«داعش» لا يخطئ في الترجمة

صعود المقاتلين الغربيين بشكل غير مسبوق حوّر السؤال من «لماذا يكرهوننا؟} إلى {كيف جندوا شبابنا؟»

«داعش» لا يخطئ في الترجمة
TT

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

قدرة تنظيم داعش المتطرف على تجنيد الأعضاء باتت هاجسًا للدوائر الأمنية والسياسية في العالم. ومما يقلق هذه الدوائر تطور الخطاب التواصلي الجاذب الذي يستخدمه التنظيم لترويج نفسه وتسويق نشاطه، وتنوعه تبعًا لكل بيئة يستهدفها. وكذلك الإمكانيات التقنية والمالية التي تتيح له الإطلالة على كل البيئات التي يأنس فيها وجود أرضية واعدة لكسب المناصرين والأعضاء، وبين هؤلاء أبناء الجيلين الثاني والثالث في الدول الغربية من الذين يواجهون مشكلات مع الاندماج، أو خاب أملهم بالثقافة الغربية التي يعيشون.
«أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدًا»، ربما هذا ما يتردد في نفوس الكثير من الباحثين الغربيين ومراكز الدراسات المتخصصة في معالجة الإرهاب. إذ بدأ الجميع يغيّر حقيبته المملوءة بـ«الصور النمطية» عن الإرهابي والانتحاري، المكتئب، القليل التعليم، الخارج عن سياقه المجتمعي بسبب مشكلات البطالة والعنف وقبضة السلطة.
لكن مشكلة الإرهاب أنه يتطوّر بشكل متسارع ومذهل يفوق الكثير من حملات محاربته ومناشط مكافحته، فهو إن جاء متأخرا يكون قد ازداد قوة وصلابة ووحشية، وكذلك قدرة على تجاوز كل العقبات الأمنية والعسكرية، وهو ما بات ظاهرة تطفح بها عبارات الحسرة على لسان العائلات التي فقدت ذويها لصالح تنظيم داعش ودون أي مقدمات.
فرنسي عجوز طاعن في السن يبكي شقيقته وابنها اللذين كانا في طريقهما لقضاء إجازة في تركيا إلا أنهما بسبب تأثير خطاب «داعش» الاستقطابي وصلا أخيرًا إلى سوريا. وهو ما يفتح السؤال كيف يغادر شبّان صغار ليس لهم حظ من التديّن في بلدانهم ليعودوا إرهابيين تعرضوا لأقصى أنواع غسيل الدماغي والتغيير المفاهيمي بسبب بيئة التطرف والعنف التي عاشوا فيها؟
كيف وقع هؤلاء فريسة للتجنيد على أساس «الهويّة».. في حين ضاقت بهم هويّاتهم الأصلية التي تتعرّض في كل العالم إلى أزمات خانقة وتحديات كبيرة؟
بول كروكشانك، أحد محللي الإرهاب البارزين - وهو بريطاني مقيم في نيويورك - يذهب إلى أن «داعش» نجح في خلق صورة نمطية سهلة وجاذبة بسبب غفلة الدول المتضرّرة منها بالصراع على القضايا الإقليمية، مما أسهم في انتعاش التنظيم وقدرته على التجنيد، فهم عبر أفلامهم ومنتجاتهم الإعلامية الموجه للغرب يقدمون جانبًا من حياة محافظة وسلهة وبسيطة توحي بالألفة والروح المعنوية العالية، ومظاهر البطولة والتحدي والانتصار كجزء من «احترام الذات» الذي يفتقده الإنسان المعاصر المشغول حتى أخمص قدميه بملاحقة إيقاع الحياة السريع.
ويرى ماثيو أولسن، مدير المركز القومي لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة، في هذه الصورة النمطية المريحة أعظم آلة دعاية أنتجتها المنظمات الإرهابية منذ نشأتها، فهي تنجح في جعل الغربيين يتخلّون عن حياتهم الوادعة للسفر إلى مناطق التوتر والدماء المسالة بحثًا عن هدف مختلف أقرب ما يكون إلى محاولة إحداث الفرق في معادلات الموت والحياة والانتماء والشعور بالواجب.
