لم يتبق من طابعه الديني الذي عرف به في القرن الـ18 غير اسمه كيرتاق (Kirtag) عدا ذلك فهو كرنفال نمساوي شعبي جدا لا يخلو من فرص سياسة ومكاسب اقتصادية في ظل أجواء أسرية مرحة.
الكيرتاق، احتفال تقليدي شهدته «الشرق الأوسط» مع آلاف من سكان العاصمة النمساوية فيينا، طيلة الثلاثة أيام الماضية بمنطقة «نوي اشتيفت ام فالد» بينما تستعد مناطق ومدن أخرى بدورها للاحتفال.
هذا وإن كان الاحتفال قد أقيم بالعاصمة، وفي حي من أرقى أحيائها الثرية، إلا أنه زراعي الطابع حميمي الأجواء.
وتشجيعا لطابعه النمساوي الخالص فالزي الغالب هو «الدرندل والليدرهوزا» والمنتشر بين دول جبال الألب في عدد من مناطق بدول وسط أوروبا.
وعموما فـ«الكيرتاق» هو احتفال صيفي يقام في الهواء الطلق، يوفر من كل أنواع الأطعمة ما يناسب الجميع صغارا وكبارا، متدينين وغيرهم، نباتيين ومن يعشقون اللحوم.
ومما يميزه خصوصيته في كل بلد لحفاظه على ممارسات تقليدية كالتزين بالأزياء الشعبية وتقديم المأكولات البسيطة القديمة التي كان يفضلها المزارع في غدائه وعشائه.
وفي منطقة نوي اشتيفت ام فالد والتي تتميز بزراعة العنب على أساسها تقوم مطاعم موغلة في القدم أثاثها خشبي عتيق، تقدم أشهر أطباقها وهي قطع اللحم التي يبدعون في دقها وفردها وبمهارة عالية يتم تحميرها بعد كسائها وتبهيرها بالملح والفلفل، فقط، ثم تغمس في الدقيق فالبيض المضروب وأخيرا مسحوق الخبز للقرمشة، ويسمونها «فيينا شينتزل».
كذلك تبدع هذه المطاعم في شواء الدجاج يقدم بصحبة أطباق صغيرة من سلطات أهمها سلطة بطاطس وكرنب وخيار. طيلة أيام الكرنفال يتم الشواء في معظمه بشوايات بالفحم التي تعمل بعد تسييجها في الهواء الطلق أمام الحضور وما بينهم بسبب الازدحام الفظيع حيث يتم إغلاق جزء من الشارع الذي يحولونه للمشاة فقط، فيتجولون ويرقصون بينما تنتشر الطاولات والمقاعد في أي حيز وأي بقعة ممكنة.
تواصلت الاحتفالات في هذه المنطقة بالذات طيلة ثلاثة أيام من الخامسة والنصف مساء وحتى ما بعد منتصف الليل لتصفو على الشباب بعد انصراف الأسر والأطفال.
أكثر ما يلفت النظر هو حرص الزوار على ارتداء «الدرندل» للإناث والـ«ليدرهوزا» للذكور وكلاهما زي كان بسيطا يرتديه المزارعون بجبال الألب أثناء الفلاحة ثم وبعد قرون ولأسباب مختلفة أهمها زيادة الإحساس بالذاتية والقومية بالإضافة لهيمنة عالم الموضة تحول الدرندل والليدرهوزا وسادا فأصبحا وكأنهما زي قومي يفتخر به النمساويون صغارا وكبارا ومعظم الشعوب الناطقة باللغة الألمانية أيما فخر. وأكثر ما نال الزيان شهرة عالمية في ميونيخ وإقليم بافاريا انطلاقا من المناسبات العالمية الكبرى التي استضافتها ألمانيا مثل الألعاب الأولمبية 1972 وكأس العالم 2006. ومع تطور صناعة الأزياء لم يعد الدرندل مجرد فستان له وسط ورقبة واسعة وتعلوه مريلة وتحته بلوزة أو صدرية من القماش القطني الخفيف صيفا، والصوفي الثقيل شتاء بل أصبح فستانا راقيا له «ديكولتيه» عريض ومتوسع وبلوزات يزينها الدانيتل. كذلك تنوعت خيارات أقمشته من الحرير والستان ولم يعد طوله مقتصرا لحدود الركبة وإنما هناك ما يناسب أزياء السهرات التي تصل حتى القدم.
