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «حسنا فعلوا بتأجيل المظاهرة التي كانت محددة يوم الاثنين إلى يوم السبت المقبل، وذلك لتفادي تكرار الأخطاء السابقة، مع ضرورة تأمين عنصرين أساسيين، هما، تنظيم التحرك وحمايته عبر التواصل مع القوى الأمنية، إضافة إلى تحديد المطالب بدقة وأهمها إيجاد حلول لأزمة النفايات، وعدم إدراج مطالب غير منطقية وغير قابلة للتحقيق في الوقت الحالي كإسقاط النظام والحكومة. مع العلم، أنّ الإعلان عن تأجيل موعد المظاهرة لم يحل دون إصرار المواطنين على المضي قدما بتحركهم، ولا تزال تشكّل ساحة رياض الصلح محطة يومية لهم تأكيدا منهم على مطالبهم». وبدل أن يشكّل الجدار الإسمنتي الذي وضعته القوى الأمنية للفصل بين مقر الحكومة وساحة الاعتصام الاثنين، حاجزا أمام التحرك، شكّل حافزا إضافيا للناشطين الذين حوّلوه منبرا للتعبير عن مواقفهم ومطالبهم واصفين إياه بـ«جدار الفصل»، قبل أن يعود سلام ويطلب أمس من القوى الأمنية إزالته.
وعدّ حداد أنّ المواجهات بين القوى الأمنية والمتظاهرين يوم السبت الماضي هي التي سمحت لجهات سياسية ومخابراتية لها مآرب خصوصا أن تدخل على الخط، والدليل أنّها أعدّت نفسها لليوم التالي في محاولة لإفشال التحرك، وحدث ما حدث من اعتداءات وأعمال تخريب ومواجهات أدت إلى سقوط عشرات الجرحى أحدهم في حالة الخطر، مضيفا: «من أرادوا إفشال التحرك من الطبقة السياسية حاولوا تحوير الهدف الأساسي والبعث برسالة سياسية طائفية سنية شيعية عبر تعميم الفوضى وتخريب وسط المدينة».
من جهته، يقول حسان الزين، الصحافي والناشط في حملة «طلعت ريحكتم» معلقًا: «لا شكّ أنه تبقى هناك دائما محاولات لـ(التسييس)، لكن ما حدث يومي السبت والأحد الماضيين أصبح وراءنا بعدما تجاوزنا الامتحان ولم تنجح الحكومة (أول من) أمس في تمرير المناقصات التي سبق أن أعلن عنها وزير البيئة محمد المشنوق، والتي تمثل فضيحة فساد كبرى».
وكان المشنوق قد أعلن أول من أمس، عن فضّ مناقصات النفايات، بالإعلان عن الشركات الفائزة التي عكست توزيعا ومحاصصة فاضحة بين الأطراف السياسية، إضافة إلى ارتفاع أسعارها التي تراوحت بين 151 و215 دولارا للطن الواحد، وهي أعلى من تلك التي كانت تقدمها «سوكلين» الشركة السابقة التي كانت تتولى معالجة النفايات، وهو الأمر الذي لاقى استياء واعتراضا كبيرين من قبل الحراك والمنظمات البيئية.
وأوضح الزين في حديثه لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «لا نعرف لغاية الآن الهدف من محاولات إفشال التحرك، وعمّا إذا كانت بعض الأحزاب حاولت التوّحد ضدّنا، أم استغلاله من قبل فريق سياسي ضدّ آخر، لكن الأهم بالنسبة إلينا اليوم هو الوقوف سدّا منيعا ضدّ أي محاولات من هذا النوع، وهو ما قمنا به من خلال انسحابنا يوم الأحد الماضي بعد وقوع عشرات الجرحى، للمحافظة على سلمية الحراك وأهدافه وعدم الإحباط».
وأكد: «بعد الذي رأيناه والمشاركة الواسعة غير المسبوقة لا يمكننا التضحية بأي حراك شعبي غير مذهبي وخارج أي اصطفاف»، مضيفا: «عندما يلبي أكثر من 10 آلاف مواطن لبناني من مختلف الأعمار والفئات، بعضهم شارك للمرة الأولى، دعوة عشرات الشباب على عناوين اجتماعية ضدّ الفساد المستشري، فهذه إشارات إيجابية يعوّل عليها كثيرا، وهي دليل على حالة القرف التي أصابت المجتمع الذي لا يزال أنظف من الحياة السياسية الفاقدة لدورها».
ورأى أمين سر حركة التجدد الديمقراطي أنّ نجاح التحرك الذي بدأ بعشرات الأشخاص وتخطى في يومه الأخير العشرة آلاف، يعود إلى عناصر عدّة؛ أهمها أنّ اختيار المواضيع التي انطلق لأجلها كان سليما، خاصة أن موضوع «النفايات» التي تطال الشريحة الأوسع من اللبنانيين هي فضيحة بكل المعايير وتتصل بقضايا الفساد واستغلال الأرباح والتقصير في ظل إدارة حكومة غير فاعلة تمثل كل الطبقة السياسية. لكن هذا الأمر وإن استقطب آلاف اللبنانيين في ساعات قليلة، فإنه لا يكفي إذا افتقد إلى التنظيم والتعامل السليم مع هذا العدد الكبير. وأوضح: «اتّكلوا على الأجهزة الأمنية التي كان يفترض أن تحميهم فعمدت إلى تفريقهم واعتماد العنف ضدّهم باستخدام القنابل المسيلة للدموع، وهو الأمر الذي تبقى أسبابه غير واضحة، وقد تحمل في طياتها (غاية في نفس يعقوب)».
ويرى حداد أنّه «في لبنان حيث الانقسام طائفي عمودي ومرتبط بالخارج، لن يأتي التغيير عبر الثورة، بل عبر الإصلاح»، مؤكدا في الوقت عينه أنّه وإن كان سقف التحركات محدّدا، لكن يجب عدم التقليل من أهميتها، فهي إن نجحت في حل مشكلة النفايات من الناحية الاجتماعية، وكانت فاتحة للضغط على الطبقة السياسية لإخراج الأزمة في لبنان من عنق الزجاجة عبر انتخاب رئيس، فستكون بذلك قد حقّقت خرقين مهمين».
بدوره، يرى الزين أن المشهد في الحراك الشعبي، يعكس صورة واضحة لبدء زعزعة العلاقة بين المواطن والزعيم أو المذهب والطائفة، وأظهر أنه أصبح هناك وعي اجتماعي وسياسي وبراءة في ردّة الفعل تشكّل مجتمعة بداية لمرحلة جديدة في لبنان، مضيفا: «قد لا نحقّق في المدى القريب شيئا في السياسة، لكن إذا نجحنا في وضع حدّ لفساد الطبقة السياسية في قضية النفايات، فهذا انتصار سيفتح الطريق أمام قضايا أخرى اجتماعية قد تكون أهم من إسقاط النظام، ونقطة انطلاق لحركة شعبية واسعة ودور أساسي للمواطن اللبناني».
ولا ينفي الزين، أنّ هناك محاولات من بعض الأحزاب للدخول في الحراك بطريقة أو بأخرى، «إنما التأكيد يبقى أن المشاركة مرحّب بها من الجميع إنّما بعيدا عن أي غطاء سياسي أو دور في الهيئات المنظمة، بل أفرادا ومواطنين».
وقد وضع حداد محاولات «تسييس» التحرك ومواقف الأحزاب منها «في خانة العادة السيئة التي تتمتع بها الأطراف السياسية في لبنان من خلال قطف ثمار السلطة والمعارضة في الوقت عينه، وما إن يكتشفوا التناقض بين الاثنين، حتى يعودوا إلى قواعدهم»، كما يفعل مثلا «التيار الوطني الحر» الذي يرأسه النائب ميشال عون ويتمثل في الحكومة بوزيرين، «من خلال الإفراط بالشعبوية والهروب من المسؤولية في الوقت عينه»، وفق تعبيره.
وكان أسعد ذبيان، أحد منظمي حملة «طلعت ريحتكم»، قد حمل القوى الأمنية مسؤولية الضحايا الذين سقطوا في المظاهرة، مشيرا إلى أن الشغب الذي مارسته عناصر غير منضبطة هو رد فعل ومحاولة معروفة من الطبقة السياسية لمحاولة زرع الانقسام في الحملة وتشويه صورتها بعد نجاحها بحشد الآلاف، مؤكدا أن الطبقة السياسية تنصب فخا للتحرك لإفشاله.
وككل المجموعات ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل ضمن «حراك طلعت ريحكتم»، يشدّد رئيس «الحركة البيئية اللبنانية» بول أبي راشد على أنّ الهمّ الأساسي اليوم هو الوقوف في وجه «مناقصات النفايات» علّ هذا الأمر يفتح الباب أمام قضايا اجتماعية أكبر. وفي حين يأمل أن تمرّ قضية النفايات بعيدا عن التسييس، يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «بتنا اليوم نعوّل أكثر من أي وقت مضى على الشعب اللبناني الذي أثبت خلال مشاركته في التحركات الأخيرة مدى اليأس الذي أصابه من الأحزاب اللبنانية التي لا تكترث لأدنى حقوقه». ولا ينفي أبي راشد أنّ رفع سقف المطالب قد ينعكس سلبا على التحرك، وهو الذي حصل في مظاهرات نهاية الأسبوع الماضي، عازيا السبب إلى حجم المشكلات التي يعيشها المواطن اللبناني الذي وجد في هذه المظاهرات فرصة للتعبير عنها، وأضاف: «إذا طالبنا بكل شيء في سلّة واحدة، فلن نحصل على شيء، وهذا ما نعمل على تصويبه، من خلال رص الصفوف بين المجموعات المشاركة وتحديد الأهداف». وشدّد على أنّ أول الأهداف اليوم هي قضية مناقصات النفايات، التي إذا مرّت وفق المناقصات التي أعلنوا عنها بأسعار خيالية ومحاصصة واضحة في ما بينهم، فستستمر إلى 20 سنة مقبلة.
ورأى أبي راشد أن محاولات تسييس التحرك ومواقف بعض السياسيين «المؤيدة» للمطالب رغم أنهم شركاء في السلطة، هي دليل على حالة من الضياع أصابت الأحزاب عندما رأوا أنّ مناصريهم تخطّوا قراراتهم ونزلوا إلى الشارع مطالبين بحقوقهم. وفي حين تمنى أن تقوم هذه الأحزاب بدورها المفترض لجهة شؤون الناس ومطالبها، أكد «كحركة بيئية ليس هدفنا جذب المناصرين الحزبيين؛ بل قد نصل إلى مرحلة نعمل فيها نحن والأحزاب لأهداف اجتماعية بيئية واحدة».
وللوقوف في وجه أي محاولات للتدخل أو استغلال التحرك من قبل الأحزاب، بدأت المجموعات المشاركة في تنظيمه برصّ صفوفها ووضع خريطة عمل في ما بينها وبالتواصل مع عدد كبير من الناشطين والمواطنين، وفق ما يشير إليه أبي راشد. وهو ما يؤكده الزين، موضحا: «انطلقت حملة (طلعت ريحتكم) بالتحرّك قبل شهر تقريبا بعد بدء أزمة النفايات، ومنذ ذلك الحين، بدأت الدائرة تتوسّع بانضمام كثير من الهيئات والمجموعات الطلابية غير الحزبية، وقد أصبحت خريطة الأهداف تتحدّد أكثر وتنطلق من أزمة النفايات ومحاسبة من أطلقوا الرصاص على المتظاهرين».
مع العلم بأنّه وفي حين لم تكن مواقف الأحزاب المشاركة في السلطة مختلفة في ما بينها لجهة التأكيد على أحقية المطالب الشعبية من جهة، والتحذير من العبث بالأمن والدعوة إلى حل الأزمات السياسية من جهة أخرى، كان ممثلو «الوطني الحر» من الوزراء والنواب يدعون إلى التظاهر، وعلى رأسهم وزيرا الخارجية جبران باسيل والتربية إلياس بو صعب، لكن بعيدا عن أي قرار رسمي بالمشاركة.
وكان لافتا ردود الفعل الواضحة من قبل الناشطين في «طلعت ريحتكم» ضدّ مشاركة أي من المسؤولين في المظاهرة؛ إذ وبعدما دعا وزير التربية المحسوب على «التيار الوطني الحر» للمشاركة في التحرك وحاول الانضمام إلى الاعتصام في وسط بيروت، كان له المتظاهرون بالمرصاد، وهو الأمر الذي حدث مع أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة. ولم يكن الردّ أقل وطأة على وزير الخارجية ووزير الطاقة السابق جبران باسيل، على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما دعا اللبنانيين إلى المشاركة في المظاهرة للمطالبة بحقوقهم من المياه والكهرباء.
من جهته، دعا رئيس حزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في اليوم الثاني للتحرك، مناصريه إلى الانسحاب من المظاهرة بسبب ما وصفه بـ«انحراف التحرك عن مساره الأساسي ودخول بعض القوى السياسية عليه في محاولة لركوب الموجة الشعبية»، وهو ما عزاه البعض إلى علاقة له بمناقصات النفايات، الأمر الذي نفاه أمس، قائلا: «إزاء الحملة الإعلامية العشوائية المستمرة منذ أشهر والمرتكزة إلى تلك الإشاعة المغلوطة التي تقول إنني أبحث عن حصة في مناقصات النفايات، فإنني أجدد التأكيد مرة أخرى أنني لست معنيًا بأي شراكة في هذه المناقصة لا من قريب ولا من بعيد، وإن زج اسمي مرارًا وتكرارًا فيها إنما يهدف للتشويش أمام الرأي العام لا أكثر ولا أقل».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.