ويؤكد محللو الخطاب الإعلامي الداعشي أن «داعش» أكثر خبرة وأعلى كعبًا على مستوى الإنتاج الإعلامي من كل التجارب السابقة، بل ومن قدرة عدد من الدول التي تحاول كبح جماح دعاية التنظيم المتطرّف على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو لا يهدف فقط إلى تغيير كل المفاهيم بشأن دور الدين في حياة الإنسان أو تداخل العمل السياسي والمسلح مع مفهوم الانتماء للإسلام كدين متسامح، بل على العكس تمامًا، فإن خطابات «داعش» الموجهة لكوادره الغربيين تقوم بإرساء قواعد منهجية لاستقطاب كوادر نوعية مؤهلة على المستوى العسكري والإعلامي. وبالتالي فإنه يكفي لنقل إيمانهم بالتنظيم وولائهم المطلق أن تظهر لقطة فيديو تبدو عفوية يحرق فيها شبّان غربيون تشربوا حياة «داعش» جوازات سفرهم والابتسامة تعلو وجوههم. هذه الصورة التي يراد أن تستقر في الأذهان من شأنها محو كل الصور السلبية التي يكافح التنظيم بشكل عكسي لمحاربتها.
محللون آخرون يرون أن قدرة «داعش» على جذب الآلاف الغربيين على الرغم من انتشار مقاطع «حزّ الرؤوس» وسحل الأجساد في الشوارع، والتفنن في التعذيب مع التقاط صور «السيلفي» (الذاتية) يعني أننا أمام انهيار منظومة قيم أساسية، وأن «داعش» استغل ذلك لتظهر بشكل حازم غير مهادن لأعدائه بأكثر مما يعكسه الواقع الحقيقي على الأرض. هذا الحزم يجعله أيضًا أكثر جاذبية للمقاتلين الأجانب الذين يطمحون في بناء شخصية قتالية مستقلة ومؤثرة، فهؤلاء لا يحضرون لمجرد المشاركة أو الاندفاع العاطفي بقدر محاولة تغيير المعادلات على الأرض.
اللافت في تتبع سياق تجنيد «داعش» للمقاتلين الغربيين هو نوعية أولئك المقاتلين الذين لم يسبق لهم تجارب تديّن أو المرور عبر وساطة إحدى المجموعات المعتدلة أو المراكز الإسلامية التي تعاني من عبء «الإسلاموفوبيا» مع تقلّص دورها في إنتاج شخصيات متدينة قد تتبنى أفكارا راديكالية. وأن مسيرة التطور في شخصية الإرهابي التقليدية من متشدّد فكريًا إلى متعاطف مع العنف إلى ممارس له.. لا مكان لها في سيرة حياة المقاتل الغربي الذي قد لا يكون أمضى وقتًا طويلاً في الإسلام. وغالبهم كما يؤكد الخبير ماثيو غودير في بحثه الذي شمل طلابا في جامعة تولوز الفرنسية ممن انضموا أو تعاطفوا مع «داعش» جلهم من المثاليين المحبطين ومن الثوار المناهضين للرأسمالية والحكومات.
20 ألف مقاتل من الأجانب تأكد التحاقهم بصفوف «داعش» في سوريا والعراق، علما أن هناك تقارير تتحدث عن أرقام أكبر. واللافت في الأمر أن هؤلاء الأجانب ليسوا من المهاجرين، بل من الجيلين الثاني والثالث، ولقد ولدوا في أراضي الغرب وتشربوا مبادئ التعليم والهويّة والثقافة الغربية، لكن فشل الاندماج ومشكلات مجتمعية ضخمة ما كانت عوامل كافية لانتقال هؤلاء إلى مربع «داعش» لولا نجاح خطاب التنظيم في تغيير الهويّة المركبة عندهم وتفتيتها لهويّات صغيرة وبسيطة، وربما ساذجة، في تصورها عن الإسلام. وكما يؤكد بعض القادة المحللين لـ«داعش» في تفسيرهم لهذا التدفق الغربي الهائل في حواره مع الـ«سي إن إن» أنهم فقط يكرهون بلدانهم ويريدون تجربة الفرق، ونحن نمنحهم ذلك.
والحال أن «داعش» لا يخطئ في الترجمة، فهو استفاد جدًا من تاريخ ودعايات الجماعات العنفية غير الإسلامية التي تنشط في الغرب. ولذا يرى كثير من الخبراء أوجه شبه بين تلك التنظيمات المتطرفة غير الدينية وبين تجربة «داعش»، لا سيما فيما يخص خصائص وملامح المقاتلين الأجانب. فهناك ذات الأسلوب والجرأة وقلة الاكتراث ببشاعة الوحشية تشبه إلى حد ما أسلوب «الألوية الحمراء» الإيطالية أو «الجيش الأحمر» - الفصيل الدموي الذي نشط في ألمانيا الغربية - هذا بالإضافة إلى استخدام اليوتيوبيا (أو المثالية) الشيوعية ولكن بمضامين دينية تلائم البيئة الداعشية التي يتم ترويجها للأجانب. إن الموقف من توحّش رأسمالية الغرب كان الدافع الأساس لمخاطبة الجمهور الغربي الحانق، كما يؤكد توماس هيغاهمر، الباحث النرويجي الذي درس الإرهاب المشرقي، ويعود الآن بأدواته المنهجية لمقارنته بالإرهاب الغربي.
وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من مقاتلي «داعش» من الغربيين الذين ليس لديهم أي أصول عربية أو إسلامية هم متحولون من المسيحية، وهؤلاء يشكلون نسبة لا بأس بها من مجموعات المقاتلين الآتين من دول أوروبية، تقف على رأسها فرنسا التي تحتل المركز الأول في تصدير المقاتلين لـ«داعش».
نسبة المتحولين، مثل السيد إمدي، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من الجاليات المسلمة في أوروبا، وهم يشكلون نحو ربع المقاتلين الأجانب من فرنسا. وبإزاء المتحولين دينيًا هناك المتحولون على مستوى الاهتمامات، إذ نلحظ ظاهرة «مغني الراب» وممارسي الرياضات العنيفة، إضافة إلى شخصيات ناجحة وظيفيًا في مجالات الإعلام الجديد وصناعة الترفيه. كل هذه المجالات يترك «داعشيوها» عالمها المليء بالألوان ليختاروا الانغماس بلون الدم هربًا من لسعات الروح القلقة الباحثة عن المختلف..كنوع من اضطراب قضايا الهويّة والانتماء التي يشكو منها إنسان اليوم.
ولكن، «داعش» بدوره يزيد من جرعات الإحساس بالعدمية والنقمة على الرأسمالية المتوحشة في خطابه باللغات الأجنبية. فالمستمع لا يجد هنا أي حديث عن «الحور العين» أو «الخلافة المسلوبة» بل يجري استثمار الغضب العام في الأوساط الغربية من إيقاع الحياة عبر الحديث عن «عبودية الوظيفة» و«الرأسمالية المتوحشة» و«الغرب المعادي للإنسان» و«العودة إلى الجذور».. إلخ.
ثم إن الخطاب المكتوب عادة ما يشفعه إعلام مرئي ذو جودة عالية تلائم الشباب الباحث عن المغامرة في الحياة وما أكثرهم. وهم كما يقول أحد المقاتلين «يريدون فعل شيء استثنائيا ومختلفا ومغامرا». وهو ما يتجلى في دعايات «داعش» على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعتبر ملعب التنظيم الأول، إذ توجد أفلام مترجمة إلى كل اللغات الحيّة وأناشيد بلغات نادرة أو خاصة بفئة معينة، ولعل أنشودة «تعال لنا يا صديقي» باللغة الأويغورية التي تنتشر في غرب الصين (إقليم سنكيانغ، أو تركستان الشرقية) دليل على النهم الداعشي لابتلاع أكبر قدر من المجندين الأجانب من كل مكان، وهي جهود تنوء بحملها الكثير من الجماعات الإسلامية المعتدلة أو المتشددة. كما أن هذا يطرح السؤال عن البديل في ظل هذا التضخم الداعشي على مستوى المنتجات والخطاب، وإن كان تراجعهم ملموسًا على مستوى مناطق التوتر المحرّرة حيث بدأ يضيق الخناق على التنظيم.
إن المنتجات الإعلامية الداعشية مخدومة على مستوى الانتشار والحماية، فهناك العشرات من «المواقع الصديقة» التي تقدم مواد «داعش» مجانًا بصيغ مختلفة وبلغات كثيرة، منها الحيّة ومنها اللغات المحلية لشعوب الهند وشرق آسيا والصين، وصولاً إلى دول أفريقية كثيرة صارت تعاني من تمدد دعاية التنظيم.
الأكاديمية الوطنية للعلوم ومقرها في الولايات المتحدة (PNAS) قامت بصكّ مصطلح للتعبير عن تمدد «داعش» والجماعات الإرهابية بفضل منتجات إعلامية صغيرة وتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي هو «فيتموريسك femtorisk». المصطلح يعني تضخم ظواهر صغيرة عددًا وعدة على ممارسة تأثير ضخم وكبير في العالم، وهو ما حصل للتنظيم بعدما عاد إلى الأضواء في خضم الدعاية ضده وضد وحشيته ليحصد الآلاف من الأنصار. وهو هنا يعتبر خيارًا مثاليًا لتمدّد التأثير المعنوي مع محدودية القوة العددية. إنه بالضبط، كما يقول خبير إعلامي مهتم بظاهرة الإعلام التحريضي، إن «تستطيع جماعة ما الحضور الإعلامي المكثف وتصدر شاشات التلفزيون والأخبار، أي ألا تمر 24 ساعة دون أن يمر ذكر (داعش)، هذا هو النجاح الإعلامي بغض النظر عن التقدم على الأرض».



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.