بدوره تطور الزي الرجالي من مجرد رداء جلدي بني داكن اللون مع حذاء ثقيل وشراب طويل، إلى مزخرف من جلود حيوانات مختلفة وصناعية والبعض جعلة بنطال طويل تشده «حمالات» تعلو أقمشة ملونة، وهناك ليدرهوزا وصل ثمنها لما يزيد على ألف يورو حالها حال الدرندل.
هذا وللدندرل مميزات أخرى عند الشابات والسيدات الأكبر عمرا إذ يرمز موقع عقدة حزامه للحالة الاجتماعية لصاحبته فإن كانت العقدة يسارا يعني ذلك أنها غير متزوجة ويمينا أنها مرتبطة وبالخلف أرملة أو هكذا يهمس المصممون في آذان زبائنهم حتى لا تحسب أن الأمر عفوي كما كان أيام الجدات والبساطة، كما شرحت لـ«الشرق الأوسط» المرشدة السياحية اريانا.
وكما لهذه المهرجانات أطعمة خاصة كذلك لها حلوياتها التي يتفنون في صنعها وأكثرها انتشارا تلك التي تخبز على هيئة قلب قوامها القرفة والزنجبيل يزينونها بعبارات حب وغرام، يربطونها على أشرطة ويلبسونها كعقود.
هذا وتتسيد فرق الموسيقى النحاسية والأغاني الفلكلورية المسارح على طول الشارع بينما تنتشر ألعاب الأطفال والمراجيح.
ومع العولمة ظهرت جنسيات أخرى تطرح منتجاتها: وللمرة الأولى تلحظ «الشرق الأوسط» موقع لبيع أناتيك ومنحوتات أفريقية، كما لم يضيع شبان آسيويون الفرصة فعرضوا الكثير من النظارات الشمسية والألعاب وحتى أدوات تجميل.
وإن غاب رجال الدين بملابسهم السوداء الطويلة فلم تفوت وجوه سياسية معروفة هكذا مناسبة جماهيرية خاصة وأن إقليم فيينا يستعد لانتخابات إقليمية مطلع أكتوبر (تشرين الأول) القادم.
وفي واقع الأمر وقبل أن تخطو أقدام الزائر، أيا كان عمره، موضع الاحتفال إلا وتستقبله ترابيزات وطاولات تفيض بدعايات حزبية، ولكل حزب وروده وحلوياته وأقلام وولاعات بالإضافة لمنفاخ هوائي لشحن بالونات بلون الحزب كالأحمر للحزب الاشتراكي الديمقراطي، والأصفر لحزب الشعب المحافظ، والأزرق لحزب الحرية اليميني العنصري أثناء عبورنا لداخل أرض الاحتفال، حظينا بابتسامات مرحبة كما نلنا بالونات من الحزب الاشتراكي ومن حزب الشعب، بينما تعمدنا أن نبطئ الحركة بالقرب من حزب الحرية اليميني العنصري، وكما توقعنا لم نحظ حتى بالتفاتة ناهيك ببالونة أو وردة.
وذلك سلوك ليس غريبا على أعضاء حزب الحرية ونشطائه ممن تؤلمهم لدرجة مخيفة رؤية أجانب يتمتعون بخيرات النمسا ويستمتعون بجمالها. وفي هذا السياق يجاهر زعيم الحزب، هانز كرستيان اشتراخا، الذي حقق خلال الانتخابات السابقة فوزا ساحقا بضرورة الحفاظ على النمسا للنمساويين، داعيا لإغلاقها أمام الأجانب بما في ذلك الأوروبيين ممن تشاركهم النمسا الجوار وعضوية الاتحاد الأوروبي الذي يكرهه ويعارض سياساته خصوصا تلك الداعية مع تفاقم أزمة اللاجئين أخيرا لتوزيعهم على الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي، ومن بينها النمسا، ككوتات مئوية تناسب نسبة سكان كل بلد.
كرنفال «الكيرتاق» في النمسا.. شواء ومرح وسياسة
الدعايات الانتخابية تتنافس مع الموسيقى النحاسية والأغاني الفولكلورية لجذب الزوار
كرنفال «الكيرتاق» في النمسا.. شواء ومرح وسياسة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة