جاءت إشارات الملك سلمان بن عبد العزيز، في حديثه يوم الثلاثاء الماضي، حول أن الجميع أمام القضاء سواسية في الادعاء بالحق والمطالبة به، وأنه وولي عهده وجميع أفراد الأسرة المالكة خاضعون للقضاء الشرعي وللجلوس أمام القضاء مع أي مدّعٍ بحق علينا.. جاءت هذه الإشارات لتؤكد أن الجميع أمام القضاء سواسية، وهناك شواهد كثيرة على ذلك، لعل أبرزها ما أشار إليه الشيخ عبد الله المنيع، عضو هيئة كبار العلماء، من أن القضاء السعودي حكم ضد ملوك وأمراء، وذلك في تعليقه على ما ذكره الملك سلمان بن عبد العزيز، إذ لمح الشيخ لعدد من الوقائع التي تؤكد نزاهة القضاء ومساواته وأن جميع شرائح المجتمع بما فيهم قيادات الدولة من ملوك وأمراء يخضعون للقضاء الشرعي ويلزمون بأحكامه، موردًا وقائع كان شاهدًا عليها خلال عمله في السلك القضائي، منها حادثتان كان طرفاها الملك فهد بن عبد العزيز، والملك عبد الله بن عبد العزيز (رحمهما الله)، إذ حكم القضاء ضدهما في قضيتين أقامهما مواطن ومواطنة، وكسب الأخيران القضية والتزم الملكان بهما.
وجاءت هذه الوقائع لتعيد واقع القضاء السعودي، الذي يعد الأوفر حظًا في جميع الدوائر الحكومية التي حظيت بعناية الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن (رحمه الله) شخصيًا، تقديرًا منه لأهمية القضاء، في حفظ كيان الدولة وإحقاق الحق وتحقيق النزاهة ونشر العدل.
واستطاع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بعد دخوله الحجاز توحيد مصادر الأحكام وتطوير الجهاز القضائي في أشكاله الأولية البسيطة الموروثة من الدولة السابقة إلى صوره المتعددة والمتداخلة التي اقتضتها ضرورة الحياة الحديثة المعقدة والمتشابكة، على الرغم من أن هناك اختلافًا واضحًا بين الأجزاء التي تكونت منها المملكة من حيث مصادر الأحكام وأنظمة القضاء وتنظيمه، وذلك لأن الكيان الذي شيده الملك المؤسس ديني المنشأ والتوجيه فجعل للشريعة مكانًا سامقًا متميزًا في تنظيماته، إذ أكد الملك عبد العزيز ذلك بقوله وفقًا لما نشرته جريدة «أم القرى» في عددها 1320، الذي صدر في 13 يوليو (تموز) 1950 «... دستوري وقانوني ونظامي وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم».
واعتبر العقيد الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي في كتابه «تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز» الذي أنجزه قبل 22 عامًا أن هناك عاملاً آخر دفع الملك عبد العزيز إلى الاهتمام بالقضاء وتنظيماته، ذلك العامل هو أن الملك كان ينظر إلى إشاعة العدل كأساس للاستقرار في ربوع دولته ولحفظ كيانها، فالعدل في مفهومه هو القائم على تحكيم الشريعة في جميع مظاهرها وإخضاع أنظمة الدولة لها.
ولفت العتيبي إلى حرص الملك المؤسس على استقلال القضاء وإبعاده عن المتناقضات الإدارية التي تعارض غالبًا كل تنظيم جديد. فكان من أوائل الإجراءات الإدارية التي أمر باتخاذها بعد أن دخل مكة المكرمة التحذير من التدخل في شؤون القضاء، داعيًا إلى إعطاء المتخاصمين فرصة المرافعة الشرعية أمام القضاء، وأن يترك للقاضي حرية إصدار الحكم حسب ما يظهر له من الحق، كما أن التعليمات المؤقتة للمحاكم التي صدرت عام 1925 حذرت من اتهام القضاة بالرشوة افتراء، وهذا ما يؤكد حرص الملك عبد العزيز على إصلاح حال القضاء.
وفي إطار حرصه على نزاهة القضاء وضمان العدل والتيسير على الرعية والحد من تعصب قضاة كل مذهب لمذهبهم، والانفتاح على المذاهب الفقهية الأخرى، حث الملك المؤسس على الأخذ من كل مذهب بما هو أصلح وأوفق لحال المحاكم الشرعية، وبعد مضي سنة على التنظيم الجديد للمحاكم والدوائر الشرعية، صدر أمر ملكي ينص على أن مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبق على المفتى به من مذهب الأمام أحمد بن حنبل، مبررًا ذلك بسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين من بعده، مستدركًا: «أما إذا وجد مشقة في تطبيق الحكم عن المذهب الحنبلي أو مخالفة المصلحة العامة، نظر في المذاهب الأخرى».
وفي بداية حكمه وبهدف تحقيق هيبة القضاء واحترام أحكامهم، وجّه الملك المؤسس السلطة التنفيذية المتمثلة في أمير المدينة بأن تتولى تنفيذ الأحكام الصادرة من القضاء بصورة سريعة وفعالة أشعرت الناس بقوة الحكم. ولم يلغ ذلك حق طلب إحالة المتخاصمين إلى قاضٍ آخر في حالة عدم قناعتهم بالحكم الصادر، بل إن الملك المؤسس إذا حرر أحد القضاة حكمًا تطلب الأمر تصديقه فإن الملك يقره ويصدر عليه ويأمر بإنفاذه، وكان - رحمه الله - لا يعترض على ما يأمر به القاضي ويتشدد أحيانًا في تنفيذ الأحكام، ليس رغبة منه في العقاب ولكن ليزيد من هيبة الشرع، وليثبّت سلطان الدولة في نفوس الناس، ومع ذلك لم يخرج عن صلاحية الحاكم المسلم.
وأحدث الملك عبد العزيز تنظيمات للإدارة القضائية وإنشاء دوائر تشرف على شؤون القضاء عبر مراحل من خلال إقراره إنشاء رئاسة القضاء لتكون الدائرة صاحبة الرقابة التامة على الدوائر الشرعية والهيئات الدينية، بالإضافة إلى التوسع في الدوائر التابعة لها، مثل هيئة التدقيقات الشرعية والتفتيش القضائي والادعاء العام وبيوت المال والمحاكم الشرعية الكبرى ومحاكم الملحقات والمحاكم المستعجلة والمحاكم المؤقتة ومجالس العرف وكتابات العدل والمحاكم الإدارية مثل المجلس التجاري ومحاكم الجمارك الإدارية وديوان المحاكمات العسكرية والمجلس التأديبي في الأمن العام، ويضاف إليها الهيئات الدينية مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطاوعة والوعاظ.
وأدرك الملك عبد العزيز أن قوام العدل يتم في وجود القضاء الصالح النزيه، فأَولى موضوع اختيار القضاة اهتمامًا خاصًا فكان يختار من أعف العلماء وأصلحهم ويحيطهم برعايته، فجعل تعيينهم وفصلهم ونقلهم متعلقًا به شخصيًا، ولم يسمح لأحد من أسرته أو كبار المسؤولين في دولته التدخل في شؤونهم أو في شؤون القضاء، وخير ما يصور رعاية الملك عبد العزيز للقضاة، هو تصنيفهم في السلم الوظيفي لموظفي الدولة، إذ كان القضاة عندما صدرت التعليمات المؤقتة لمعالجة أوضاع الموظفين عام 1926، ضمن المجموعة الأولى التي سميت أركان الدولة، إذ كان القضاة ضمن المجموعة الأولى التي يعينها الملك شخصيًا، وثبت وضعهم في أول نظام صدر للموظفين عام 1931، ولما أعيد تصنيف الموظفين عام 1944 إلى إحدى عشرة مرتبة، أصبح رئيس القضاة في المرتبة الممتازة، وباقي القضاة ضمن مجموعة المرتبة الثالثة، ولم يتغير هذا السلم الوظيفي للقضاء عندما عدل سلم الوظائف عام 1953.
وكانت مرتبات القضاة الشهرية عالية إذا قيست بغيرهم من الموظفين، فمثلا كان راتب قاضي الأحساء عام 1940 ألفًا وستمائة وخمسين قرشًا، بينما راتب مدير المعارف في المقاطعة في ذات الفترة ألف وخمسمائة قرش، وهذا يوضح توجه الملك عبد العزيز إلى المحافظة على سمعة القضاء وحصانته، ولذلك لم تخفض مرتبات القضاة عندما خفض ثلث مرتبات موظفي الدولة كجزء من خطة تقليل الإنفاق الحكومي لمواجهة آثار الأزمة العالمية التي تأثرت به البلاد بسبب الحرب العالمية الثانية، وفي هذا الصدد تشير إحدى الرسائل المنشورة لرئيس الديوان في ذلك الوقت والموجهة إلى النائب العام: «... أما ما يتعلق بإنقاص راتب قاضٍ.. فإن جلالته (يقصد الملك عبد العزيز) لا يوافق على ذلك، وأن الذي أشار بالتنقيص يعتبر غاشًا للحكومة»، كما حرص الملك المؤسس على عدم تأخر صرف مرتبات القضاة، وكان يخصص لهم عوائد سنوية علاوة على مرتباتهم ويعفيهم من بعض الرسوم التي كانت تؤخذ على موظفي الدولة، وكان عزل القضاة من صلاحيات الملك، وكل هذا أعطى القضاة إحساسًا بالأمان على مستقبلهم الوظيفي، وأشعرهم بحريتهم في العمل القضائي.
وشهد النظام القضائي في عهد ملوك الدولة السعودية الحديثة، سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله (رحمهم الله)، وعهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تطورًا من خلال إقرار تنظيمات وقرارات تتعلق بهذا القطاع دون الإخلال بالقواعد الشرعية التي ساهمت وتساهم في تحقيق النزاهة والعدل وضمان استقلالية القضاء دون تدخل من أحد.
القضاء السعودي.. حفظ كيان الدولة ونشر العدل
محطات لافتة لتطويره.. من عبد العزيز إلى سلمان
القضاء السعودي.. حفظ كيان الدولة ونشر العدل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة